كان الوقت قد تجاوز الظهر قليلا، والشمس تلفح بلهيبها القائظ كل من وما يدب
على الأرض. حتى في الظل كان وطء الحر شديدا خصوصا في هذا الوقت من الأيام الأولى
للصيف
حيث تطبق الرطوبة المفرطة على كل من سولت له نفسه التواجد خارج الفضاءات المكيفة.
الشوارع فارغة في هذا الوقت وهذا المناخ من المشاة إلا من بعض الآسيويين الذين
لا يثنيهم مثل هذا الحر الخانق عن إتمام مشاويرهم مشيا على الأقدام أو على دراجات هوائية.
بعض السيارات العابرة كانت تقطع بين الفينة والأخرى الصمت العميق الذي يلف هذا الشارع
الخلفي في أحد أحياء أبوظبي. أغلب الناس تعودوا على القيلولة في هذه الساعة تفاديا
للخروج، وحتى الذين لا يقيلون تتبلد أحاسيسهم مباشرة بعد انتهاء الدوام وتناول الغذاء،
ما عدا من يشتغلون إلى ما بعد العصر في شركات خاصة.
ركنت سيارتي في الموقف المخصص لمكتب البريد والإرساليات السريعة، ودلفت بسرعة
إلى الداخل. لم يكن هناك مراجعون كثر في هذا الوقت من النهار. استلمت تذكرة رقم الانتظار
من الجهاز الآلي الموضوع خلف باب الدخول مباشرة، وحانت مني التفاتة إلى الشاشة المعلنة
عن الرقم الذي تنجز معاملته، فتأكدت بأني على بعد رقمين من التوجه نحو أحد الموظفين
القابعين وراء الكاونتر بحيث لم نكن نرى سوى رأسيهما.
بعد جلوسي قليلا منطقة الانتظار، فتح باب الوكالة ودخل رجل مسن يبدو من هيئته
وهندامه أنه من مواطني البلد. توجه مباشرة نحو الكاونتر، فلحق به رجل الأمن وطلب منه
أن يأخذ تذكرة الصف ويجلس بانتظار دوره. لم يفهم الرجل المسن في البداية، لكن موظف
الأمن استخرج له تذكرة من الجهاز الآلي وأومأ له بيده أن يجلس في مقاعد الانتظار. أذعن
الرجل وجلس بجانبي، وكان دوره يليني مباشرة.
أعلنت الشاشة عن رقمي، فاتجهت إلى الموظف المكلف بالإرساليات خلف الكاونتر،
ووضعت أمامه ظرفا مفتوحا بالأوراق والمستندات التي أود إرسالها بالبريد السريع. ناولني
بطريقة آلية استمارة المعلومات المتعلقة بالإرسالية، وشرعت في ملئها بالبيانات والمعلومات
المطلوبة.
بعد دقائق قليلة أعلنت الشاشة رقم المواطن ليتجه إلى الموظف الثاني بالكاونتر،
ولكن الشيخ المسن لم ينتبه لذلك ولأنه كان تقريبا العميل الوحيد الموجود بالإنتظار
فقد أشار إليه موظف الأمن أن يتقدم لإنجاز معاملته. نهض الرجل المسن ببطء واتجه نحو
الموظف الثاني بمحاذاة الموظف الذي يباشر معاملتي، ووقف بجانبي على الكاونتر، وألقى
تحية بصوت أجش: السلام عليكم. رد عليه الموظف الآسيوي السلام بلكنة متعثرة : أليكم
السلام. ويبدو أنها رصيده الوحيد من لغة الضاد لأنه لم يستطع استيعاب كلام الشيخ الذي
استرسل يشرح له ما يريد. استوقفه الموظف بحركة من يده وهو يقول: أرابيك ...ما في. نظر
الشيخ حواليه كمن يطلب النجدة، انعقد لساني من سوريالية الموقف ولم يسعفني عقلي بالتدخل
لمعالجة الموقف بترجمة كلام الشيخ للموظف الذي اتضح أنه لا يفقه كلمة من اللغة العربية
ما عدا "آليكم السلام" بما معنى "عليكم السلام" و "أرابيك
ما في" أي لآ أحد يتكلم العربية. نظر الشيخ نحو الموظف الآخر الذي ردد هو الآخر:
"أرابيك مافي"، وكان نفس الجواب كذلك من حارس الأمن. ولم استفق من عبثية
المشهد أمامي إلا عندما يمم الشيخ وجهه شطر الباب، وقبل أن يخرج لاحت منه التفاتة إلى
الكاونتر وسمعته يقول بنفس الصوت الأجش، ولكن بنبرة حزينة: لاحول ولا قوة إلا بالله،
حسبي الله ونعم الوكيل. وغادر المكتب.
كنت أعتقد أني رأيت خلال معايشتي اليومية لمختلف الأجناس والأعراق التي تعيش
هنا صورا عديدة من قساوة الغربة، ولكني لم أكن أتوقع أبدا أن هناك هذه الدرجة القصوى
من الغربة التي لا تحتمل: أن تحس بالغربة في أرضك وبين أهلك وعشيرتك.
عزيز رزنارة
الشارقة في 18 ديسمبر 2012 (اليوم العالمي للغة العربية)