نشر باتفاق مع الكاتب
غادرنا خلال الأسبوع الماضي القاص إبراهيم زيد، والباحث محمود ميري. وقبل انتهاء السنة توارت فاطمة المرنيسي، ومعها مصطفى المسناوي، في المغرب، وإدوار الخراط
وجمال الغيطاني في مصر. ينفرط عِقد جيل، وفي كل مرة تختفي منه حجرة كريمة أو لؤلؤة يتيمة. نتوقف قليلا لنتبادل كلمات التعازي والسلوان. وقد نسمي إحدى قاعات المعرض الدولي للكتاب بأسماء من رحلوا، وقد نطلق أسماء بعضهم على أزقة ضيقة، أو مؤسسات في قرى نائية، ثم يهيمن سلطان النسيان.غادرنا خلال الأسبوع الماضي القاص إبراهيم زيد، والباحث محمود ميري. وقبل انتهاء السنة توارت فاطمة المرنيسي، ومعها مصطفى المسناوي، في المغرب، وإدوار الخراط
في قول مأثور للإمام علي: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا». في حالتنا، يمكن القول: الناس نيام، فإذا مات أحدهم أفاقوا، لكنهم سرعان ما يعودون إلى نومهم. إننا لا نُفيق إلا على محاسن الشخص، لكننا في حال نومنا لا نعدد إلا مساوئه، ثم لا نلبث أن نعود إلى نومتنا، فننسى كل فضائله، وقد لا نذكر غير مثالبه حسب المقام والسياق؟
عِقد الجيل الثقافي الذي عايش هزيمة 1967 بدأ ينفرط ، وفي كل مرة نسمع هنا أو هناك عن اختفاء علامة من علامات ذلك الجيل الذي ساهم بشكل أو بآخر في تأثيث المشهد الثقافي بإبداعات أو أفكار أو مشاريع أعمال. عايش هذا الجيل سنوات من الاستعمار، وعاش الهزيمة، وعانق أحلاما كبرى. التف على أفكار كانت لها سطوتها على المستوى العالمي لمواجهة تعاظم الإمبراطورية الأمريكية التي كانت توصف بالإمبريالية، ومن لم يختف قبل نهاية الثمانينيات عاين سقوط الحلم، من خلال وقوع جدار. وها هو يشاهد بأم عينيه الإمبراطورية الروسية الحالمة تتدخل لقتل مئات السوريين من المدنيين فقط لأنهم قالوا لا لنظام يعادي شعبه ويعمل بلا هوادة على تقتيله وتجويعه وتهجيره. ولم يكن أمام هذا الجيل غير اجترار الهزائم ورؤية سقوط الأحلام وانسداد الآفاق.
تشكل وعي هذا الجيل على رفض الماضي، وعلى الإيمان بمقولة الشعب، وعلى المناداة بالوحدة وتحرير فلسطين. ولم تتولد عن ذلك الرفض والإيمان والمناداة سوى حساسيات مفرطة ضد التراث وضد الانفتاح على المختلف، سواء كان اعتقادا أو عرقا. وها هو التراث يعود محملا بكل أعبائه التاريخية، لا بفضائله التي جعلت الحضارة العربية ـ الإسلامية تحتل موقعا مهما في تاريخ الإنسانية. وها هي الاعتقادات المتباينة والطوائف المتضاربة تحتل الشوارع بالسيارات المحملة بالصواريخ ومضادات الطائرات. وها هي الأعراق تتنافس على إعلان شرعية وجودها، بل وتطالب باستقلالها.
أهي مسؤولية الثقافة أم السياسة؟ أم هو القدر التاريخي الذي يدفع الشعوب في لحظات معينة من صحوتها من نومتها التاريخية إلى طرح أسئلة وتغييب أخريات، أو تهميشها. فلا يسعها، مع الزمن، إلا أن تشرئب برؤوسها، مقدمة نفسها بديلا عن الأسئلة السابقة وقد صارت نسيا منسيا؟ وبما أن الأسئلة الجديدة، وهي تُفيق، لأنها وليدة ماض، شاركت هي أيضا بوعي في صنعه، تحاول استنساخ الأجوبة القديمة المضادة لها، فلا تكون سوى الحساسية المفرطة ضد كل ما كان في فترات خلت. وتظل الدائرة ونقيضها؟
هكذا نجد من كان يدافع عن الأممية ينافح اليوم عن الطائفية والعرقية. ومن كان يتبنى الارتباط والوحدة يتطلع اليوم إلى التقسيم وفك الارتباط… كما أننا نجد، بالمقابل، من كان يعارض الديكتاتورية القومية والاشتراكية، أو الرجعية، يطالب اليوم بفرض الديكتاتورية الدينية والطائفية والعرقية باسم الدفاع عن الخلافة أو الهوية أو الطائفة. ما الذي يتغير مع الزمن؟ وهل لا يمكن لزماننا إلا أن نعيد فيه الكرة، في كل مرة، بالطريقة نفسها، فنحارب الأقصى بما هو أقصى. فلا نمارس إلا ما كان يمارس ضدنا، وبعنجهية أشد وأقوى.
لا تعني هذه العلاقة الزمنية سوى القطيعة لا الاستمرار، لذلك كلما انتبهنا من نومتنا، على إثر انتهاء مرحلة، وجدنا أنفسنا نخلد في نومة جديدة، فلا نفيق إلا لنعود إلى النوم، فلا يحصل التطور ولا التقدم، قد نعدد مثالب الماضي، لكن سرعان ما نبدأ بالحنين إليه. حاربنا الاستعمار، فما فرحنا بالاستقلال حتى بتنا نتذكر فضائله. وحلمنا بالتخلص من الديكتاتوريات، فلما رأينا الديكتاتوريات الجديدة عاودنا الحنين إلى القديمة: نوم طويل، نفيق بعده قليلا، لنعود إلى النوم من جديد. لا تتغير إلا الدوال، أما المدلولات، وإن اختلفت، فواحدة.
هنا تأتي المسؤولية الثقافية، المسؤولية الثقافية يقظة لأنها تميز بين النوم والانتباه وتضع كلا منهما في سياق تطور الزمن. يتحمل المثقفون والسياسيون مسؤولية الوعي بهذه المسؤولية وتحديد قواعدها لضمان صيرورة لا تعيد التجربة السابقة، ولا تستعيدها أو تستنسخها، لأن نظرها مشدود إلى المستقبل.
في غياب المسؤولية الثقافية نمارس المحو اليوم، باسم محاربة المحو الذي كان بالأمس، فلا نمارس الاستمرارية بين الأجيال والتجارب؛ ولا تكون سوى القطيعة، التي لا تعني سوى الخضوع لسلطان النسيان، ما نمارسه في السياسة نقوم به في الثقافة.
يتحدد الوعي بالمسؤولية الثقافية في انتهاج رؤية ثقافية تقوم على التطور المبدع لا القطيعة التي تستعيد الماضي بكيفية أخرى، إذا أفاقنا الموت، علينا أن ننهض، ونغير الحساسيات، لا أن نعود إلى النوم؟
كاتب مغربي
المسؤولية الثقافية
سعيد يقطين