-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

حوار مع الإعلامية المغربيّة سعيدة شريف (رئيسة تحرير مجلة "ذوات" الثقافية الإلكترونية)


حوار مع الإعلامية المغربيّة سعيدة شريف (رئيسة تحرير مجلة "ذوات" الثقافية الإلكترونية)
أجرى الحوار: صابر سويسي  (أكاديمي وناقد تونسي)
إشارة : الحوار كامل الفقرات وليس مقتبسا عن صحيفة القدس العربي

-لا يمكن الحديث عن سياسة إعلامية ثقافية في غياب سياسة ثقافية حقيقية

السيدة سعيدة شريف إعلامية مغربية، همّها الأوّل الشأن الثقافي فقد حرصت على التعريف به وبأعلامه وإشكالياته وقضاياه في المغرب بشكل خاص، والعالم العربي بشكل عام.
قدمت إلى عالم الصحافة من بوابة الأدب . اشتغلت في الصحافة العربية والمغربية على مدى سنوات، وكانت مسؤولة عن القسم الثقافي من المغرب بصحيفة "الشرق الأوسط" على مدى عشر سنوات، ومراسلة لـ "العرب" القطرية، و"البيان" الإماراتية، ومجلة "المعرفة" السعودية التي كانت تصدر عن وزارة المعارف سابقًا، وبعض وكالات الأنباء كوكالة "الأناضول" التركية.
تعرف القارئ العربي على اسمها في صحيفة "الشرق الأوسط"، التي تمكنت في سنوات اشتغالها بها من التعريف بالمشهد الثقافي المغربي، وبالفاعلين فيه، حيث كانت الصفحة الثقافية في الصحيفة جسر تواصل بين الثقافة في المشرق والمغرب.
 استفادت من تدريبات في الصحافة الثقافية مع مؤسسات ومنظمات دولية، وأطرت العديد من الورشات المشتغلة في المجال الثقافي، واشتغلت سكرتيرة للتحرير في مجلة "نساء من المغرب"، وتركت بها مسحة ثقافية، وأشرفت على العديد من الملاحق الثقافية بالصحف المغربية، كملحق صحيفة "الأخبار"، وملحق أسبوعية "الجريدة الأخرى". ساهمت في إثارة العديد من القضايا الثقافية المغربية الشائكة، وفضح مجموعة من الممارسات كالتلاعب في الجوائز الثقافية، وغيرها من القضايا التي جعلت الأنظار تلتفت إليها، وحظيت في مناسبات عدّة بالتكريم لنضالها المستميت من أجل رفع التهميش عن الثقافة والصحافة الثقافية بالمغرب، وكان آخر تكريم لها من طرف منتدى صحفيي وكالة المغرب العربي للأنباء.
شاركت في العديد من اللقاءات الثقافية والأدبية  داخل المغرب وخارجه، وكانت عضوة في لجان تحكيم العديد من المهرجانات المسرحية والسينمائية المغربية، كما شاركت في تقديم العديد من الكتاب والفاعلين الثقافيين من المغرب والخارج في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدارالبيضاء، وفي العديد من اللقاءات الثقافية والأدبية بالمغرب.
وهي تشغل حاليّاً خطّة رئيسة تحرير مجلة "ذوات" الثقافية الإلكترونية، وهي مجلة ثقافية عربية شاملة، تعنى بقضايا الثقافة في العالم العربي، وترصد ما يعتمل في الساحة الثقافية من إشكالات وظواهر، تصدر عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث".
وتعكف السيدة سعيدة شريف حاليًّا على تجميع بعض أعمالها لإخراجها في كتب، من بينها حوارات مهمة تؤرخ لمسار مجموعة من الكتاب وللمشهد الثقافي بالمغرب، وبعض الأعمال الأدبية التي تدخل في جنس القصة القصيرة.
التقينا السيدة سعيدة بمناسبة المؤتمر السنوي الثالث لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث المنعقد بالأردن يومي 4 و5 سبتمبر 2015 تحت عنوان "الدين والشرعيّة والعنف"، وكان لنا معها الحوار التالي حول مجلّة "ذوات" من جهة، وحول وضعيّة المثقف العربي اليوم وأشكال تفاعله مع عصره ومتغيراته من جهة أخرى.
- تجربة ثرية في الإشراف على مجلة "ذوات" وأعداد متواترة تناولت مواضيع حارقة ومثيرة تمس الواقع العربي والإسلامي وحتى الدولي، كيف تقيمين هذه التجربة؟
إشرافي على مجلة "ذوات" الثقافية الإلكترونية لم يأت اعتباطًا، بل جاء نتيجة لتجربة غير يسيرة في الإعلام الثقافي، وفي العمل الدؤوب في الصحافة الثقافية بالعالم العربي بشكل عام، وبالمغرب بلدي بشكل خاص.
وانطلاقًا من هذه التجربة، ومن اشتغالي في موقع صحيفة "ذوات" الثقافية والفكرية الإلكترونية التي ساهمت فيها إلى جانب بعض الإخوة منذ انطلاقها، وضعتني مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" أمام تحد كبير، تحدي تقديم إضافة نوعية لمنشورات المؤسسة، لتخلق لها مكانة كبيرة لدى القراء العرب، ولدى شريحة ثقافية "غير نخبوية"، وتحدي إبراز كفاءتي وتوظيف ما خبرته في المجال الثقافي على مدى 25 سنة من العمل المهني في الصحافة الثقافية.
وأظنّ أنّني قد وفقت والحمد لله في هذا التحدي، إذ تمكنت مجلة "ذوات" التي نشر أول عدد منها بتاريخ 24 ديسمبر (كانون الأول) 2014، وذلك خلال الأشهر الأولى من تحقيق مكانة مهمة في الوسط الثقافي، ومن استقطاب أقلام ثقافية عربية معروفة وغير معروفة، كانت تعتقد في البداية أنّ مؤسسة مؤمنون بلا حدود تقتصر على نوعية معينة من الكتّاب ومن المواضيع، ولكن بفضل إصراري  وانفتاحي على المشهد الثقافي العربي، تمكنت من طرق مواضيع لم أكن أعتقد في البداية أنّني سأتناولها في يوم من الأيام (داعش- الحوثيون- التطرف- الفتاوى...)، وغيرها من مواضيع الساعة الحساسة، وطبعًا القادم سيكون أجرأ وأنضج.
وبما أنّ النشر الإلكتروني يقاس إلكترونيًّا أيضًا، بعدد الزيارات، والتحميلات، فيمكن لي أن أكشف لكم بأنّ مجلة "ذوات" أصبحت تحظى بمكانة خاصة لدى القراء العرب، على الرغم من اللبس الذي كان حاصلاً في البداية في الاسم، لأنّها تحمل الاسم نفسه لموقع الصحيفة، وتتوصل باستمرار بمساهمات الكتاب من دون اللجوء لأي استكتاب، اللهم إلا إذا استثنينا الملفات، التي نستكتب فيها الباحثين في موضوع معين. فالمجلة تتوصل بشكل يومي بالمواد من قراء عديدين، وللأسف، فالقليل منها هو الذي يحظى بالنشر، لأنّنا نصر على أن تكون المواد خاصة بنا، وبمواصفات معينة.
وبالعودة إلى الأرقام وإلى بعض المواضيع التي لم تكن إدارة المؤسسة متحمسة لتناولها في مجلة "ذوات"، من قبيل ملف "الرواية العرفانية"، والذي حظي بعدد كبير من القراءات، واحتل المرتبة الثانية بعد ملف الحوثيين، كما جاء ملف الترجمة في المرتبة الثالثة، وهذا إن دل على شيء، فإنّما يدل على أنّ القارئ بحاجة إلى مواضيع  تثير اهتمامه، ولم لا غريبة في بعض الأحيان، من مثل الرواية العرفانية التي بدأت تجد لها مساحات كبيرة من الانتشار في المشرق، من خلال المشروع الروائي للكاتب المغربي عبد الإله بن عرفة.
 وهنا لا يسعني إلا أن أحيي هذه المؤسسة التي وضعت ثقتها فيّ، وأحيي محكم المجلة، ومدققها اللغوي، الذي لا يقتصر على دور التدقيق فقط، بل يراجع كل كبيرة وصغيرة، ويحرص معي على المجلة لغيرته على العمل الثقافي المهني، وطبعا لن أنسى المنسق، والمصممة، التي لا تألو جهدًا في تقديم كل أعداد المجلة في شكل جميل وجذاب، وفريق العمل الصغير جدًّا، والذي يتفاجأ بعمله المهتمون.
ومع كل هذا، فالمجلة تحتاج إلى المزيد من المجهود، ومن التعديلات حتى ترقى إلى المستوى المطلوب، وتصبح مجلة كل المثقفين العرب، والمجال الأرحب لاحتضان الأقلام المتميزة التي تستطيع الرقي بذائقة القارئ العربي، وتقديم المادة الثقافية والفكرية الرصينة والبسيطة والشيقة في آن، والتي تثير الاهتمام، وتجعل الثقافة رهانها الأكبر في زمن العولمة والتكنولوجيا المتطورة.                                  وبفضل اهتمام القراء وملاحظاتهم القيمة، وإلحاحهم في الطلب لتحويلها إلى مجلة ورقية، سأسعى رفقة فريق العمل والمؤسسة طبعًا، إلى إخراجها في حلة ورقية، نزولاً عند طلب القراء والكتاب والمهتمين.
"ذوات" أخذت من ذاتي ومن نفسي وعلاقاتي الشيء الكثير، إنّها الوجه الثقافي والإعلامي المنفتح للمؤسسة، وأتمنى أن تظل كذلك.
- كيف ترين تفاعل المثقف العربي مع الإشكالات والظواهر التي تطرأ على واقعه اليوم؟ هل هي استجابة المفكر الباحث الرصين الذي يتناول الواقع ويتفاعل معه بشكل علمي وبنّاء؟ أم هو تفاعل انفعالي؟
للأسف ما نشهده اليوم وما شهدناه منذ بداية الثورات العربية، لا يمكن وصفه إلا بالانتكاسة الحقيقية للنخبة المثقفة العربية أو ما يصطلح عليه بـ "الأنتلجنسيا"، لأنّها تعرت وانكشفت أمام المجتمعات العربية، خاصة في هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ العربي، التي عرفت انتفاضة الجماهير الشعبية المطالبة بالحق في العيش الكريم، والديمقراطية، أمام ذهول الأنظمة، والمثقفين أنفسهم، الذين لم يكونوا ليتخيلوا مطلقًا أن يحدث ما حدث خارج توقعاتهم الذاتية والمؤدلجة.
إنّ الثورات العربية أعادت وتعيد بحدة اليوم، طرح سؤال المثقف ودوره في التغيير الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، وتجاه التحديات المفروضة على المجتمعات العربية، خاصة أنّ دوره في هذه المرحلة الحاسمة قد توارى بشكل كبير، ولم نعد أمام تلك النوعية من المثقفين التي كانت فيما قبل، تزعج السلطة، من مثل المثقف العضوي (أنطونيو غرامشي)، والمثقف الرسولي (إدوارد سعيد)، والمثقف النقدي (نيتشه وسارتر)، فالحالة العربية اليوم كشفت عن مدى زيف نوعية من النخب المثقفة وانتهازيتها، وعدم مبالاتها بهموم الوطن وقضاياه، وفي الوقت نفسه، أعادت الاعتبار للمثقفين الحقيقيين الذين كانوا عند مستوى اللحظة، وانخرطوا في الدعوة إلى تغيير مجتمعاتهم.
ولكن الإشكال الحقيقي الذي برز في العالم العربي في السنوات الأخيرة، هو استقالة المثقف والمفكر الرصين ذي المشروع الحداثي وانزواؤه في برجه العاجي، مثل ما حدث في المغرب مثلاً مع المفكر عبد الله العروي، الذي لم يواصل إنتاجه الفكري، ولجأ إلى كتابة جزء من سيرته الذاتية في "يوميات الصباح"، في الوقت الذي كانت فيه المرحلة تحتاج إلى صوت فكري ينير للكل الطريق، ولم يخرج عن صمته إلا حينما أحس بأنّ اللغة العربية في المغرب تتعرض لتهديد حقيقي من طرف هجمة عامية / دارجة  من طرف اللوبي الفرانكفوني، فخرج في مناظرة تلفزيونية بالقناة الثانية المغربية، مع واحد من أشرس دعاة التدريس في المغرب بالعامية، ألا وهو المقاول نورالدين عيوش.
وبشكل عام، يمكن اعتبار تفاعل المثقف العربي مع ما طرأ ويطرأ اليوم على أرض الواقع من تحولات رهيبة، انفعالاً آنيًّا، يأخذ طابع رد الفعل في أغلب الأحيان، وهذا لن يخدم الثقافة العربية ولا مجتمعاتها، لأنّه إن ظل المثقف العربي في حالة الانفعال فحسب، فسيظل أسير الكثير من الصراعات الفكرية والأيديولوجية التي ستبعده عن القضايا الجوهرية، وستجعله يضيع جهوده هباءً. لهذا، فالمثقف العربي اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى بتجاوز حالة الانفعال إلى الفعل ليمارس دوره بشكل إيجابي، ويعود على أمته ووطنه بالخير والصالح العام، وهذا فعلاً ما كان ينادي به المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، صاحب مشروع نقد العقل العربي، الذي سبق وعرف المثقف في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية"، بقوله: " المثقف هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه، وبهموم الطبقات المقهورة والكادحة،  إنّه "المثقف العضوي" الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع، ويواجه تحدياته المختلفة دفاعًا عن الحق والحقيقة، ورافضًا لكل أشكال الظلم والقهر والتسلط في المجتمع".  
- كيف يمكن تحفيز المثقف اليوم، ليكون فاعلاً في واقعه مؤثرًا، وهو المتهم بانزوائه وانعزاله في برجه العاجي؟
كل شيء بيد المثقف نفسه، فنعته بالمنزوي أو المنعزل في برجه العاجي ليس تهمةً باطلةً، بل هو حقيقة عشناها على مدى السنوات الماضية ونعيشها اليوم. ولهذا، على المثقف أن يعيد النظر في نفسه، وفي رؤيته للمواطن العربي أولاً، وللثقافة التي يقوم بنشرها ثانياً، وأن يمارس نوعًا من النقد الذاتي على نفسه، وعلى طريقة اشتغاله حتى داخل المؤسسات الثقافية العربية، التي لم تعد لها جدوى، ولا فائدة ترجى منها، ما دام "المثقف الحقيقي" قد أصبح مؤسسة مستقلة بذاته في غياب المؤسسات والمنظمات الثقافية العتيدة، التي لعبت في السابق دورًا فعالاً في خلق حراك ثقافي على مستوى العالم العربي، ولكنها اليوم "شبه ميتة"، يحاول المستفيدون منها (مثل اتحاد الأدباء والكتاب العرب، واتحاد كتاب المغرب...) الاستمرار ولو على نعشها، عبر إصدار البيانات الجوفاء التي لا أثر لها.
لقد حان الوقت لينظر المثقف العربي إلى وجهه في المرآة، وأن يخلع كل الأقنعة الأيديولوجية، وغطاءات الفكر الوثوقي، ويعيد بناء نفسه من جديد، مثل طائر الفنيق، وحتى يتمكن من الانخراط في بناء مجتمعه، وتطويره بشكل نوعي. وبهذا ففعل المثقف في مجتمعه يجب أن يكون نابعًا من الداخل، لا أن يرتهن إلى إملاءات خارجية، أو حاجات آنية، فالتاريخ لا يرحم، ويذكر كل كبيرة وصغيرة، ويحتفظ بافتخار كبير بالأسماء الفكرية والثقافية التي ساهمت، وضحت بالغالي والنفيس، وبروحها من أجل الأفكار التي تؤمن بها، والتي كان لها الفضل فيما بعد في تغيير المجتمعات، وعلى رأسهم الإمام ابن حنبل، وقبله الإمام مالك وأبو حنيفة النعمان، وتاليًا ابن تيمية والحلاج والسهروردي، وفيما بعد الفيلسوف ابن رشد، والمفكر نصر حامد أبو زيد.
ما أحوجنا اليوم إلى المثقف النقدي، منتج المعرفة الذي لا يركن للثقافة السائدة، ويواكب الفكر النقدي الجديد، ويعيد قراءة تراثه قراءة نقدية واعية، ولا يراهن إلا على المعرفة والثقافة كقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، ويتفاعل مع قضايا عصره وعلومه، عبر نقد الواقع معرفيًّا، متجاوزًا كل القيود الواعية وغير الواعية التي قد تحد من فعالياته الفكرية، وذلك حتى يتمكن من ممارسة دوره الثقافي والإبداعي، وحتى يتبوأ المكانة اللائقة به، ويحظى بالاحترام والتقدير من جديد.
المثقف العضوي، الرسولي، الملتزم، الريادي، الطليعي، المشاكس، الوطني، الإنساني، كلها توصيفات تعبر عن المثقف الإيجابي المتفاعل مع قضايا مجتمعه، المثقف الذي لا يدير ظهره لمجتمعه، ولا يرضى بأن يكون شاهدًا على الحدث، بل فاعلاً إيجابيًّا فيه، كما يرى بيير بورديو. ولهذا، فلا يمكن لكل الناس أن يقوموا بوظيفة "المثقف"، على الرغم من أنّ أنطونيو غرامشي يصفهم بالمثقفين، لأنّ المثقف برأيه هو الناقد الاجتماعي الذي يعمل في مجال الإنتاج الثقافي، ويكرس وقته ونفسه لخدمة القضايا الاجتماعية الحيوية، ويعمل على بناء نظام فكري مؤنسن ومعقلن. ( عن "كراسات السجن" لأنطونيو غرامشي)
كيف تتصورين سياسة إعلامية ثقافيّة تمكّن خطاب المثقف من الرواج والتأثير؟
قبل الحديث عن السياسة الإعلامية الثقافية الكفيلة بتمكين خطاب المثقف من الرواج والتأثير، يجب الحديث عن حضور الثقافة في إعلامنا العربي، وهو حضور مخجل للأسف، خاصة في المغرب العربي، أمّا دول الخليج فقد انتبهت للدور الفاعل للثقافة في المجتمع.
ومن منطلق تجربتي في الصحافة الثقافية، يمكن أن أجزم لك بأنّ الثقافة على الأقل في بلدي هي آخر ما يتم الاهتمام به في الإعلام المكتوب، والمسموع، والمرئي، إنّها كما نقول بالعامية المغربية "خضرة فوق الطعام"، يضحى بها في الغالب لصالح الإعلانات التي تدر الأموال على الصحيفة، وغالبًا ما تبرمج موادها في الصفحات الأخيرة للمطبوعة.
لقد أصيبت كلمة ثقافة بالميوعة، وأصبحت تستعمل في كل شيء، وتدل على أي شيء، على الرغم من أنّها كلمة مستحدثة في اللغة العربية شاع استخدامها من حيث هي مفهوم في الأدبيات الاجتماعية والسياسية خلال العقود الماضية، وخاصة مع الروائي الفرنسي إيميل زولا، ونخبة من المثقفين الفرنسيين الذين دافعوا في باريس عن الضابط الفرنسي يهودي الأصل "دريفوس" الذي اتهم بجريمة الخيانة العظمى، وحكم عليه بالنفي بتهمة التجسس لصالح ألمانيا عام 1894، وذلك من خلال مقالة زولا الشهيرة "إنّي أتهم".
وبالنظر أيضًا إلى واقع الثقافة في العالم العربي، فهو غير مشجع بالمرة، على الرغم من وجود مجموعة من المحاولات الفردية الجادة، التي استطاع أصحابها فرض وجودهم في غياب المؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية، أين هي وزارات الثقافة العربية مما يعتمل في العالم العربي اليوم؟ وهل تتوفر فعلاً على سياسات ثقافية كفيلة بالنهوض بالثقافة في بلدانها؟
للأسف أجوبتي على كل هذه الأسئلة لن تكون إلا بالنفي، ولهذا لا يمكن الحديث عن سياسة إعلامية ثقافية في غياب سياسة ثقافية حقيقية في بلداننا، التي ماتزال الثقافة بالنسبة إليها ترفًا، وليست حاجة اجتماعية ضرورية، وفي المقابل يمكن اعتبار وسائل الإعلام الجديدة، أو ما يعرف بـ"الإعلام البديل" أداة مهمة من أدوات التغيير، وترويج خطاب المثقفين والمفكرين، وقد أثبتت مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، يوتوب...) في السنوات الأخيرة، فعاليتها وجدارتها في تحقيق التأثير، فأصبحنا أمام "صحافة ثقافة الأنترنيت"، التي تقوم بدور إيجابي على علاتها، في التعريف بالكتاب والمثقفين، وفسح مجال لهم للتعبير عن مواقفهم، ورؤاهم، ونشر أفكارهم التنويرية، بل ومناهضة ما يرفضونه من فكر ظلامي، مثل ما حدث مؤخرًا في المغرب مع الحملة التي قام بها المثقفون والإعلاميون عبر موقع "أفاز"، والرافضة لحضور الداعية السعودي محمد العريفي، المؤيد لتنظيم القاعدة وللفكر الداعشي الإرهابي، لإلقاء محاضرة في المغرب بدعوة من حركة التوحيد والإصلاح، والذي ألغى زيارته في نهاية المطاف.
ومثلما كان تأثير مواقع التواصل الاجتماعي إيجابيًّا مع ثورات الربيع العربي، فإنّه سيكون كذلك لهذه المواقع، وللمواقع الثقافية الإلكترونية، من صحف ومجلات، تأثير إيجابي أيضًا في الحراك الثقافي العربي، على الرغم من الفوضى التي يعرفها هذا النوع من النشر الثقافي الإلكتروني اليوم، والذي لم تستجب له العديد من الأقلام الثقافية العربية التي مازالت مرتبطة أكثر بما هو ورقي.
- في ظل استشراء العنف اليوم بمختلف أشكاله، خاصة في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، وإقبال ممارسيه على توظيف التقنيات الحديثة لتبرير أفعالهم وتشريعها والدعوة إلى دعمها، هل ترين أنّ المثقف العربي قد خسر معركة الإعلام، وفرّط في أن يكون متحكمًا فيها؟ هل المشكل مشكل تقنية وإلمام بسبل توظيفها، أم هو خلل في الخطاب ذاته من الداخل؟
المشكل، هو مشكل تقنية وخطاب أيضًا، لأنّ الكثير من الأشياء التي تحدث اليوم، جراء التطورات المتلاحقة، جعلت المثقف العربي متجاوَزًا، وخطابَه مكرورًا وبائتًا، خاصة من قبل الفئات العريضة من المثقفين، التي استأنست بالأدوات القديمة وأغفلت أنّ العالم تغيّر، وصارت له مقومات جديدة ووسائط جديدة للتواصل المعرفي والفكري.
وأمام هذا العنف المستشري، والذي تمارسه تنظيمات تتخذ من الإسلام غطاء لها (من مثل القاعدة وداعش)، ومن الإعلام الإلكتروني واجهة كبرى، يظل المثقف العربي عاجزًا عن مسايرة العصر، يعاني من غربة مضاعفة، بسبب تعثر أدواته الأيديولوجية والفكرية التي استعملها منذ عهد الاستقلال، وبسبب التطور التكنولوجي الذي لا يستطيع مجاراته، والذي للأسف استطاعت تلك التنظيمات توظيفه في إعلامها، وأذكر هنا نموذج مجلة تنظيم الدولة الإسلامية "دابق"، بصيغتيها الإنجليزية والعربية، والتي تسوّق للفكر الداعشي عبر العالم بأساليب تقنية حديثة تثير القارئ، وغيرها من المواقع الإلكترونية لتلك التنظيمات ولشبيهاتها، والتي يقف وراءها تقنيون عرب من مستوى عال استقطبتهم تلك التنظيمات.  
ولهذا، فعلى المثقف اليوم إعادة النظر في خطابه، وفي الأدوات التي يستعملها، وفي اليقينيات التي لديه، حتى يستفيق من فيلم الرعب الذي يعيشه، لأنّ الوقت قد تغير، وجرت أمور كثيرة لم يضعها من قبل في الحسبان، ألا وهي تسلل العديد من القوى والتنظيمات الإسلامية التي تتخذ من الإسلام غطاء شرعيّا لها، وحولت الحياة العربية الإسلامية إلى جحيم.
إنّ المجتمعات العربية بحاجة إلى مثقف جديد تنويري أو مستنير، مثقف يصنع أدواته بنفسه، ويطورها، لا مثقف يستعير أدوات الآخرين، ويستعملها بسذاجة كبيرة. نحن بحاجة إلى مثقف قريب من الناس ومن الواقع، مثقف يستطيع بناء الوعي، ويتوسل بالأدوات التكنولوجية الحديثة، ويوظفها لإصلاح كل الأعطاب الممكنة، وبناء المستقبل، كما أنّنا بحاجة إلى مؤسسات فكرية تنويرية، وإلى إعلام هادف وتنويري في الآن نفسه.


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا