لو أنَّ أحد الأدباء العرب تلقى سؤالاً من صحيفة
أو مجلة عربية تسأله: لماذا تكتب؟ ماذا
يمكن أن تكون إجابته؟ هل سيدور حول همومه الذاتية
عند الإجابة فيبدو منشغلاً عن قضايا وهموم أمته وعن محنة الفكر العربي التي ما زالت
تستدرج العقل إلى هاوية التشرذم والتخبط والتبعية وفقدان الهوية القومية، أم أنّه سيبدو
من فحوى إجابته مشدوداً إلى همه القومي ورسالته الأدبية التنويرية في المجتمع كرجل
غير عادي عليه أن يتقدم الصفوف في مجال الدفاع عن وطنه وأمته؟
قبل الذهاب بعيداً في التكهن بطبيعة الإجابة التي
ستضع الأديب العربي في الزاوية الحرجة، تعود بنا الذاكرة إلى النصف الثاني من ثمانينيات
القرن الماضي حين طرحت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية سؤالَ "لماذا تكتب؟"
على 400 أديب وناقد من ثمانين بلداً في العالم، كان نصيب العالم العربي منهم نخبة مختارة
من الأدباء العرب بلغت 14 أديباً.
والذي أعادنا إلى الذاكرة الأدبية لتعود بنا إلى
هذا الموضوع المتمثل في الإجابة على سؤال كهذا، هو طبيعة الإجابات التي تلقتها الصحيفة
الفرنسية في ذلك الحين من أدبائنا العرب الذين وقع عليهم الاختيار، حيث جاءت الإجابات
دون المأمول به في الإطار القومي والوطني العام، والتي نمّت عن تضاؤل الحجم القومي
في رسالة الأدب العربي.
أحلام ذاتية
وجاءت إجابات معظم أدبائنا تدور حول تجاربهم وأحلامهم
الذاتية التي لا تخلو من نرجسيَّة الطرح، حيث بدوا في معرض الإجابة كنجوم متباعدة تشع
دون أن تدرك أو تفصح عن غاية تنويريَّة أو هدف ضوئي في الظلمة يرشد المسافر، فيحمل
على عاتقه رسالة الاستشراف والإصلاح.
فإذا ما استثنينا إجابة أو إجابتين لأدبائنا في
ذلك الحين، سنجد باقي الإجابات مزاجية مبتسرة، وكأنها تصدر عن نفوس منطوية على همّها
الذاتي معزولة عن الهمّ العام الذي يثقل كاهل الوطن والأمة.
وإذا كان السؤال في هذه الحالة سيفضي إلى سؤال آخر،
فمن حقنا أن نسأل أو نتساءل: أين كانت معاناة الشعوب العربية وهمومها وأحلامها من خيرة
أدبائنا الذين وقع عليهم اختيار الصحيفة الفرنسية ليجيبوها.. لماذا يكتبون؟
أليس الأدباء في كل زمانٍ ومكان هم رسل التحرر والنضال
والاستقلال الفكري والحضاري المعافى من وباء الخضوع والتطفل والتبعية بالاتكاء على
حضارات الآخرين؟!
حين وصف الشاعر الإنجليزي شيلي الإنسان الشاعر بأنه
الرجل الذي يحمل في داخله شهوة إصلاح العالم، فإن وصفه جاء منطبقاً على الأديب المبدع
في شتى مجالات وأنواع الكتابة الأدبية، فهو -ولا شك- الكائن الاجتماعي الخلاّق الذي
يوظف قلمه وروحه من أجل إشباع شهوة الإصلاح التي يحملها بوعي ودراية في جوانحه وأعماقه.
وما دُمنا بصدد الحديث عن عودة الذاكرة بنا وعودتنا
بها إلى هذا الموضوع الحيوي، فلا بأس من أن نعرض لبعض الإجابات المختزلة لنقيس المسافة
بين الهم الذاتي والهم القومي العام في الكلام الذي قيل وكتب بأقلام الأدباء العرب
في ذلك الحين.
فهذا يوسف إدريس يقول وهو يدور حول ذاته بمغناطيسيّة
ظاهرة للعيان: أكتب لأنني أحيا، وأستمر في الكتابة لأني أود أن أحيا بشكل أفضل.
وهذا توفيق الحكيم يجيب: بعد أن ألفتُ مئة كتاب
تأكدّ لي أن ما فعلته هو عبث، وأما نجيب محفوظ فقد انطلق ليجيب باعتداد شخصي: أكتب
من أجل المُتعة... من أجل إمتاع القوى الغامضة، لا شيء خارجياً كان يدفعني إلى الكتابة.
وأما الطيب صالح فقد أجاب بتواضع نرجسي: أحب التوكيد
على أني لستُ كاتباً، ولم أكتب بالقدر الذي كان عليّ أن أفعل.
حتى محمود درويش في غمرة الرعشة المباغتة التي أحدثها
لديه سؤال الصحيفة الفرنسية
"لماذا تكتب؟"، وجدناه حينذاك يتجاوز
البعد الوطني والبعد القومي بطريقة غريبة ومدهشة ليقول "شعري شكوى غير موجهة إلى
أحد، بل أكثر من ذلك إني أستبعد القارئ خارج المسافة السريّة بيني وبين نفسي طوال الصيرورة
الشعرية، فالشعر بالنسبة لي ربّما أيضاً لعب، أي أكتب أحيانا كي ألعب
رفض القمع
لم تكن هناك إجابة مقنعة تشفي الغليل سوى إجابة
الأديب الجزائري المكتوي والمتطهر بنار الثورة الجزائرية رشيد ميموني، حيث قال في إجابته:
إني أؤمن بالأدب الذي يضع يدهُ على الجرح، أؤمن بالكاتب الذي يُدجّنُ شيطانه الداخلي،
فيمضي إلى أبعد نقطة سوداء في الظل ليرفض القمع والظلم.
تُرى لو طرحت جهة ثقافية ما نفس السؤال "لماذا
نكتب؟" على مجموعة جديدة من الأدباء والكتاب العرب الذين ما زالوا على قيد الحياة
والكتابة في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين الحالي... هل سيدورون حول
هواجسهم وأحلامهم الشخصيّة كما فعل من سبقوهم، أم سيكونون أكثر وعياً لدورهم الطليعي
والفعال في مسيرة شعوبهم العربية المكتوية بنار الفتنة والانقسام في أكثر من بقعة عربية
ملتهبة؟
على الرغم من اصطفاف عدد لا بأس به من الأدباء والكتاب
والمثقفين العرب عامة في الصفوف الخلفية للمشهد القومي المتفاقم والمأزوم، وعلى الرغم
من ركونهم السلبي إلى الجلوس على مقاعد الصف الأخير من أجل الفرجة على ما يجري من صراعات
دامية.. على الرغم من هذا وذاك، دعونا نتفاءل.
لنتفاءل ونحسب أن الإجابات المتوقعة ستكون أحسن
حالاً وأكثر ارتقاء إلى مستوى المسؤولية الثقافية فتصبّ في معظمها في الهدف القومي
المنشود، وهو المرابطة على جبهة الكتابة من أجل التصدّي للواقع المُر، بالكلمة المستضيئة
بدم الشهداء والموقف الإبداعي الحارس -بوعي وشرف- لقضايا الأمة وأهدافها وتطلعاتها
المصيرية إلى الخلاص والتحرر واستعادة الأمن والحرية والعدل والسلام.. دعونا نتفاءل.
المصدر : الجزيرة