من مجلة "الطريق" كانت البداية. محمد
أديب السلاوي
بعد أقل من ثلاث سنوات، من وصولي إلى العاصمة الرباط،
وانخراطي في مناخاتها
الإعلامية والثقافية، بفضل احتضان ورعاية الأستاذ عبد الجبار
السحيمي رحمه الله، وجدت نفسي (في مارس
1963) متعاقدا مع الأستاذ محمد الإدريسي(1)، صحفي/ مذيع/ ومنتج برامج بالإذاعة الوطنية،
من أجل إصدار مجلة الطريق (ثقافية، سياسية، مصورة جامعة).
كانت مجلة المشاهد للصحفي مولاي مصطفى العلوي(2)،
قد توقفت عن الصدور خلال هذه الفترة، حيث ظل المجال قابلا لاستقبال منتوج إعلامي جديد،
خاصة إذا كان مدعوما من أسماء إعلامية وازنة.
بحضور الأستاذ السحيمي، وبمباركة الزعيم علال الفاسي
الذي كان في هذه الفترة عضوا بارزا في البرلمان المغربي الأول، اعددنا التصور المنهجي
لهذه المجلة، وحصلنا على رخصة الإصدار، وشرعنا في كتابة المقالات، ووضع الماكيطات الضرورية،
والاتصال بالكتاب المشجعين، والاتفاق مع المطبعة، ومع شركة سوش بريس للتوزيع. في شهر
ماي من هذه السنة (1963) كان العدد الأول من مجلة الطريق بالأكشاك، بغلاف ساطع، يحمل
صورة للمطرب عبد الوهاب الدكالي وهو يتأبط دراع الفنانة المصرية سعاد حسني، في وضع
رومانسي واضح... يتضمن العدد إضافة إلى الحوار مع المطرب الشاب عبد الوهاب الدكالي،
العديد من المقالات السياسية عن الشخصية الإرهابية للجنرال أوفقير(3)، وعن قضايا التعليم
والسياسة والثقافة بأقلام نخبة من المثقفين الشباب، اذكر من بينها مقالا بارزا للأستاذ
محمد العربي المساري بعنوان: كيف تصبح وزيرا في سبعة أيام؟
حصد العدد الأول من هذه المجلة، أصداء واسعة في
الصحافة المغربية والعربية، استقبل بتعاليق مشجعة لم أكن أتصورها أو انتظرها، وهو ما
جعلني وصديقي (رئيس التحرير) محمد الإدريسي، نطلب من الزعيم علال الفاسي حوارا سياسيا
خاصا لعددها الثاني، حول الحياة البرلمانية المغربية، التي كانت تجمع كل الأطياف السياسية...
والتي كانت في بدايتها ساخنة، تؤسس لقيم الديمقراطية ودولة الحق والقانون والمؤسسات،
وفقا لمفاهيم الدستور الأول لسنة 1961.
استقبلنا الأستاذ علال الفاسي رحمه الله بمقر البرلمان
(كلية العلوم/ إلى جانب المكتبة العامة للكتب والمستندات)، ورحب بفكرة الحوار، ولكنه
طلب منا قبل تسجيله إمداده بالأسئلة التي نقترحها حتى يتمكن من أعداد الأجوبة المناسبة
لهذه المجلة الفتية.
والحقيقة، لم يكن من السهل علينا إعداد أسئلة سياسية
موضوعية في حجم رجل من حجم هذا الزعيم/ العالم/ المثقف، أسئلة عن ما كان يجري بالبرلمان
المغربي الأول من قضايا تؤسس للديمقراطية/ لدولة حديثة عهد الاستقلال، لأجل ذلك التجأنا
إلى الذين هم أكبر منا سنا ومعرفة وثقافة سياسية، لإعداد الأسئلة الضرورية. التجأنا
إلى الأستاذ أبو بكر القادري(4)، بمدينة سلا، وإلى الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله بالرباط،
من أجل إخراجنا من هذه الورطة، باعتبارهما من أقرب أصدقاء الزعيم الاستقلالي، ومن أقرب
رفاقه في الساحة السياسية.
لم نكن قد أتممنا طبع العدد، الثاني من مجلة الطريق،
الذي حاولنا أن نؤكد من خلاله قدرتنا على الاستمرار كصحفيين شباب، قادرين على
"صيد" الموضوعات اللائقة والمناسبة والمواتية للظرفية السياسية المغربية،
حتى توصلنا بدعوة مفاجئة من السفارة المصرية بالرباط، لحضور احتفالات 23 يوليو بالقاهرة...
هل هي أحلام يقظة..؟ أم هي الحقيقة..؟ هل الصحافة
تحقق لنا نحن الشباب كل هذا... كل هذه الأحلام..؟ إنها قفزة نوعية لا تصدق بسهولة،
مرة أخرى أصابتني دوخة عارمة... القاهرة، بلد طه حسين والعقاد والمازني ومحمد عبد الوهاب
وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ ونجيب ومحفوظ ويوسف السباعي وفريد شوقي واسماعيل ياسين،
بلد جمال عبد الناصر، تدعوني... توجه لي الدعوة باعتباري مدير مجلة الطريق لحضور احتفالات
مصر بثورة 23 يوليو، يا له من قدر!
أخبرت أصدقائي، في مقدمتهم الأستاذ عبد الجبار السحيمي
بهذا الخبر السار، فاخبرني بدوره أن مجموعة من الصحفيين والأصدقاء، توصلوا بنفس الدعوة...
وأنه سيمثل جريدة العلم باحتفالات مصر الشقيقة، إذ سنكون رفيقين، وطلب مني أن أهيئ
نفسي لرحلتي إلى القاهرة.
قلت له: إنها المرة الأولى التي سأغادر فيها إلى
خارج المغرب.
قال: في الصحافة الأمر سهل، ستسافر كثيرا، ولربما
سيأتي الزمن الذي ستكره فيه السفر والترحال الإعلامي، ضحكت وقلت له: لا أعتقد ذلك،
لأني من هواة السفر ومن عشاق مغامراته.
هيأت حقيبتي السفر قبل موعد السفر بأيام... وتسلمت
بطاقة ذهاب وعودة بالطائرة من الخطوط الفرنسية قبل أيام كذلك، لم يكن للمغرب في هذه
الفترة (1963) خطا مباشرا يربط الدار البيضاء بالقاهرة، إذ كان الوصول إليها يمر عبر
باريس... أي عبر العاصمة الفرنسية/ قضاء ليلة بمدينة التيه والأضواء.
ولأن هذه الرحلة، ستكون في صحبة الأستاذ عبد الجبار
السحيمي، وصحفيين آخرين، لم أحمل لها هم... سأكون في صحبة وحماية الأصدقاء والرفقاء
والزملاء، الذين لهم –بلا شك- تجارب في الأسفار. وفي مغامراتها... ولربما عذاباتها.
في الموعد المحدد للسفر، (وكان زوال يوم 20 يوليو)،
وصلت مطار آنفا بالدار البيضاء (وهو المطار الذي كان يتوفر عليه المغرب آنذاك بالعاصمة
الاقتصادية) ولم أجد احد لا من الأصدقاء ولا من الرفقاء... سألت قسم الإرشادات بالمطار
عن الصحفيين المغاربة المسافرين إلى القاهرة، قالو لي: إنهم سافروا إلى باريس، على
رحلة التاسعة صباحا... وستلتقي بهم إن شاء الله في باريس.
يا إلاهي... ما هذه الورطة..؟
كيف سأجدهم في باريس... وأين..؟
قبل أن تنزل الطائرة على أرض مطار أورلي، طلبت إرشادات الخطوط الجوية
الفرنسية، من المسافرين إلى القاهرة، الاتصال بالشباك رقم 1 بقاعة الوصول، من أجل حجز
مقعد السفر إلى القاهرة، وتأمين غرفة الفندق لقضاء الليلة بباريس.
حمدت الله وشكرته، لأنه وضعني بين أيدي آمنة... أيدي الخطوط الجوية فرنسية،
التي تحسب الحساب لكل شيء، والتي أجابت عن الأسئلة الحائرة التي كانت تدور في ذهني
حول باريس، وليلتي بها.
خرجت ومجموعة من المسافرين القاصدين إلى القاهرة، من المطار على متن حافلة
صغيرة مباشرة إلى الفندق، في دقائق وجدت نفسي أعانق أضواء باريس، التي لا تشبه أضواء
أي مدينة أخرى.
وما كدت أتوجه إلى إرشادات الفندق حتى تراءى لي بإحدى زواياه الرومانسية،
الأستاذ عبد الجبار السحيمي، وثلة من الزملاء الآخرين، اذكر من بينهم، مصطفى العلوي،
ابراهيم السلمي(5)، محمد برادة.
حمدت الله مرة أخرى، لأنه انقدني من عزلة محققة،
في هذا الفندق الذي يشبه بمتاجره ومقاهيه ومطاعمه وقاعات ألعابه المتنوعة، مدينة متحركة
في التيه، واتجهت إلى الأصدقاء الذين كانوا في انتظار وصولي من المغرب، لأخذي في جولة
باريسية، استمرت إلى الصباح، أي إلى موعد ركوب الطائرة التي ستأخذنا إلى القاهرة.
في القاهرة، لربما كنت العنصر الأضعف في هذه الشلة،
أنا الوحيد الذي لم أكن أعرف القاهرة/ العاصمة المصرية وخرائطها وأعلامها، إذ سبق لهم
جميعا أن قاموا بزيارات متعددة لها، وتعرفوا عليها في مناسبات سابقة، ولكني كنت أكثرهم
حماسا لربط العلاقات والتعرف على الفنانين والمثقفين والسياسيين، ولزيارة المتاحف والمسارح
وقاعات العروض التشكيلية والأندية الثقافية والمقاهي المشاغبة، كنت سائحا مجنونا...
ومشاغبا، وهو ما جعل المرحوم الأستاذ عبد الجبار السحيمي يكتب في مذكراته بجريدة العلم
بعد عودتنا... "مجلة الطريق دفعت م.أ.السلاوي في القاهرة، إلى احتراف مهنة المتاعب
بجنون، وإلى ملامسة وجوه القاهرة المختلفة بليونة، حيث كان أكثرنا شغبا... وأكثرنا
اشتغالا".
*****
(1) صحفي بالاذاعة، اشتغل بداية باذاعة الرباط المركزية، ثم انتقل الى اذاعة
مدينة فاس، التي أنتج بها العديد من البرامج، قبل أن يتقاعد ويتحول الى كتبي.
(2) صحفي/ كاتب، مدير
العديد من الجرائد الاسبوعية، منها جريدة" الاسبوع الصحفي" من كتبه الشهيرة،
"صحفي وثلاثة ملوك".
(3) تقلد العديد من الوظائف
الحكومية في عهد الاستقلال، آخرها وزير الداخلية، ولد بقرية عين الشعير/ بوعرفة سنة
1920.، تزعم محاولة انقلاب ضد جلالة الحسن الثاني سنة 1972، واعدم في 16 غشت 1972.
(4) مناضل في صفوف حزب
الاستقلال، كاتب ومؤرخ، له العديد من المؤلفات التاريخية الهامة عن الحركة الوطنية
المغربية، ازداد سنة 1914 بمدينة سلا، وتوفي بها سنة 2012.
(5) شاعر وكاتب من مدينة
طنجة، له اصدارات عديدة، منها " الشعر المغربي في زمن الحماية".