عرفت القاص الأديب المرحوم محمد الفشتالي منذ أن وعيت طفولتي المتأخرة ...جمعنا فضاء يمزج بين التل والهضبة و الجبل.... بين الريف و الأطلس…. بين حوضي ملوية و إيناون مفصل من المغرب العميق ... هو مجال مدينة تازة بالطبع ، التي لم تر فيها الاستوغرافيا الرسمية سوى ممر للقوافل والجيوش ومواكب الحجيج رغم الأيدي التي بنت الجوامع والأنامل التي خطت القواعد والأقلام التي سطرت المراسيم والأصول والفروع ....تذوفنا نفس المياه المنسابة من عين راس الماء والجمار والتغزاز والنبق والخروب واللفت المحفور ودوائر الحاج ادريس ....تنسمنا نفس الهواء المنذور للهبات والمغارات والثورات والملاحم والحركات والمحلات من كل نوع ولون ...لكني لم أتعرف على الفقيد محمد الفشتالي عن قرب إلا مع بداية التسعينيات من القرن الماضي وذلك ضمن البرامج الثقافية والفعاليات الفنية التي شهدتها تازة خلال هذه الفترة المتألقة نسبيا وخاصة عبرمهرجان الشعروالأغنية ( ظلت لسنوات تنظمه الجماعة الحضرية لتازة ) وفي تلك الفعاليات كنت صحبة الفقيد الفشتالي ننسق بين الشعراء والفنانين القادمين من مختلف ربوع الوطن ونقوم بالتغطيات الإعلامية أو المواكبات النقدية التي ظلت تنشرها الصحافة الوطنية وخاصة الملاحق الثقافية للعلم والاتحاد الاشتراكي ثم بيان اليوم والمنعطف ....
المحطة الثانية تمثلت في مجلة " البوابة " ( أصدرتها مؤسسة الأعمال الاجتماعية لوزارة التربية الوطنية بتازة ) من خلال عددها اليتيم ومشروع عددها الثاني المجهض بسبب انتهازية البعض ولهاثه.... التجربة مع ذلك كانت مفيدة لنا جميعا ...وأذكر أن الفقيد الفشتالي ظل طيلة أسابيع الإعداد للمجلة ( ربيع 1996 ) يصحح دائما قواعد اللغة العربية إملاء وصرفا وتركيبا ويحرص عليها في كل النصوص التي وردت على المجلة ولا يوازي هذا الحرص على سلامة اللغة سوى دماثة خلقه وتمثله للضمير المهني في عمله الوظيفي بضواحي تازة كأستاذ أولا ومدير التعليم الابتدائي ثانيا .... ومع الأسف ، لم يكتب لتلك التجربة الاستمرار والتألق بسبب حسابات ضيقة لا مجال لذكرها....لأنها ببساطة – أي الحسابات - سخيفة ومنحطة .
التأمنا بعد ذلك في إطار جمعية ألف ليلة وليلة للثقافة والفن بتازة والتي قدمت العديد من الأنشطة الثقافية والإبداعية في المدينة كان يحضرها ويساهم فيها جمهور عريض من المثقفين والفنانين وعموم المهتمين والمهتمات ( يوم أن كانت للثقافة المنبرية بعض الحيز المحترم والوازن وقبل أن يعم المسخ البشر والحجر ) وامتد نشاطها إلى المدن المجاورة خاصة مدينة فاس....العاصمة العلمية وكانت مجالس الأربعاء التي نظمتها المندوبية الإقليمية لوزارة الثقافة مع جمعية الأعمال الاجتماعية في إطار برنامج شهر رمضان 1417 / 22 يناير1997 محطة للتواصل الثقافي الرفيع تحت شعار " فضاء تازة دعوة للكتابة والإبداع " شارك فيها الفقيد بقراءة قصصية ممتعة تمتح من شخوص المكان ووشوم الزمن الغشوم ...وأذكر أن الراحل السي محمد الفشتالي كان هوأول من تكلف بالتواصل مع شيخ القصة القصيرة المغربية العم أحمد بوزفورمتعه الله بالصحة والعافية وطول العمر ودوام العطاء فهاتف وحدد اللقاءات والمواعيد ونسق واتصل وتفاعل واجتهد ، قبل أن تتعمق صلاتنا بصاحب " النظر في الوجه العزيز" وكانت مناسبة للسي احمد قصد تجديد الأواصر بمسقط رأسه ومنبت غرسه ( البرانس إقليم تازة ) وبأريحيته اللطيفة المعهودة تجدد اللقاء بالأحبة...السنون تلوى السنون بمناسبة وبغير مناسبة وذلك بفضل مبادرات الفقيد الفشتالي رحمه الله حتى أصبح السي احمد بوزفوربمثابة أيقونة تازية للحكي الجميل والتواصل الدافئ مع الأحبة ...
حضر السي محمد الفشتالي رحمه الله كل الأنشطة التي نظمتها الجمعيات الثقافية وساهم في أغلبها ولا استطيع بكل تواضع تعدادها لتنوعها وكثرتها وبقي مخلصا دوما للقصة القصيرة فلم يكتب في النقد إلا شذرات قليلة ، وقد صدرت له مجموعتان قصصيتان : " قطار المدينة "في 85 صفحة من القطع المتوسط صدرت عن منشورات وزارة الثقافة سنة 2005 واشتملت المجموعة على 11 نصا قصصيا قصيرا تنوعت مضامينها وتقنياتها الفنية ، أما المجموعة القصصية الثانية فقد عنونها الراحل العزيز ب" ذاكرة الأسامي " عن دار روافد للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 2015 ( قد أعود إليها في قراءة نقدية إذا سنحت الظروف بحول الله ) وضمت من جهتها ثلاثة عشر نصا قصصيا قصيرا كنت قد اقترحت عليه سنة 2009 أن يلقي عرضا حول تجربته القصصية ما لها وما عليها بإحدى الثانويات الكبرى بتازة والتي كنت أزاول فيها التدريس للسنة الثانية بكالوريا أدبي فقبل بكل سروركما أن التلاميذ تجاوبوا معه بكيفية خلاقة تلقائية وكان منطلقنا نصه القصصي الجميل زمن الحلقة....طبعا كان العرض محكوما بطابعه البيداغوجي الديداكتيكي إضافة إلى الخصوصيات الجمالية ونوعية التجربة القصصية ومن هنا يبدو جليا عشق الفقيد الفشتالي لجنس القصة القصيرة وإخلاصه له ، وهو في ذلك يتميز عنا جميعا.... فمنا من نوع بين الشعر والقصة ومنا من خذله الوقت المقيت فلاذ بالصمت في انتظار الرحيل ومنا من هجر الشعر ووقف على الأعتاب وباع الذمة مقابل بقشيش بعض السادة ومنا من تاب وأناب ومنا من ارتحل من الرواية والنقد الأدبي إلى التاريخ بسبب القحط الذي تعاني منه المنطقة رغم غناها الرمزي والثقافي وتنوع عطائها التاريخي والطبيعي....ومنا كذلك من التحق بدار البقاء كالناقد محمد المعادي والشاعر محمد زريويل رحمهما الله ، وعلى ذكر هذا الأخير فقد قام الراحل الفشتالي بجمع نصوص ومواكبات نقدية أوإضاءات عاشقة لتجارب تشكيلية سطرها صديقنا الشاعر المرحوم زريويل وجمعها أخونا الفقيد الفشتالي في كتاب جميل بمناسبة الذكرى الأربعينية لرحيل محمد زريويل وخصص كل ريعه لفائدة عائلة الفقيدالشاعر محمد زريويل ....
لم ينسق السي محمد الفشتالي مع الصراعات الصغيرة والحسابات البائسة الضيقة والمناورات الدنيئة فيما يمكن وصفه بهندسة الشر.... تلك التي تعج بها المقاهي والمنتديات " الثقافية " ورغم أن الشرخ قد تعمق في فرع لمنظمة ثقافية وطنية مما دفعني إلى الانسحاب وترك الجمل بما حمل ، فقد ظل السي محمد مخلصا لكل أصدقائه ....كان لقائي الأخير به في زوال يوم خريفي ( 15 فبراير 2015 ) ...أوقف سيارته بهدوء ولما كنت دائما ممن يحثون الخطى ، فلم أنتبه إليه ( عن غير قصد ) وسط زحمة الشارع فما كان منه إلا أن ناداني ...تعانقنا واعتقد هو من جانبه أن الشرخ قد امتد إلى علاقتي به ....الشيء الذي لم يكن صحيحا بالطبع وإنما هي الأيام الخشنة الملعونة وفتن الدنيا فقط ...مد لي نسخة من مجموعته القصصية " ذاكرة الأسامي " هنأته بحرارة طفولية وقدمت له بدوري نسخة من كتابي الذي يعكس تنقلا من مجال معرفي إلى آخر لا يقل تشعبا وتعقيدا ذلك هو مؤلفي " تازة بين القرنين 15 و20 م " تعانقنا من جديد.... أخيرا نبس قائلا بتهيبه الرصين " راه يا أخي كي البارح كيف اليوم " أجبته ببساطة موضوعية " ما في ذلك من شك السي محمد " ثم افترقنا و.....كان آخر لقاء بيننا ...رحمه الله ، فقد رحل قبل الأوان .