من بين المشكلات التي تواجهها الثقافة المصرية، تبقى مشكلة عصية على الحل، بل وعصية حتى على المناقشة، وهي مشكلة "تزوير الكتب"، ففي حين تحظى قريناتها
بحلول مقترحة، حتى وإن لم يتم تنفيذها، تبقى هي معضلة يصعب الإلمام بها؛ ذلك أن لها جوانب متعددة، لا تكاد تفرغ من جانب حتى تبرز لك الجوانب الأخرى.
ما إن تتجول في ممرات "سور الأزبكية" الضيقة، أو أن تمر بجانب أحد أرصفة شوارع القاهرة، حتى تفاجأ بكم هائل من الكتب الشهيرة في طبعات مزورة، تباع بأسهار زهيدة، مقارنة بسعرها الأصلي، هذا بالإضافة إلى عشرات المواقع، ومئات الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تنشر الكتب نفسها، لكن في نسخة إلكترونية، دون الرجوع بالطبع إلى الكاتب أو دار النشر.
هكذا صار معلومًا بالضرورة أنه بمجرد أن ينشر أحد الكتاب الذين يتمتعون بشعبية طيبة حتى يصير هذا الكتاب متوافرًا بإحدى الطريقتين المذكورتين آنفا، في فترة وجيزة لا تتعدى أسبوعين في بعض الأحيان، الأمر الذي أثار أزمات عديدة، كان آخرها نشر إحدى الصفحات على موقع التواصل الاجتماعي نسخة إلكترونية لرواية مترجمة، مما أدى لحالة من السخط بين أوساط الناشرين والكتاب.
يرى الناشرون أن سبب هذه الظاهرة هو ضعف قانون الملكية الفكرية، وعدم تنفيذه من الأساس، حيث تقتصر العقوبة المنفذة، في حالة تحريك بلاغ ضد أحد المزورين للنسخ الورقية، على إحداث تلف بالماكينة، ليعيد إصلاحها بكل سهولة، في حين أنه ليس هناك أي إجراء متخذ ضد مزوري الكتب في نسخ إلكترونية.
في العام الماضي أثار حوار أجراه صحفي بأحد المواقع مع أحد أشهر ناشري الكتب الإلكترونية المزورة في الوطن العربي، ضجة كبيرة، تحولت إلى اتهامات للموقع بالترويج لظاهرة التزوير، وتصوير بطلها على أنه "روبن هود" الثقافة.
ورغم ذلك، فإن المزور الشهير أشار في تبريره لما يفعل، وهو لا يكتفي بالنشر فقط بل قام بتصوير الآلاف من الكتب ضوئيًا بنفسه خلال سنوات، أشار إلى عدة نقاط، من الممكن -رغم رفض الفعل- أن تؤخذ في الاعتبار لاكتمال الصورة التي بدت عصية على الفهم.
أهم تلك الأسباب ارتفاع أسعار الكتب في الوطن العربي، رغم انخفاض مستوى المعيشة بشكل ملاحظ، بخاصة في مصر، الأمر الذي يجعل من شراء هذه الكتب أمرًا شبه مستحيل، ففي الوقت الذي يتعدى سعر كتب المؤلفين المشهورين الستين جنيهًا، بل يتعدى السعر ضعف هذا الرقم، وربما ضعفيه، في حالة الكتب المترجمة، يصبح شراء كتاب واحد في الشهر مجازفة بالنسبة لأسر يكفل لها داخلها الشهري بالكاد الكفاف، دون وجود أي فرصة لأي وسيلة للترفيه.
هذه الحجة تقابلها حجة مواجهة للناشرين تستند على ارتفاع أسعار الورق، المستورد بالضرورة، والماكينات والأحبار وأجور العاملين، هذا الارتفاع الذي يجعل من رفع أسعار الكتب أمرا حتميا لتحقيق هامش ربح، بخاصة أن دور النشر تولي جودة الورق والطباعة اهتماما كبيرا.
ورغم أن هناك حلولا تلجأ إليها الكثير من الدول في أوروبا، كما تلجأ إليها الولايات المتحدة، ولاقت ترحيبا واسعا، فإن أحدا لم يقترب منها في مصر إلا على استحياء.
أول هذه الحلول يمثل محاولة للحفاظ على الكتاب الورقي من الاندثار، بالإضافة لجعل الكتب متوفرة لأكبر قدر ممكن من الجمهور.
الحل يتمثل في طرح نسخ شعبية من الكتب، تطرحها الدار نفسها، بجانب النسخة عالية الجودة، وعالية السعر بالضرورة، وفي الوقت الذي يشتري فيه القادرون النسخ الغالية، ذات الورق عالي الجودة والأغلفة القوية والألوان الزاهية، يتمكن غير القادرين من شراء نسخ شعبية من ورق أقل جودة، وبأغلفة أقل قوة، ولكنها تبقى في النهاية نسخة أصلية للكتاب.
النسخ الشعبية حققت معادلة صعبة بالنسبة لدور النشر والقراء على حد سواء، فقد صار القارئ قادرا على شراء نسخة أصلية بأقل من نصف الثمن، وأحيانا بمبلغ يقارب ربع الثمن، وفي الوقت ذاته تمكنت دور النشر من هذه الفئة التي كانت ستلجأ للتزوير، أو ستحجم عن قراءة الكتب من الأصل لارتفاع أسعارها، ومع انخفاض الجودة تقل التكلفة، لتحصل الدار على هامش الربح نفسه تقريبا الذي تحصل عليه من النسخ عالية الجودة، وربما أكثر، إذ تفتح هذه النسخ الرخيصة، والأصلية، أمام طائفة كبيرة من الجمهور، كانت مفقودة تماما.
ولعل أبرز صورة لهذه المشكلة، مشكلة أسعار الكتب، تتجلى في كتب الأديب العالمي نجيب محفوظ، التي كانت تبيعها "مكتبة مصر" بأسعار زهيدة تتراوح بين العشرة الجنيهات والعشرين جنيها للروايات ذات القطع الكبير، والأربعة جنيهات والعشرة للروايات ذات القطع الصغير، حجم الجيب، ليتضاعف سعرها لأربع وخمس مرات بعد بيع حقوق النشر لدار الشروق.
الحل الثاني، وهو لا يقل أهمية عن الأول، بل قد يفوقه أهمية، وذلك لمناسبته لروح العصر، هو اللجوء إلى النشر الإلكتروني، وهو أيضا يشبه حل الطبعات الشعبية من حيث نجاحه في أوروبا وأمريكا.
فمع التقدم التكنولوجي الرهيب الذي شهده العالم في السنوات الأخيرة، ومع ارتباط الناس بمنجزات التكنولوجيا، وبخاصة الأجيال الناشئة، صار الكتاب الورقي، والصحافة الورقية، مهددين بالانقراض، لذلك بدأت الصحف تعي هذا الأمر ولجأت إلى إصدارات إلكترونية.
الأمر نفسه لجأت له دور النشر في أوروبا وأمريكا، ويتمثل في طرح نسخة إلكترونية شرعية تمتلك حقوقها دار النشر، بجانب النسخة الورقية، على أن تكون النسخة الإلكترونية، أقل سعرا من النسخة الورقية.
هذا الحل يبدو في غاية المنطقية، فإن تكلفة هذه النسخة الإلكترونية لا تذكر مقارنة بالنسخة الورقية، ما يجعل الحصول على هامش ربح أمرا مضمونا، إذ ستقتصر التكاليف على الضرائب فقط، مع اجتذاب شريحة كبيرة من الجمهور المفقود.
يبدو إذن أن لب المشكلة يتمكن في قطار الزمن الذي يبدو أنه فاتنا منذ دهر، في حين يصر جميع الأطراف على التمسك بالماضي، الذي صار بعيدا وصعب المنال، فلو أمكن السيطرة على تزوير الكتب الورقية بملاحقة مزوريها وتغريمهم أو سجنهم بتعديل القانون، فإنه من المستحيل، مع هذا التقدم التكنولوجي المطرد، السيطرة على التزوير الإلكتروني بأي حال من الأحوال، لتبقى مسألة التزوير أمرا واقعا مرتبطا بعصرنا، لا يمكن على الإطلاق معالجتها بحلول عصور سابقة.