-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

حوارمع الشاعر والكاتب والمترجم المغربي محمد الشركي


حوارمع الشاعر والكاتب المغربي محمد الشركي

حاوره : عبد العالي دمياني مسؤول الملحق الثقافي لجريدة الأحداث المغربية

باتفاق مع جريدة الأحداث المغربية

1 . من "العشاء السلفي" إلى "السراديب" مرورًا بـ "كهف سهوار ودمها" يتألق الأسطوري والفلسفي متصاديَيْن في انشباك مع نداءات القصي والعميق. من المسافة الرمزية التي تقيس بها الآن هذا المعراج الإبداعي الذي خضتَه، أيّ أسئلة كانت تهجّج فعل الكتابة وتنزاح به كلّ هذا الانزياح الجذري ؟
·    "إلى الدواخل ينحدرُ الطريقُ الغامض"، هذا ما كتبه نوفاليس، الشاعر الألمانيّ العميق جدّاً الذي يُعتبر من أفراد القلّة المباركة الذين حقّقوا تماسّاً كيانيا مع القاع الأعمق للوجود، وإلى الدّواخل يتوجّه حديثنا الآن أيها العزيز. ذلك أن قياس المسافة الرمزية الممتدّة والرابطة بين "العشاء السفلي" و "السراديب"، مرورًا بـ "كهف سهوار ودمها"، يستدعي العودة إلى بعض المنافذ المفضية إلى هذه "الأغارتا" (المملكة السفلية) التي أشار إليها صديقي الشاعر نور الدين الزويتني خلال دردشة زرقاء جميلة تبادلناها  مؤخرًا. لا ريب في أنّ ميلي الفطري إلى العزلة الفرحانة - وهي عزلة لم تكن أبدًا منقطعة عن الواقع بل محفورة داخله -، واستغراقي المبكّر في قراءة نصوص تأسيسية كألف ليلة وليلة والسّير الشعبية وملاحم الشرق القديم، وافتتاني الغامض بالقدرة التحويلية للإشارات والكلمات وما تزخر به من حيوات ومصائر لا مرئية، كلّ ذلك فتح عينَي روحي بالتدريج على الامتدادات التضاريسية للدواخل، وأحدث نوعًا من الصّدْع الزلزالي بين ثروات المخيال والتسطيحات الاختزالية التي سيّجت بها الأنساق الحارسة نهارات الواقع ولياليه.تلك كانت الخميرة الأولى التي أنضجت أولى الكلمات التي كتبتُها، والتي أعتبر الآن أنها كانت أرحامًا ملتبسة ستتوضّح وتتعمّق أكثر بقراءات أعلى في السُّلّم الرّمزي تَجاور وتداخلَ فيها الأدبُ والفلسفة والأسطورة، وكذا بما منحنيه التحاقي بتازة لقضاء الخدمة المدنية من إضاءات حاسمة بفضل لقائي هناك بوجوه نورانية وبفضل الاختبار المباشر الذي حظيتُ به مع أعماق الأرض في تلك الجغرافيا الكونية. لقد توقفتُ بإسهاب أكبر عند هذه اللحظة المفصلية، التي كانت بمثابة طقس تلقيني طويل لا يزال متواصلاً إلى الآن، في مقدمة كتابي "الأغوار"، الجامع لنصوص "العشاء السفلي" و "كهف سهوار ودمها" و "السّراديب"، وهي المُقدّمة التي عنونتُها قَصْدًا بـ "نورها في الأغوار" تأشيرًا على الخرائطية الاستغوارية للكتابة بما هي قطيعة جوانية مع بداهات السطوح واطمئنانات الأوفاق العامَّة، ونزول أورفيوسيٌّ لاستعادة أوريديسا ونورها من العالم السفلي، كما توقفتُ عند هذا الامتحان "الجيوبويطيقي" خلال الجلسة الدراسية التي شرفتني بها مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب بمكناس، والتي نشرتْ هذه المجموعة البحثية الديناميكية، قبل ثمانية أشهر، وقائعها في كتاب "محمد الشركي : نداء الأغوار"، مثلما توقفتُ عنده في طيات الحوار المديد الذي جاورني فيه، امتداداً لنفس الجلسة الدراسية التي أشرت إليها، الباحث الأنيق والمتصوف الصديق خالد بلقاسم. إنني أتّفق تماماً مع الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباطو، مبدع الروايات الباذخة "النفق" و"آليخاندرا" و"ملاك الظلمات"، حين أكَّد قبل وفاته أن الكاتب يواجه ويفاوض في العمق، وعلى امتداد مساره، عدداً محدوداً من الهواجس التي يواصل استغوارها بالتدريج في كلّ نصّ جديد له، شأن المستكشف الذي يُوسّع  نطاق بحثه داخل غابة مجهولة أو يهبط، في كلّ مرحلة من التنقيبات، أدراجاً غير مسبوقة في دهليز سفلي معتم. يمكن، فيما يخصّني، الإشارة إلى بعض الهواجس التي ما انفكّت تستدعيني وتمتحنني. إن الأعماق - بمفهومَيْها الرمزي والأركيولوجي -، والحبّ، والموت، وهشاشة الجمال المُهدَّد في كلّ مكان ولحظة، وفداحة المهاوي الجماعية التي يحفرها تحت أقدامنا توحّش الاقتصاد وبلطجة السياسة، والإطلالة ما وراء أسوار المحظور، واستحقاق اللغة العربية كحبيبة كبرى، شبكة هواجس مترابطة تسعى، مع كل نصّ، ودون ضمانات سوى ضمانة جرحها المكابر وفرحها الغامض، إلى التوغّل أكثر فأكثر في ليل المعنى المهيب الذي هبطتْ إلى أرجائه السحيقة، قبلنا، كبريات الأعمال الأدبية والفنّية، واستوطنته قبل هذه الأعمال، الميثولوجيات الساهرة في أساسات العالم.
2 . هذه الميثولوجيات التي لُذْتَ بها، أيّة دلالة يحملُها تحويلكَ لها إلى أسلوب رؤية ونظر ؟ هل لأنّ الحياة، بشكل عام، لا تستقيم إلاّ بالأسطورة كما يُعلّمنا ميرسيا إلياد، أم لأنّ الأسطوري، عند تمثله العميق، ينقذ الأمكنة والأزمنة والأشياء من آفة التسطيح ويُعَدّد أَوْجُه الوجود ؟

·    بعد نشأة المقدّس، الذي كان هو الرافعة الافتتاحية الكبيرة التي واجه بها أقوام العصر الحجري الأعلى غوامض الكون، ومستغلقات حياتهم اليومية المحفوفة بشتّى التهديدات والمتوقّفة على وجود الطرائد والثمار، وما استتبع هذا الإحساس الملتبس بوجود قوة سارية في مفاصل الوجود سعوا إلى الاتصال بها واسترضائها بالرسوم الجدارية على كهوفهم والأوشام على أجسادهم ومختلف منحوتاتهم الحجرية غير المتمايزة الأشكال – أقول بعد رافعة المقدّس هذه، التي تعود إليها أُولى الأنسَاق الاعتقادية والتعبُّدية، نضجت مع نهايات العصر الحجري الحديث وظهور التجمعات المستقرّة التي ستتحوَّل تدريجيًا إلى مدائن في مناطق الشرق الأدنى وفي الهلال الخصيب، وبعدهما في وادي النيل، وخصوصًا بعد انبلاج تاريخ التدوين بفضل ابتكار أولى الكتابات المسمارية، صياغات ميثولوجية للوجود والعالم وما وراء العالم تميّزت بمخيال عال وخصوبة رؤياوية أضفت على أشغال الحياة والسلوكيات والعلائق مشبوبية وجدانية ومعنى زاخرًا ومتعاقدًا مع القوانين الخفية... وهذا المعنى الزّاخر، الممتلئ، الموصول بمختلف القوى الأرضية، والمتحالف مع امتدادات كلّ شئ وكل فعل في الزّمن، هو بالذّات ما يُشرّع ضرورة الميثولوجي للواقعي ليس فحسب لإنقاذه، بل لابتكار ممرّات وآفاق  داخله... إنه يشبه الطرق الخيالية، ولكن الفعَّالة والمُوصلة، التي كان الرّحّالة يبتكرونها في الصحارى. الميثولوجي ابتكار لخرائط أخرى عند نهاية الخرائط. إنّها ما يُلْحقُ الزمن الإنساني المحدود بزمن الأرض المحتدم وزمن الكون اللامحدود. طبعاً لهذه المرحلة المتشعبة والمستعرة التي نعيشها اليوم "أساطيرها" أيضاً، أي تفخيماتها الذّهنية والوجدانية لبعض الأحداث أو الوجوه أو الظواهروتثبيتُها في الزمن الذي صار مُعَوْلَماً. وهي "أساطير" تقف وراءها وتحرّكها صناعة ثقيلة بكامل ترساناتها الإعلامية، وتديرها جماعات ضغط سياسية واقتصادية مهمتها الأساس فبركة "الرموز" وتسويقها... شتّان مثلاً بين "أسطورة" صناعية ككرة القدم الحالية، حيث المحرّك الأساس لكلّ الدّائرين في فلكها، بدءاً باللاّعبين وليس انتهاء بالمستشهرين، هو ما تدرّه من مداخيل قارونية وما تضفيه عليهم من "نجومية" غوغائية، وبين كرة القدم المقدّسة التي كان يمارسها شعب الإنكا باعتبارها طقساً استحضارياً لحركة الكواكب، والتي كان لاعبوها يقدمون عليها بحماسة ملحمية رغم علمهم بأنه في حالة انهزامهم ستتم التضحية بأكثرهم تميُّزًا قرباناً للإله الشمس...   

3 . إلى جانب الأسطوري تهتمّ عميقًا بالتاريخي في نصوصك التي يصعب تصنيفها وفق معايير التجنيس النقدي. لم هذا الاستدعاء للتاريخ ومنحه "هويّة سرديّة" ؟
·    لأنّ كلّ الأمور والأشياء والإنتاجات المادية وغير المادية، والخواطر والرموز والأحلام، متعالقة مع التاريخ حتّى وهي تتخطّاه أو "تُعلّقه". كلُّ مَظهر وملمح تاريخ : الوجه، والجسد، والكلام، واللباس، والزّهرة، والمعمار، والطعام، والفاكهة، والسُّلطة، والثورة... والتاريخ هاهنا طبقات جيولوجية، في سطحها المرئي تتبدّى الوقائع والحالات والأشياء، وفي قاعها اللامرئي تتحرّك الذّهنيات وأنساق المعتقدات والدّوافع النفسية والعوائق، وبين سطح ما يسمّونه واقعًا وقعره تحدث التفاعلات الخلاّقة أو المدمّرة، الموجَّهة أو اللاواعية. بهذا المعنى الزّاخر للتاريخ كصخب وعنف، وجنازة وعرس، ودخّان وحلم، ودمار وبناء، وطغيان وكفاح، وظلمة مستحكمة ونور مكابر، يكونُ على كلمات الشاعر والناثر معًا، بما هي بنات هذه الاختبارات والتورطات جميعها، أن تكون كاشفةً، كالتصوير المقطعي، للطبقات الزمنية المتراكبة أسفل الوجه المراد وصفه، أو الواقعة المُراد تأطيرها أو الحدث المرغوب في تثبيته. لذلك يكون التاريخ هو المجال الفيزيائي الذي تتنازعه الكتابة الطامحة إلى إنقاذه والسلطة السَّاعية، بكل مكناتها وترساناتها، إلى تمُّلكه وتسجيله باسمها، تمامًا كما تتملّك الفضاءات والشوارع وتوقّعها بأسمائها... وهي منازعة غَيْرُ متكافئة كما تَعْلَم بين كلمة السلطة، المدجَّجة بـ "مكناتها" العملاقة، وسلطة الكلمة غير المسنودة سوى بعنادها الرُّوحاني وبهشاشتها القوية التي طالما أشرنا إليها أنا وصديقي المبدع والباحث محمد أمنصور في حديثنا ومراسلاتنا. إنّ ما تتوخاه الكتابة الإبداعية، شعراً ونثراً، من استدعاء التاريخ إلى تضاعيفها وطيّاتها هو استحضار إشاراته وتنبيهاته (التي تضيّعها السياسة ولا يأبه لها المجتمع) لاجتياز لَيْل القبائل والعصبيات الّذي سهر فيه ابن خلدون طويلاً بقلعة ابن سلامة التونسية لهدايتنا في أحراشه المتفاقمة وإضاءة سبيلنا بـ "مقدّمته" الكاشفة، وكأنّه كان يقول لنا، منذ ستة قرون، بلسان الشاعر الفلسطيني المنيف محمود درويش أننا، نحن العرب، "لن نصير شعباً حتى ننسى ما تقوله لنا القبيلة".

4 . يشكّل الحبّ دالاًّ كبيراً في كلّ نصوصك التخييلية. فهو المحرّك الحيويّ لمتخيّلها الرّحيب. لم هذه المراهنة الخطرة على هذا الجوهر الإنساني المشعّ الذي يتعرّض اليوم لعملية سلخ وطمس حقيقية في المسلسلات التلفزية الركيكة وفي بعض الروايات المأخوذة بالشهرة وعلى أكثر من سند إعلامي ؟
·    كانت الندوة الهامّة حول "الرواية والحبّ"، التي نظمتها مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب بمكناس قبل ثلاث سنوات، والتي ساهمتُ فيها، بشغف، بمداخلة عنونتُها "ليل أوريديسا ونداؤها"، فرصةً ثمينةً  لتدقيق النظر في ما أسميتَه أنت، برهافة الشاعر فيك، "المراهنة الخَطرة" على الحُبّ في سياق عامّ ضاجّ بالابتذال والتسطيح المكتسحَيْن، بوقاحة، للروابط الجوهريّة التي نهض عليها العالم منذ تأسيسه، وأهمّها روابط المقدّس والولادة والموت، ورابط الحُبّ الذي هو لاحمُ هذه الروابط الثلاثة ومنيرها. ولعل خطورة المراهنة، هنا والآن، على القطب الروحاني للحُبّ تتمثّل، أولاً، في ضرورة الإيمان به في غربته الكبيرة وسط مفاوز الواقع اليومي وما يهدر فيها من آليات مختطفة للأجساد والأرواح معاً. وتتمثّل، ثانيا، في التزوّد بصبر المستكشف الباحث عن ينابيع الماء السرية في أراض صخرية جرداء لشدّة ما تعرَّضت له من قصف متواصل بمختلف أنواع الرّداءة "الفنّية" وأسلحة الدّمار الوجْداني التي نسفت بوصلة القلب لدى الغالبية المرتهنة. وتتبدّى جسامة المراهنة على الحبّ، أخيرًا، في ما تتطلبه، لدى المرأة والرّجُل معاً، من قُوّة جوّانية للارتقاء بهذه العاطفة الشامخة، وبنفسيهما من خلالها، وداخل الواقع بكلّ إكراهاته واختباراته، إلى عرس جسماني وروحاني يحرّر طاقاتهما وقدراتهما، بما يضعهما معًا، جنبًا إلى جنب، في آخر خندق متبقّ للدفاع عن الحياة ضدَّ لصوص الحياة وناهبي الأعمار في مختلف التراتبيات. بهذا المعنى الجذري، لا يكونُ الحبُّ، فحسب، قدرة كابحة أو مضادّة (Contre-Pouvoir) لأنساق التّطويع والإكراه، بل أيضاً قدرة تحريرية. الحبّ قوّة تحريرية يشتهيها الموتى أنفسهم. خلال الأيام الأخيرة من حياة الكاتب الأرجنتيني الشاسع خوليو كورتاثار، زاره بالمصحّ الباريسي، حيث كان يرقد مهدوداً بالمرض، صحافي لبناني وأجرى معه حوارًا سأله في آخره عن رأيه في الحُبّ، فأجابه كورتاثار : "ليتني كنتُ قادراً على الكتابة الآن، إذن لكنتُ أريتكُم كيف يكتب الموتى، ولقلتُ لكم أنّ الحُبَّ هو الباقي لنا في هذا العالم...". لشدّما تتصادَى هذه الوصيّةُ الذهبية مع ما خطّه جاك بريفير قبلئذ في ديوانه "كلمات" : "ياحُبُّ، ليس لنا على هذه الأرض سواك "...
5 . عطفاً على تمثّلك العميق والمغاير للأسطورة، يأخذ الدافع الديني بُعْداً مختلفاً كلّ الاختلاف في فلسفتك، من جهة اعتباره في بكارته الأولى منعرجا كبيراً في تاريخ البشرية سرعان ما لوّثته الأهواء والنوازع الاستحواذية وأفرغته من بُعده الروحي العميق... كيف استحال إلى ما صار يتلبّسه اليوم من استعمال سياسوي وتوظيف إجرامي ؟
·    بخلاف العصور القديمة التي تَبَلْوَرَ الدّافعُ الدّيني لدى أقوامها من خلال إيمانهم بقوة منتشرة في مختلف تمظهرات محيطهم المباشر، من غابات ومياه وطرائد وكهوف وحجارة ونباتات، وإحساسهم بحلولها في أجسامهم وأحلامهم نفسها، وسَعْيهم إلى التناغم معها بالانخراط في مواثيق طقوسية مع كلّ شيء، أقول خلافًا لهذا العيش المبكّر مع المقدّس وبه داخل وحدة وجودية  مترابطة ومتفاعلة، أدّى الاستعمال السياسي والسياسوي للدّافع الديني على امتداد الحقب التاريخية اللاحقة والجغرافيات القريبة والبعيدة إلى الإساءة للدين والسياسة كليهما، وكذا إلى المجتمعات التي يتمّ ارتهانها داخل هذا الاستعمال الذي لا يتورّع عن "اختطاف" الزمن الروحي اللامحدود لإضفاء شرعيات وتثبيت سلطات داخل الزّمن الدنيوي المحدود... وها نحن أولاء شهود على ما يخلّفه الاستحواذ على الدين، سواء من طرف الأنظمة الثيوقراطية أو من قبَل التنظيمات المُرعبة الطامحة إلى إقامة نفس الأنظمة المرتكزة على قراءة رهيبة وترهيبية للنسق الديني، أقول ها نحن شهود على بوار الأذهان وخراب العمران وتفتت الأوطان... وهذا الزلزال المتعدّد المراكز والبؤر، والمتلاحق الموجات الارتدادية العنيفة، ليس طارئاً، لأن داء العطب قديم كما قيل. وهذا العطب القاتل للأجساد والأرواح والمقدرات والجماليات معاً هو الذي تصدّى لتشخيصه المفكر المقتدر الرّاحل – والمقيم بيننا من قلب رحيله – عبد الوهاب المؤدب في عمله العميق "أوهام الإسلام السياسي"، حيث لم يوفّر أحداً ولا جذراً ولا بنية من مسبّبيه ومسبّباته، وحيثُ هَبَط بعيداً في الأنفاق الجنيالوجية حتى الأرحام السّوداء التي أنجبت وغذّت وموّلَتْ واستعملت وتستعمل قراءتها الاستحواذية للدين لتثبيت وتأبيد سلطاتها ومغانمها...
6 . ثمة إبدالات حصلت في صميم الحياة الثقافية بالمغرب غيّرت من الباراديغمات الموجّهة للأسئلة والقضايا بين مرحلة ما بعد الاستقلال واللحظة الراهنة. ما هي الأنساق المضمرة التي تستدعيها الكتابة في مختبرك "لتفكيكها وفضح سلطويتها المُصادرة للإنساني وما به يكون" ؟
·    في تحليله المجهري العميق للمنظومات المعرفية الكبرى خَلُصَ ميشيل فوكو، بخبرته الرَّاصدة لحركة الحقول الإبستيمية، إلى حدوث قطائع تظلُّ مسكونةً بالاستمراريات. ذلك حال الإبدالات الثقافية في مغرب الأعوام الستين الماضية التي هي المسافة الزمنية - وليس الذهنية - التي تفصلنا عن الاستقلال السياسي للبلد - مع كل التحفظات البنيوية بخصوص هذا الاستقلال، والتي هي إبدالات تلفّعت برداء الحداثة دون أن تستكشف وتتمثل جُذورها، ممّا جعلها ليس فقط لا تقطع عُمْقيًّا مع الذّهنية التقليدانية، بل تمرّر، عن وعي حينًا وبلا وعي أحيانًا أخرى، باراديغماتها إلى قلب الهاجس الحداثي نفسه. كأنّ مشيئة ليوطي، الذي كان هو المغرب خلال العشرية الثانية من القرن الماضي، الطامحة إلى تحديث هذه البلاد دون المساس ببنياتها وهياكلها الضاربة في القرون الوسطى،ظلّت ساريَة المفعول حتى بعد صرف فرنسا البراغماتية للماريشال العتيد بطريقة مُذلَّة في سياق التداعيات السياسية للزّلزال التاريخي الذي أطلقه عبد الكريم الخطابي ومغاويره وجباله في موقعة أنوال الملحمية. وبتوالي عقود ما بعد الاستقلال، تعمّق، أكثر فأكثر، في مغرب باحث عن ترميم بنياته السوسيو اقتصادية، التمزّق الفصامي بين السعي المتسارع  إلى مغانم العصرنة وتمدُّدها المركنتيلي، والحفاظ على انغلاق المجتمع كأساس للبنية الكبرى للطّاعة، وهو فصام كانت له مغارمه بالنسبة للحاكمين، حيث أدّى، اقتصاديّاً، إلى تفتيت الطبقتين الشعبية والمتوسطة، واجتماعيّاً إلى إنضاج الوعي الاجتماعي وتبلْور شرائح مثقّفة وجريئة. ولا شك في أن هذه التفاعلات الجيولوجية في قاع المجتمع، وما فجّرته من فورة مطلبية ودينامية فكرية وإبداعية هي التي غَذّت المدّ السبعيني الخصيب، مثلما أطلقت هزّات اجتماعية أنزلت بها الدولة آنذاك قمعًا دمويًا رهيبًا. لكن، وكما توقّع ليوطي نفسه، أدّى استيراد التقنية والعصرنة دون جذورهما الفكرية التنويرية إلى توطيد البنيات التقليدية وشحذ شوكتها، وهو ما تَواصَلَ ولا يزال متواصلاً إلى اليوم باحترافية وبراغماتية لامتناهيتين من داخل الثورة الاتصلاتية والرقمية التي نحن شهودها، وفي عزّ "تحرير" الفضاءات السمعية البصرية. وهذه البنيات التقليدية، بمرتكزاتها الذّهنية الضاربة في اللاّوعي الفردي والجماعي، وشبكات محاذيرها الصّارمة والمرنة بدهاء، هي ما تغُوص الكتابة، بمختلف أجناسها لكشف وإضاءة ترابطاتها، واستجلاء مُغَيَّباتها، وإنقاذ الوجوه والرّموز والكنوز الجمالية المدفونة تحت بلاطاتها المحروسة، وإخصاب كلّ ذلك بالتفاعل العميق مع ثقافات العالم واسترفاد ينابيعها المتجدّدة من خلال الترجمة التي كانت ولا تزال منذ بدايات التاريخ المعرفي أبهى وأثمن مظهر للعولمة الخلاّقة في مواجهة العولمة المتوحّشة.
7 . على ذكر الترجمة، قادتك هذه الممارسة، التي هي الوجه الآخر لبصمتك المخصوصة في الكتابة وما تطرحه من أسئلة إشكالية، إلى عناق فكري ورمزي مع وشم في جذرية إدمون عمران المليح وهو يبعث الأعماق المخفية للثقافة اليهودية ومتخيّلها الخصيب في الهوية المغربية. كيف تعاملتَ مع هذا الرّافد ممارسةً ومتناً ؟
·    كتب رولان بارث، مرّةً، أنّ جسد المترجم متوار في ما يُترجمه. ومفاد هذه الإشارة البارثية أنّ الحركة العميقة المزدوجة، التي قوامها الدّخول والتّواري، هي لحمة الترجمة وسداها. دخول النّص المراد ترجمته – إبداعياً كان أو فكريّاً – يعني النفاذ إلى طبقات لغته ومعانيه، ومفاوضة قوانين الضيافة الحارسة له، والتواري فيه معناه تمكين كاتبه من المرور بكامل قامته إلى اللّغة التي ستستقبله. بهذا المعنى الغائر، كانت الترجمة درساً أساسيًّا بالنسبة إليَّ على مستوى إعدادي الذّاتي ككاتب، حيث غمرت مساري التكويني في سراديب اللّغة – سواء العربية التي أنا مجبولٌ بها أو الفرنسية التي كنتُ أستعيد النصوص من حوزتها – بإضاءات جوهرية لجذور الكلمات وثراء الاشتقاقات وسريان دم المعنى في عروق الحروف، وكشفتْ لي، من الداخل، كيفية اشتغال "مكنات" الكتابة لدى الشعراء والكتّاب الذين ترجمتُ لهم، وتبايُن أدائها وتورّطها الدّلالي من أديب لآخر، والتأثير الحاسم للذّاكرة المرجعية لكلّ منهم على منجزه النّصّي. وفي هذا السياق الجوّاني للترجمة، باعتبارها أرضاً اختبارية لقدرة ممارسها على الترحيل المأمون للإشارات من منبتها الأصلي وتوطينها في تربة عضوية أخرى، التقيتُ إدمون عمران المليح وتعلّمتُ منه ومن مجاري كلماته المتحوّلَة. كان عمران قد دخل الكتابة – مع نشره روايته الأولى "المجرى الثابت" سنة 1980 عن عمر جاوز الستين عامًا – بعد اختمار طويل في سراديب السياسة وتضاريس الفلسفة ودروب الصحافةّ، وبَعْدَ "تربيته" لكلماته في "ليل الحكي" الداخلي الطَّويل. ومن هذا اللّيل المتسائل والمُخْصب لذاكرتيه المغربية واليهودية، خرجت لُغتُه مهتاجةً، مندلعةً، وصارمة في الوقت نفسه، وكانت رفقتي المديدة لهذه اللُّغة ولعمران بمثابة رسالة ثمينة تَلقَّيتُها في وقت مبكّر من مساري الكتابي. كم فتنني، وأنا بَعْدُ يافعٌ أتلمَّسُ سبيلي بين شعاب الحروف، أن أسمعه يقول إنّ الكاتب يولد ولادته الحقَّة داخل نصوصه، وفيها يموت أيضاً وفيها يُبْعثُ حيّاً. وكم أَثْراني أن أجاورَ تعدُّداته بعض الوقت حين دعاني إلى قضاء ردح من الزمن معه برفقة زوجته ماري سيسيل دوفور، الباحثة الفخمة التي نشرت دراسةً عميقة عن والتر بنيامين. وخلال تلك الضيافة العالية بمدينة الصويرة الأوقيانوسية تعرفتُ عليه، أيضاً، طاهياً مرهفاً، وذوّاقاً راقياً، وناقداً فنّياً يقرأ اللّوحة التشكيلية بنفس الاستغراق الذي قرأ ودرَّسَ به الفلسفة في مرحلة شبابه. إنّ عمله "ألف عام بيوم واحد" ينطبق على يومه الشخصي والإبداعي الضّارب بامتداداته الألوفية ليس فحسب في المرجعيتين المغربية واليهودية، بل أيضاً في أراض ثقافية وفنية كوسمولوجية. لذلك، مثلما تعلّمتُ من الراحل الحاضر عبد الكبير الخطيبي جرأة نشيد الفكر والشعر، الذي اعتبره هايدغر جوهر الحضور في الزّمن، تعلَّمت من إدمون عمران المليح كيفية تحويل كلّ مجرىً ثابت إلى ميلاد رمزي منعتق ودفّاق بالإشارات.
8 . تعود بشكل إبداعي جديد وسمته بـ "مقاطع الدفتر الليلي" يستند في العمق إلى نفس "الكينونة الخرائطية". وفيه اشتغال عميق على لقطات من سياقات راهنة، وعلى الذاكرة في سياق كتابة العَوْد التي تشكّل علامة مائزة لكلّ نصوصك. أي "مكنات حرب" غير مرئية يطولها هذا الشكل التعبيري كاشفاً قوّتها التدميرية للكائن البشري ؟ وأيّ نداءات جوّانية يستجيب لها ؟
·    "مقاطعُ الدفتر الليلي" استئنافٌ، بإيقاع وهندسة مغايرين، لـ "العتبات البدائية" التي كنت ابتغيتُ، خلال السنوات الأربع التي داومتُ على نشرها أسبوعيا بجريدة "العلم" في تسعينيات القرن الماضي، التأشير على ما أسميتَه "الكينونة الخرائطية"، لأن الأمر، في "العتبات"، كان يتعلّق فعلاً بترسيم نقاط عبور داخل أراض قرائية أو طيّ وقائع جيوثقافية ووجوه رمزية عالية، وباقتسام خرائط إشارية مع الرّاغبات والرّاغبين من القراء في الاسترشاد بها في مسالكهم الخاصّة. وهذا الهاجس المغرم بإشراك وتوريط المعنيات والمعنيين من القرّاء بارتحالات المعنى، هو نفسه الذي يُمْلي ويوجّه "مقاطع الدفتر الليلي" من جهة البرقيات التي تبتغي هذه المتواليات المقطعية بعثها من داخل أنفاق العَوْد النّيتشوي الذي أشرتَ إليه، والتي يتعالق فيها الاسترجاعُ والإبداعُ بوشائج تغتذي بدم رمْزيّ يُفْصحُ عن تعدُّداته وعن أسماء الأمّهات الساهرات والأسلاف الساهرين فيه وعليه. وشأنَ التماعات البرق المركّزة التي يحدثُ أن تنبشَ الأراضي الليلية وتكشف عن مكنوناتها الجوفية، أرغب في أن تكون هذه المقاطع، المحتمية أيضاً بالرّمزية العالية للّيل، إيماءات فرحانة باتجاه عُرْس الزّمن الذي يَدْعُونا في كلّ لحظة بأكملنا... لأنّ الوجوه والحالات والبؤر التي تناديها هذه "المقاطع"، بالمعنى الهولدرليني للنّداء، متداخلة ومتعاضدة رغم تباين أزمنتها وجغرافياتها، ويُطعمها حَبْلٌ سُرّي واحدٌ متفرّعٌ، كممرّات المناجم السحيقة، باتّجاه ودائع الموتى وغلاَل الأحياء. شكراً لك أيها العزيز، في موقعك بملحق حديث الأربعاء على استقبال "المقاطع" وغيرها بأناقة الشاعر فيك، وشكراً لجريدة الأحداث المغربية على نبل الاستضافة وجميل الترحيب ...     


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا