تسوقفني كثيرا نزعة اللعب (اللوديزم) في الكتابة، حيث يخضع بناء الحكايات السردية إلى قيود رياضية حسابية، فتصبح الكتابة، بموجب ذلك، دعوة إلى كبت الدموع
والاستثارة العاطفية غير المتحفظة، وليس ذهابا بوجه مكشوف إلى ذلك الاختبار الشاق الذي يقع في الأقاصي.
إن البقاء على مسافة من النص يظل دائما أكثر يسرا من تحول الكتابة فعلا إلى تجربة رعب لا يمكن للكاتب أن يتحمل الابتعاد عنها. فالنص الذي يكتب ببرود، كما لو كان «تقرير حالة»، يمكنه بكل تأكيد أن يحقق المتعة، ويمكنه أن يظهر على قائمة «الكتب الأكثر مبيعا»، ويمكنه أن يحظى بمتابعة نقدية كبيرة، لكنه يظل مع ذلك نصا لا يعيش حياته الخاصة بيأس. إنه نص كُتب ليثير الإعجاب والثرثرة.. نص يشير إلى أنه ذكي ومحكم ومنطقي.. نص يكتبه المهندسون والدجالون، وليس هؤلاء الذين لا يستطيعون بلوغ ذواتهم إلا من خلال نص يتعرض للاضطهاد الذي يتكرر على نحو مدهش في كل ما يكتبونه. إنني هنا أفكر على وجه الدقة في كُتاب مثل أغوتا كرستوف، صامويل بيكيت، إميل سيوران، كازانتاكيس، توماس بينرهارد، إمري كيرتش، جان جونيه، أندري جيد.. أفكر في كل الكتب القاتلة والمضادة للتسلية التي كتبها هؤلاء، والتي تجازف بتمجيد العدم، ولا تتباهى بصحبة الأرقام والمعادلات الرياضية أو الفيزيائية..
أعترف بأن كتبا كثيرة تعتمد على «اللوديزم» نالت إعجابي، وأعدت قراءتها أكثر من مرة، وهي في المجمل تأخذني إلى تجربة أغاتا كريستي أو ألفريد هتشكوك. كل شيء منظم سلفا، وكل شيء معرض للضوء بإفراط، وكل شيء إما أسود وإما أبيض، وكل شيء قاطع ونافذ البصيرة، ولا مجال للارتباك أو إخلاف التوقع، وكل شيء يعيش حياته بيقظة واستمتاع، وكل شيء يستدرجك نحو كل شيء. إنني أكاد أجزم بأن هذا النوع من الكتابة هو مجرد مكان اصطناعي دافئ يلوذ به كتاب يشربون «النبيذ» وهم يكتبون نصوصهم بكلمات ودودة، ومدربة على «ابتكار» المتاهات للقراء- الجرذان.. وهذا ما نجده في كتابات أصحاب الرواية الجديدة (ألان روب غريي، ناتالي ساروت، جان ريكاردو، كلود سيمون..) ، وأيضا في روايات ميلان كونديرا وهاروكي موراكامي وأمبرطو إيكو وإليف شافاك وخوسي ساراماغو وغيرهم. إنها كتابة استعرائية تروقني لأنها تستدرجني إليها بذكاء، وتلعب معي بما يترسب لديها من مرجعيات، وهي تقترح علي حتى أبعد نقطة أن أطرح أسئلة بعينها وأنتظر أجوبة بعينها. إنها كتابة الحبكة التي يمكن الدفاع عنها، لأن لا شيء في نهاية المطاف يُسلب منا. فلا انفصال بين الأشياء والكلمات، ولا خصومة بين البدايات والنهايات.
إنني أتصور أن الكتابة ليست لعبة منطقية كما يحدث حين نمارس لعبة الشطرنج، كل نقلة تخدم استراتيجية اللاعب الذي يتبارى مع لاعب آخر، وفقا لقواعد موضوعة سلفا. هذا على الأقل ما يوحي به كلام أمبرطو إيكو في كتابة «اعترافات روائي ناشئ»: «النص جهاز غايته إنتاج قارئ خاص به، يستطيع تقديم تخمينات حوله». ف «اللوديزم» هو مرض الكتابة حين يظن البعض أنه علاجها، إنه استعراضي وينهض على فنون السرك والمدونة البوليسية والتجارب الدوائية، وليس على تجربة الحياة. على الأقل ليس دائما. ومن المؤكد أن التقنية التي يعتمدها هذا النوع من الكتابة هي المرافقة اللذيذة نحو باب الخروج.
ليس هذا هو الأفق الذي أميل إليه في الكتابة التي أعتبر أن لها بابا واحدا، هو باب الدخول، وكل ما تبقى ليس سوى حفر لا ينتهي، باللغة، لفهم الحقائق المرعبة. ولكن أية لغة؟! إنها اللغة التي تنكر وجودها وتقتل نفسها باستمرار. اللغة التي تتمتع بغير قليل من الاستقلال الذاتي عن الإيقاع، التي تذبح وتسلخ وتشوش، وتجرب التراكيب الغريبة، وتطرق المعاني غير المتوقعة.. اللغة التي لم تنل منها القواعد المدرسية، ولا تجيد الامتثال للصرامة النحوية والإملائية. اللغة التي لا تنظر بإعجاب إلى القاموس.. اللغة التي تردد مع المعري باستمرار: «وإني وإن كنت الأخير زمانه، لآت بما لم تستطعه الأوائل».
والاستثارة العاطفية غير المتحفظة، وليس ذهابا بوجه مكشوف إلى ذلك الاختبار الشاق الذي يقع في الأقاصي.
إن البقاء على مسافة من النص يظل دائما أكثر يسرا من تحول الكتابة فعلا إلى تجربة رعب لا يمكن للكاتب أن يتحمل الابتعاد عنها. فالنص الذي يكتب ببرود، كما لو كان «تقرير حالة»، يمكنه بكل تأكيد أن يحقق المتعة، ويمكنه أن يظهر على قائمة «الكتب الأكثر مبيعا»، ويمكنه أن يحظى بمتابعة نقدية كبيرة، لكنه يظل مع ذلك نصا لا يعيش حياته الخاصة بيأس. إنه نص كُتب ليثير الإعجاب والثرثرة.. نص يشير إلى أنه ذكي ومحكم ومنطقي.. نص يكتبه المهندسون والدجالون، وليس هؤلاء الذين لا يستطيعون بلوغ ذواتهم إلا من خلال نص يتعرض للاضطهاد الذي يتكرر على نحو مدهش في كل ما يكتبونه. إنني هنا أفكر على وجه الدقة في كُتاب مثل أغوتا كرستوف، صامويل بيكيت، إميل سيوران، كازانتاكيس، توماس بينرهارد، إمري كيرتش، جان جونيه، أندري جيد.. أفكر في كل الكتب القاتلة والمضادة للتسلية التي كتبها هؤلاء، والتي تجازف بتمجيد العدم، ولا تتباهى بصحبة الأرقام والمعادلات الرياضية أو الفيزيائية..
أعترف بأن كتبا كثيرة تعتمد على «اللوديزم» نالت إعجابي، وأعدت قراءتها أكثر من مرة، وهي في المجمل تأخذني إلى تجربة أغاتا كريستي أو ألفريد هتشكوك. كل شيء منظم سلفا، وكل شيء معرض للضوء بإفراط، وكل شيء إما أسود وإما أبيض، وكل شيء قاطع ونافذ البصيرة، ولا مجال للارتباك أو إخلاف التوقع، وكل شيء يعيش حياته بيقظة واستمتاع، وكل شيء يستدرجك نحو كل شيء. إنني أكاد أجزم بأن هذا النوع من الكتابة هو مجرد مكان اصطناعي دافئ يلوذ به كتاب يشربون «النبيذ» وهم يكتبون نصوصهم بكلمات ودودة، ومدربة على «ابتكار» المتاهات للقراء- الجرذان.. وهذا ما نجده في كتابات أصحاب الرواية الجديدة (ألان روب غريي، ناتالي ساروت، جان ريكاردو، كلود سيمون..) ، وأيضا في روايات ميلان كونديرا وهاروكي موراكامي وأمبرطو إيكو وإليف شافاك وخوسي ساراماغو وغيرهم. إنها كتابة استعرائية تروقني لأنها تستدرجني إليها بذكاء، وتلعب معي بما يترسب لديها من مرجعيات، وهي تقترح علي حتى أبعد نقطة أن أطرح أسئلة بعينها وأنتظر أجوبة بعينها. إنها كتابة الحبكة التي يمكن الدفاع عنها، لأن لا شيء في نهاية المطاف يُسلب منا. فلا انفصال بين الأشياء والكلمات، ولا خصومة بين البدايات والنهايات.
إنني أتصور أن الكتابة ليست لعبة منطقية كما يحدث حين نمارس لعبة الشطرنج، كل نقلة تخدم استراتيجية اللاعب الذي يتبارى مع لاعب آخر، وفقا لقواعد موضوعة سلفا. هذا على الأقل ما يوحي به كلام أمبرطو إيكو في كتابة «اعترافات روائي ناشئ»: «النص جهاز غايته إنتاج قارئ خاص به، يستطيع تقديم تخمينات حوله». ف «اللوديزم» هو مرض الكتابة حين يظن البعض أنه علاجها، إنه استعراضي وينهض على فنون السرك والمدونة البوليسية والتجارب الدوائية، وليس على تجربة الحياة. على الأقل ليس دائما. ومن المؤكد أن التقنية التي يعتمدها هذا النوع من الكتابة هي المرافقة اللذيذة نحو باب الخروج.
ليس هذا هو الأفق الذي أميل إليه في الكتابة التي أعتبر أن لها بابا واحدا، هو باب الدخول، وكل ما تبقى ليس سوى حفر لا ينتهي، باللغة، لفهم الحقائق المرعبة. ولكن أية لغة؟! إنها اللغة التي تنكر وجودها وتقتل نفسها باستمرار. اللغة التي تتمتع بغير قليل من الاستقلال الذاتي عن الإيقاع، التي تذبح وتسلخ وتشوش، وتجرب التراكيب الغريبة، وتطرق المعاني غير المتوقعة.. اللغة التي لم تنل منها القواعد المدرسية، ولا تجيد الامتثال للصرامة النحوية والإملائية. اللغة التي لا تنظر بإعجاب إلى القاموس.. اللغة التي تردد مع المعري باستمرار: «وإني وإن كنت الأخير زمانه، لآت بما لم تستطعه الأوائل».