خاص
متاجر الكتب ، أو المكتبات ليست محلات
تجارية وحسب ،بل تلعب ايضاً دوراًخر
تنويريا
مهماً بتوفيرها الكتب والمطبوعات الأخرى ، التي تعد المصدر الأساسي للمعرفة والثقافة
.وكلما زرت بلدا جديدا احرص أن أجول داخل متاجر
الكتب فيها .والتي تشغل أحياناً بنايات كبيرة ، وبعضها متعددة الطوابق ، وذات تصاميم
وديكورات فنية رائعة ، تحوي عشرات الألوف من العناوين ، المرتبة حسب الحقول المعرفية
، وبعضها يحتوى على مطعم أو مقهي ، وفيها مقاعد
وأرائك للجلوس وتصفح الكتب من قبل الزبائن قبل اقتنائها ، وقد جهزت هذه المكتبات في
الآونة الأخيرة باجهزة رقمية ، تستطيع من خلالها البحث عن الكتاب المنشود، فتحصل على
نتيجة البحث على الفور . فأن كان الكتاب موجوداً ، ترى على الشاشة خريطة المكتبة والقسم
ورقم الرف الذي يوجد فيه الكتاب المطلوب . وثمة مكتبات لا تقل أبهة وان كان اصغر حجما
ومتخصصة في حقل معين من حقول المعرفة ( الطب ، الهندسة ، العلوم الصرفة ، الفن ...
الخ ) .
اجواء هذه المكتبات رائعة ، حيث عبير الكتب الفواح وشذى أصص الورد العبقِ
، وتشعر فيها بعظمة العقل الأنساني وأنت تمشي بين رفوف الكتب وتتطلع اليها بحثأ عما
يروق لك .
وقد ظهرت في الآونة
الأخيرة في البلدان المتقدمة ما يسمى بالتسوق الألكتروني ، حيث توجد الكثير من المكتبات
الألكترونية التي تستطيع من خلالها شراء الكتاب - أي كتاب – لتصلك بعد بضع ساعات أو
أقل اذا كنت في المدينة ذاتها . ربما سأنسى يوماً ما ، أسماء هذه المكتبات – الحقيقية منها
والأفتراضية - ولكني لن أنسى ما حييت إسم
مكتبة " سربستي " ، العزيزة على قلبي وروحي ، أتذكرها كلما مددت يدي الى
احد رفوف الكتب في مكتبتي المنزلية ، لأتناول كتاباً قديما وثمينا اقتنيته من هذه المكتبة
الصغيرة مساحةً ، والكبيرة دوراً وتأثيراً في الحركة الثقافية في اربيل خلال خمسينات
القرن الماضي ، أقول الخمسينات ، لأن ما سأتحدث عنه في الفقرات اللاحقة يرجع الى الفترة
بين عامي (1954-1959 ) حيث سافرت في أواخر عام 1959 الى الخارج في بعثة دراسية ، وأنقطعت
أخبار المكتبة عني .
كانت مكتبة " سربستي
" لصاحبها الطيب الذكر ، رؤوف معروف لا
تزيد مساحتها على عدة أمتار مربعة ، ولكنها كانت مركز الأشعاع الفكري والثقافي في مدينتنا
العريقة أربيل ، خلال أواخر العهد الملكي وأوائل عهد ثورة 14 تموز . " سربستي
" فتحت لنا بابا رحباً الى عالم العلوم
والثقافة. هذه المكتبة كانت جامعتي الأولى وجامعة معظم مثقفي أربيل في تلك الفترة
.
الدور الثقافي والوطني لمكتبة " سربستي " :
تأسست المكتبة عام 1947 ، وكانت تقع مقابل مطبعة " كيو مكرياني
" في قلب المدينة. وأول مكتبة في أربيل يحمل اسماً كورديا بالغ الدلالة ، يعبر
عن طموحات الشعب الكوردي الى الحرية .صحيح
ان هذه المكتبة لم تكن الأقدم عمراً في أربيل ، فقد كانت ثمة عدة مكتبات أخرى ، بعضها
أسبق منها ، مثل مكتبة " هولير
" لصاحبها شيخ محمد المعروف ب "شيخه شه ل" وكانت متخصصة في بيع الصحف اليسارية والأصدارات
الماركسية وتشغل دكانا أو ركنا صغيرا مستقطعا من أحد الدكاكين الملاصقة لبدن القلعة
وأعتقد أنها كانت اشبه بوكر – تحت يافطة مكتبة -
للحزب الشيوعي السري المحظور في العهد الملكي، اكثر من كونها مكتبة بالمعنى المعروف لهذه الكلمة
. ومكتبة”العسكري" لصاحبها الضابط المتقاعد” فاروق عبد الرحمن ، ومكتبة”الجهاد“
لصاحبها عبد الوهاب الصائغ ، وهو من اهالي الموصل ، ومكتبة الأخوة الأسلامية - المقر
المقنّع لتنظيم " الأخوان المسلمين " – حيث كنت تجد فيها كتب حسن البنا وسيد
قطب ومنظري التنظيم الآخرين . هذه المكتبات الأربع الأخيرة لم تنهض بدور يذكر في اجتذاب
المثقفين بالمقارنة مع مكتبة " سربستي " ذات الشهرة المدوية ، بفضل صاحبها
، الرجل الذكي، والنشيط في توفير ما يلبي حاجة القراء حقاً وبسرعة يحسد عليها ، كان
يمكنك اقتناء كتب المؤلفين العراقيين والصحف
والمجلات العراقية في اليوم التالي لصدورها ، والمطبوعات المصرية واللبنانية بعد بضعة
أيام ، وكان عدد المشتركين في الصحف والمجلات عن طريق " سربستي " كبيرأً.
" سربستي " كانت سباقة في عرض آخر الأصدارات
الكوردية من كتب ومطبوعات دورية -على قلتها في ذلك الوقت- ومنها دواوين الشعراء الكورد " حاجي قادر كويي
، بيره ميرد ، دلدار ، بي كه س ، كوران ، هردي
، " وبعض الصحف الكردية مثل " زين " الصادرة في السليمانية
..
المجلات والصحف الصادرة
باللغة الكوردية في بغداد ، لم تكن تدوم طويلا في ظل النظام الملكي القمعي ، ولو راجعنا
دليل الصحافة الكوردية نجد ان هذه الدوريات في السنوات التي نتحدث عنها ، كانت تحتجب
بعد صدور بضعة أعداد منها اما بألغاء اجازاتها أو بمنع الأعلانات عنها ، هذا المنع
كان يؤدي الى تعذر استمرارها في الصدور ، وكانت غالبيتها تعود الى شخصيات اجتماعية
أو ثقافية كوردية . وربما الأستثناء الوحيد هو مجلة " كلاويز " التي دامت
حوالي عشر سنوات ، لأنها كانت مجلة أدبية في المقام الأول وتتجنب الخوض كثيراً في غمار
السياسة أو انتقاد السلطة القائمة بشكل مباشر وان كانت تنشر العديد من المواد القيمة
المتعلقة بتأريخ الكورد ولغتهم وثقافتهم . وللتعويض عن شحة الكتب والدوريات الكوردية
. كانت " سربستي " توفر الصحف اليسارية والوطنية التي تولي اهتماماً ملحوظاً
بالقضية الكوردية ، وتنشر مقالات ونتاجات الكتاب والشعراء الكورد
" سربستي " كانت قبلة المثقفين في أربيل
. ففيها كنت تجد آخر الأصدارات من الكتب العربية
( العراقية ، المصرية ، اللبنانية ) لمؤلفين مشهورين مثل العقاد ، والمازني ، وطه حسين
، وسلامة موسى ، ونجيب محفوظ ، ومحمود تيمور ، وميخائيل نعيمة ، والشعراء شوقي ، والجواهري
، واحمد ناجي ، ومحمود طه المهندس ، والرصافي ، والزهاوي ... والقائمة تطول ) . وكان
صاحب المكتبة يضع الأصدارات الجديدة على واجهة المحل . كما كانت المكتبة بمثابة الموزع
الرئيس للمجلات الثقافية العربية مثل ( الهلال ، الثقافة ، الرسالة ) المصرية ، و(
الآداب ، الأديب ، الطريق ) اللبنانية ، ( والثقافة الجديدة قرندل ، الوادي ) العراقية وكذلك المجلات المصرية العامة والفتية مثل
( روز اليوسف ، آخر ساعة ، المصور ، الأثتين
، الكواكب ، حواء ) وبعض المجلات الطبية مثل مجلة ( طبيبك ) السورية والعلمية مثل مجلة
( العلوم ) اللبنانية وغيرها .
كان صاحب المكتبة رجلاً وطنيا ، ولم يكن من السهل عليه الحصول على رخصة للمكتبة
بهذا الأسم في زمن كان النظام الملكي يضيق الخناق على المطبوعات الكوردية من كتب ومجلات
وجرائد . واسم المكتبة يدل على اتجاه صاحبها السياسي ، لذا كانت تحت رقابة أجهزة الأمن
، خاصة ، انه كان الموزع الرئيسي لصحف الأحزاب الوطنية وفي مقدمتها جريدة " الأهالي
" الناطقة بأسم الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة المرحوم كامل الجادرجي . وقد تعرضت
" الأهالي " للحجب والألغاء عدة مرات . وكان الجادرجي يلجأ في كل مرة الى
طلب الحصول على امتياز جديد للجريدة تحت اسم آخر قريب من اسم الجريدة الملغاة ( صوت
الأهالي ، صدى الأهالي ) وتعاود الصدور من جديد . وكانت الرقابة في بغداد تحذف أحياناً
بعض مواد الجريدة ، مثل المقال الأفتتاحي ، ولكن الجريدة تترك المساحة التي كانت تشغلها
تلك المواد فارغة بيضاء ، كشكل من أشكال الأحتجاج
على الرقابة الحكومية . أجهزة الأمن في اربيل كانت تراقب المكتبة عن كثب لتحديد من
يشتري الصحف اليسارية يوميا . والى جانب هذه الجريدة كانت هناك جريدة الزمان الرصينة
، وجريدة ( الشعب ) الموالية للحكومة . ولكن اغلب المثقفين في أربيل كانوا يتابعون
بشغف ما تنشره جريدة الجادرجي ، الذي كان دائماً الى جانب الشعب الكوردي في النضال
من اجل حقوقه القومية المشروعة . وتمتاز " سربستي " بميزة أخرى ، لم تستطع
أية مكتبة أخرى في أربيل مجاراتها ، وهي انها كانت تقوم بتوصيل الصحف والمجلات للمشتركين سواء في أربيل
أو ضواحيها وفي تلك السنوات رأيت السيد صالح
– شقيق صاحب المكتبة – وهو يتنقل بين مصايف أربيل لأيصال المطبوعات الى المشتركين أو
بيعها ، خاصة في شقلاوة خلال فصل الصيف حيث كان هذا المصيف الخلاب تزدحم بالمصطافين
من الموصل وكوكوك وبغداد والمدن الأخرى .
كانت المطبوعات من كتب ومجلات شهرية أو أسبوعية وصحف يومية تصل أربيل عن طريق
خط قطار (بغداد – كركوك – أربيل) في حوالي الساعة العاشرة من صباح كل يوم ، وكنت ترى
المثقفين الشغوفين بالقراءة أو متابعة الأحداث السياسية يتجمعون أمام مكتبة سربستي
ويبلغ الزحام اشده في حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا ، حين يصل السيد صالح ، قادما
من محطة القطار ومعه رزم الكتب والمجلات والصحف الصادرة حديثاً. فترى القراء يتسابقون
الى أقتناء ما يعجبهم من هذا الغذاء الروحي الدسم . كنت في هذه المرحلة في المدرسة
الثانوية ، وأحرص على اقتناء ثلاث مجلات هي الآداب اللبنانية والهلال المصرية والثقافة
العراقية ، اضافة الى اصدارات دار الهلال الأخرى مثل سلسة ( روايات الهلال ) ، وما زالت اعداد هذه السلسلة في مكتبتي الشخصية أحتفظ بها ليس لمجرد الذكرى ،
بل لأنها تضم خير ما في الأدب العالمي من روايات وقصص بشهادة الزمن .كما تمتاز ترجمة
هذه السلسلة بمستوى رفيع ، يفتقر اليه من يتصدى لترجمة الروايات والقصص الأجنبية في
أيامنا هذه .
القراءة بين الأمس واليوم :
تصدر في اقليم كوردستان اليوم مئات الكتب باللغة الكوردية سنويا في شتى حقول
المعرفة ، والأدب والفن ، إضافة الى مئآت المطبوعات الدورية ومعظمها باللغة الكوردية
أيضاً ، وفي العاصمة أربيل وحدها عشرات المكتبات ( متاجر الكتب ) الزاخرة بالأصدارات
الحديثة ذات الطباعة الفاخرة ، ولكن هذه المكتبات تشكو من قلة روادها وشحة مبيعاتها
، رغم أن اسعار الكتب في أربيل - وخاصة اصدارات دور النشر الحكومية أو شبه الحكومية
أو الصادرة عن المنظمات والجمعيات والأتحادات وبضمنها أصدارات الأكاديمية الكوردية
واتحاد الأدباء الكورد – زهيدة بالقياس الى الدول المجاورة ، الا أن الأقبال على القراءة ، أضعف مما كان في الماضي . وقد يبدر الى الذهن
أن السبب يعود الى الأزمة المالية التي يمر بها الأقليم . ولكني أعتقد أن السبب الرئيسي
لا يكمن في القدرة المالية للقراء بقدر ما يعود الى توافر وسائل الأعلام المختلفة ،
الأكثر تشويقاً وجذباً وخاصة لفئة الشباب
( الأنترنيت ، القنوات الفضائية ) ووسائل التسلية والترفيه العديدة . كما أن الحياة المعاصرة وتعقيدها ،التي تتسم بدرجة عالية
من التوتر النفسي والأجهاد العصبي لا تترك فسحة كافية من الوقت للقراءة الجادة -
الوسيلة الفعالة لأكتساب المعرفة وتحصيل الثقافة - وبأستثناء القيصرية الخاصة بالمكتبات في سفح قلعة
أربيل التأريخية ، قلما تجد من يرتاد المكتبات الأخرى ( مقابل المدرسة الأيوبية ) أو
يتابع صدور هذه المجلة أو تلك ، ربما بأستثناء مجلة " صوت الآخر " التي تنفد
أعدادها من السوق فور طرحها للبيع في أربيل أيام الخميس . وهذه ليست مجاملة للمجلة
التي أنشر فيها مقالاتي ، فأنا لا آجامل أحداً على حساب الحقيقة . وعلى الجملة يمكن
القول أن معظم رواد قيصرية المكتبات اليوم هم من الكتاب والشعراء والأعلاميين أنفسهم
، على النقيض من جيل " سربستي " الذي كان يبحث عن الغذاء الروحي والثقافي
ويتابع بشوق ولهفة كل اصار جديد في المجال الذي يستهويه ، دون أن يفكر يوما بالكتابة
والنشر ، الا ما نذر .
الظاهرة التي أتحدث عنها لا تقتصر على اقليم كردستان ، بل هي ظاهرة عالمية
الى هذا الحد أو ذاك .
المثقفون الأحياء من الجيل القديم – أطال الله أعمارهم – خريجي جامعة
" سربستي " هم اليوم قلة نادرة ، يلوذون بصومعاتهم وينهلون من عصارة عقول
عظماء الفكر والثقافة . هل ثمة زاد أثمن من هذا الغذاء الروحي ؟