كتب ـ محمد الحمامصي
عن موقع ميدل إيست أونلاين
أكد الكاتب الصحفي الفرنسي إيدوي بلينيل في كتابه
"من أجل حرية الصحافة" في نسخته العربية الصادرة أخيرا عن دار صفصافة بالقاهرة،
ترجمة بسنت عادل محمد، أن جودة الإعلام تتطلب أن يُعاد اختراعه مجددًا في عصرالثورة
الرقمية.
وقال "إن المرجعية والكمال هما من القيم الأصيلة
للصحافة القديمة التي يجب أن تجد لها شكلًا وترجمة أخرى في ظل الثورة الرقمية، حيث
أصبح مستقبلها غير مؤكد إذا ظلت على دعائمها القديمة. أليست المعلومات متاحة من الآن
فصاعدًا بوفرة عبر مختلف الشاشات لدرجة أنها قد تصبح زائدة عن الحد؟ ألا يقوم مستخدم
هذه المعلومات بنفسه بإنتاج مراجعه، وبالتالي تنظيم أبحاثه ومضاعفة وثائقه؟
وقال "إن عصرنا الانتقالي هذا، حيث يحاول القديم
جاهدًا التغير ويحاول الجديد جاهدًا إيجاد مكان له، لا يخلو بلا شك من المحاولات والعثرات،
والطرق المؤقتة والمسارات التي لم تُكتشف بعد. ولكن هؤلاء الذين يرتعبون من الإمكانيات
الديمقراطية الهائلة الخاصة بالانترنت يعمدون إلى تشويهه والسخرية منه، متهمين إياه
بالرتابة والسطحية والإرباك؛ أي بعبارة أخرى، فيما يخص المعلومات، ليس هناك تنوع أو
رؤية أو تدرج هرمي. هذا التراجع الواضح ليس حتميًا، وليست التكنولوجيا بذاتها سببًا
فيه، ذلك أنه النتيجة المباشرة للنماذج التجارية المهيمنة حاليًا، والتي تجذب الجمهور
بدعوى المجانية. بل العكس تمامًا، فالتكنولوجيا الرقمية لم تتح فحسب العمليات ذات الطبيعة
المتعلقة بالصحافة الجيدة، بل سهلت تلك العمليات بما تتضمنه من فرز للمعلومات وعمق
التوثيق ووقتية المعلومات – وهناك العديد من الأمثلة الأخرى التي تزخر بها شبكة الإنترنت".
وأضاف بلينيل لكن هناك أيضًا ما هو أفضل من ذلك،
فالثورة الرقمية وضعت حدًا للقيود التي كانت تضعها الصحف لنفسها "عدد الحروف والكلمات
والصفحات"، وبذلك تكون قد بعثت إلى الحياة يوتوبيا الصحافة التي لم تتحقق يومًا.
في نفس الفترة التي صدر فيها "دفتر المعلومات"، هذه "الصحيفة الحقيقية"
التي كان يحلم بها شارل بيجي، ظهر عبر الأطلنطي مشروع آخر؛ "أخبار الفكر"،
الذي أسسه الصحفي روبرت بارك؛ المؤسس المستقبلي لمدرسة علم الاجتماع في شيكاغو وصديق
هفرانك لينفورد؛ واضع نظرية "الأخبار الكبيرة"، التي تهتم بالاتجاهات الأساسية
وتترك الحركات السطحية.
ورأى أنه يجب العمل على استعادة ثقة القراء الذين
خذلتهم الصحافة. وقال "بفضل الثورة الرقمية وإمكانياتها التفاعلية، ستولد تلك
الثقة من رحم هذا النظام البيئي الجديد الذي يجمع بين العمل المحدد للصحفيين والنقاش
الديمقراطي مع الجمهور، مما يؤدي إلى زيادة التفاعل والمواجهة فيما بينهم، ولكن جمهورا
متفاعلا وليس متفرجًا. إذ إن "المعلومات، وليس التعليقات، هي التي تصنع الرأي
العام"؛ هذا ما يحب أن يكرره روبرت بارك، الذي يضيف: "لا يمكن بناء رأي عام
على أي حراك سياسي إذا كان الجمهور لا يعلم ماذا يحدث، ولا حتى من خلال العناوين الكبيرة".
فالصحفي الذي يمتلك الحقائق يقوم بدور إصلاحي أكثر
من المحرر الذي يصرخ على المنبر بصوت عالٍ وبكلمات رنانة. باسم هذا المطلب، كان بارك
نفسه، الذي ينتمى إلى نفس التيار الفكري الذي أثر في باراك أوباما، يؤكد أيضًا على
مسئولية الصحافة فى بناء جمهور ديمقراطي، يتناقش ويتبادل الآراء، في مواجهة الانحدار
الذي يرمز إليه القطيع، هذا الجمع من الأفراد المنعزلين الذين يرفضون التنوع والاختلاف".
وأوضح بلينيل "مع ظهور وسائل الإعلام الشخصية،
أسقطت ثورة الإنترنت الصحافة التقليدية من برجها العاجي الذي ادَّعت فيه احتكارها للرأي.
الآن على الصحافة التقليدية أن تتعلم مرة أخرى، أحيانًا على حساب خسائرها، أن الأحكام
ووجهات النظر والتحليلات والتعليقات والالتزامات والخبرات والمعارف، ليست عناصر تمتلكها
هي بشكل حصري، وذلك في حالة إن نسيت. وهذا من الأخبار الطيبة؛ لأننا نستطيع أن نجد
أخيرًا أن الصحافة قد عثرت على مكانها الصحيح عن طريق هذه المعايير: البحث عن المعلومات
والوقائع والحقائق والعثور عليها والكشف عنها وفرزها وترتيبها بحسب الأولوية ونقلها،
ذلك أنها تُستخدم لفهم العالم المحيط بنا، والحث على التأمل والنقاش.
وأكد بلينيل أن استقلال الصحافة هو الضمان الأول
لتقديم معلومة موثوق بها. وقال "لا يوجد بحث عن الحقائق بدون استقلال الباحثين
عنها. ينطبق هذا المبدأ على مهنتنا كما على مهن أخرى تعتمد على المعرفة، مثل إجراء
الأبحاث، التعليم، الإحصاء، والطب.
هل من قبيل المصادفة، من بعيد أو من قريب، أن كل
هذه القطاعات تخضع اليوم لهجوم يهدف إلى تقويض هامش العاملين بها، وإخضاعهم لقطاعات
أخرى، لموازين قيم ومبادئ جديدة الهدف منها فقط هو تحقيق الربح؟ فيما يتعلق بالصحافة،
يفترض الاستقلال في القطاع الخاص كما في القطاع العام، رفض أي تدخل خارجي في الهدف
الذي يسعى إليه الإعلام.
فيما يخص الجانب الأخلاقى، هناك مبدأ في غاية الوضوح
نسعى للتمسك به، ألا هو: عدم خلق أي قيمة سوى قيمة المعلومات التي نقدمها من حيث ملائمتها
وأصالتها وندرتها. وعندما تم نسيان هذا المبدأ بسبب اختلاط الأنواع وصراعات المصالح
الخاصة للقائمين على هذا القطاع، حيث توجد أنشطته في كل مكان، ما كانَ من الجهات المالية
الكبرى في النظام الإعلامى الفرنسي إلَّا أن جعلت من الوضع المتأزم بالفعل وضعًا أكثر
تأزمًا، فقد عملت هذه الجهات على التقليل من شأن الإعلام، ومن شأن الوثوق به ومصدر
ثرائه. اليوم، ليس مطلب الجمهور هو المعلومة، ولكن أن يُقدَّم ما يتماشى مع توقعاته.
هدم استقلال الصحافة يؤدي بلا شك إلى عدم جدوى مشاريعها".
أهدى بلينيل كتابه في نسخته العربية إلى "الصحفيون
المصريون، سواء أكانوا مسجونين أو مهددين أو مراقبين أو مستهدفين من التشريعات المقيِّدة
للحريات - كما هو الحال في ظل قانون مكافحة الإرهاب الجديد - يواجهون هذا التحدي في
سياق يختلف في دراميته عن مثيله الفرنسي. بكل تواضع، وبأُخوَّة صادقة، أهدى لهم هذه
الطبعة باللغة العربية".
يعتبر الكتاب بيانا من أجل حرية الصحافة، من أجل
الحق في المعرفة وحرية التعبير، وقد كتب عام 2009 في سياق فرنسي، "يدافع إذًا
عن مُثُل لا حدود لها، تمتد من ضفاف نهر السين إلى ضفاف النيل. إلا أن خصمها لا حدود
له أيضًا: إنها سياسة الخوف التي تتحجج بالتهديدات الإرهابية وحالات الطوارئ الأمنية
لكي تقلل من حرياتنا، بل بالأحرى لكي تدوس عليها بالأقدام. ولكن هذه السياسات العمياء
لا تفعل سوى إنها تزيد من تفاقم الكارثة، وذلك عن طريق منح الإيديولوجيات الشمولية،
التي تعزز سياسة الترهيب، أعظم انتصاراتها؛ ألا وهو التخلي عن الفكرة المثالية للديمقراطية.
هذه السياسات غير مسئولة في تلك اللحظة، كما أنها غير فعالة مع مرور الوقت".
يذكر أن إيدوي بلينيل بدأ حياته المهنية في عام
1976 كصحفي لجريدة
" Rouge" اليسارية الثورية، الحق لاحقا بصحيفة
"لوموند" الفرنسية، إحدى أكبر الصحف الفرنسية حتى وصل لمنصب رئيس تحرير الصحيفة
عام 2000. واستقال من هيئة تحرير صحيفة لوموند في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2004، وفي
عام 2008 "ميديا بارت"، وهي مجلة إلكترونية لا تقبل الإعلانات، وتمولها اشتراكات
القراء بالأساس، وتحولت "ميديا بارت" إلى الربحية عام 2011.