فَنٌّ وفَنّانة :عبد العلي الودغيري
خاص بالمجلة
لماذا نقولُ كما يَقولُ الناسُ: الفَنُّ إِفصاحٌ
عن المَواهِبٍ، وتعبيرٌ عن المشاعِرِ. ولا نقولُ
كما يَنبغي أن يُقالَ: الفَنُّ اكتِشافٌ
للذات، أو هُوَ ذاتُ الذاتِ؟
ماذا يَفعلُ الفَنّانُ
سوى أنه يغُوصُ في أَعماق نفسه، يُجَدِّفُ في مَجاهِلها ويَتيهُ في أَدغالها، إلى أن
يَعثُر على خيطٍ من ضوءٍ رفيعٍ يُنيرُ بعضَ طريقِه إلى فَهمِها.
ثم ماذا يفعلُ بعد ذلك، سوى أن يرسُم أو يُصوّر
ما يَتسنَّى له فهمُه منها، وما يُوصِلُه إحساسُه ووحيُهُ إليها؟ هي النفسُ كما تبدو
لهُ في سائر حالاتها، كما يراها أو يُحِبُّ أن يراها، في مَعدِنها الأصفَى، وجَوهَرها
الأَصيل والأَنقَى.
وماذا يكونُ الفَنُّ إذا لم يَفُكَّ عن نفسِ صاحبِه
أَغلالَها، ويَكسِرَ أَقفالَها، فتَفتَحُ أبوابَها، لتبُوحَ بِما لَها، و تحَكي أَسرارَها؟
ما أهمِّيةُ الفَنِّ وما فَضيلتُهُ، إذا لم يكُن
فيه إنقاذٌ للنفس من وَحشةِ صَمتها وسُكُونها، وانزِوائِها وانطوائِها، وتَصريفٌ لطاقَاتها،
وسُمُوٌّ بالرُّوح إلى عَليائِها؟
في نفس كلِّ إنسانٍ زوايا مُظلِمةٌ يحاولُ الفَنُّ
أن يُضيئَها، ومصادرُ طاقةٍ جَبّارةٍ، تظَلُّ خامِدةً على حالها، خَرساءَ لا لِسانَ
لها. لكنَّ الفَنَّ بِسِحرِه ورِقَّتِه وأَداتِه، وصَبرِه وحِلمِه وأَناتِه، يَجذِبَها
فتَنجَذِبُ، ويَستَثيرُها فتَستَجيبُ.
وقَطرَةً... فقَطْرهْ.
يَفيضُ نَهرُ الأحاسيس،
تَنهَمِرُ العُيونُ،
تَسيلُ السَّواقي،
تَمتَلئُ الجداوِلُ
واليَنابيعُ.
والعَطاءُ تِلوَ
العَطاءِ، يتَدَفَّقُ مِدراراً.
الفنُّ هنا له كلُّ
صِفاتِ النُّبْل والخير والحُبِّ والإيثار والسَّخاء.
الفنُّ كلُّه جمالٌ. لكنَّ أجملَ حالاتِ هذا الجمال،
حين يكون خَلاّقاً. يُضيفُ إلى الأشكال شَكلاً، وإلى المَلموسِ لَمْسَةً، وإلى المَسموع
هَمسةً، وإلى المَرئِيِّ رُؤيةً، وإلى الأَبعاد بُعداً، وإلى كلِّ المعاني الموجودة
للشيء معنىً. ويبعَثُ في السُّكون دَبيباً، وفي الثابِتِ تَغييراً، وفي الجامِد حِسّاً.
ويُضفي على ما لا طَعمَ له ولا لونَ، طَعماً ورائحةً ونُكهةً ولوناً.
اللونُ هو تِلكُمُ الصِّفةُ الأولى التي مَيَّزَتْ
أَشياءَ هذا الكَون بَعضَها عن بعضٍ ،فصارت بها تختلِفُ، وصارتْ بها تَأتَلِفُ. واعلَمْ
أَنّهُ مهما تَكاثَرتِ الأشياءُ، تَناسَلَت معها الألوانُ في أَطيافٍ، وفي صُورٍ وفي
أشكالٍ، لا تنتهي حتى تنتهي الأشياءُ.
الألوانُ خلَقَها اللهُ في الطبيعة، حُرّةً وطَليقةً.
وعَينُ الفنّان لا تُفارِقُها. تُلاصِقُها، تُضايِقُها.
تُلاحِقُها وتَعشَقُها. تمتَصُّ رحيقَها، تملأُ منها أجفانَها ودِنانَها، تَعُبُّ وتشرَبُ
حتى الثُّمالةِ. ولكنَّها في النِّهاية، تظلُّ ظَمأَى ولا يَنَطَفِئُ الغَليلُ، مُشتاقةً
ولا يَبرأُ العَليلُ. وحين يشتدُّ العَطَشُ، وتزدادُ اللَّهفةُ، يبدأُ خيالُ الفنّان
في الاشتغال. يَستَعيدُ حالةَ تلك الألوان، يستخرجُها ويُحاولُ استحضارَها وتَجسيمَها.
لكنْ، هل يحاولُ فقط أن يَنسَخَها نَسخاً، أم يحاولُ إعادةَ مَزجها وتَشكيلِها وخَلقِ
شيءٍ منها مُوافِقٍ لما يَشتَهي أن تكون أو تَصيرَ إليه، وليس لِما رآها عليه... ؟
حين تَتَقوَّى الخلايا المُولِّدة للإبداع في دَواخِل
الفَنّان، يُصيبُها العُجْبُ والخُيَلاءُ، فتَرى في نفسها أنها قادرةٌ على تَحدِّي
الطبيعة ومُغالَبَتها وتجاوُزها، وبإمكانها الوصولُ إلى شيءٍ لا يَجدهُ الإنسانُ إلا
في أحلامِه وأَمانِيهِ. شيءٍ مِن وحيِ ذاته وابتِكارِه، ورغبَته وطُمُوحه، ونَسْجِ
خياله... ثم إنها قد تَنجَحُ وقد تُخفِقُ ... لكنها تُحاولُ ثم تُحاولُ. تُجرِّبُ،
ثم تُجرِّبُ ...
حين عرفتُ الفَنّانة (نُزهةَ)، عرفتُها على هذا
النحو من الطُّموح والجُمُوح،بهذه الرغبةِ
المُستبِدَّةِ في التَّجريب والمحاولة والاكتِشاف، والبحث في عَتَماتِ النفس عن شيءٍ
يستحقُّ أن يكون له حَيِّزٌ ما في عالَم الضَّوء واللون والنُّور. لقد اكتشَفَتْ مُبكِّراً
أن هنالك في حياتها شيئاً كامِناً لم تكن تعرفُ كيف تعبِّر عن وجوده، ولا حتى كيف تُسمِّيه
أو تُفسِّرُه، لا تَعرِفُ أحياناً كيفَ تتصوَّرُه، فأحرَى كيف تُشخِّصُه وتُلوِّنُه
.... لكنها ذاتَ يومٍ، وجَدَت نفسَها تُمسِكُ الفِرشاةَ وتَغْمِسُها في بحرٍ من الأَلوان
... وجَرَتْ وراءَ هذه التَّجربة لا يَستقِرُّ بها قَرارٌ. تَسيرُ بها الخُطُواتُ في
كلِّ اتِّجاهٍ. تبحثُ عن ذلك الشيءِ الذي تُحِسُّه ولا تستطيع تشخيصَه.
الفَراشةُ في حُقولها تتَمَنَّعُ وتَستَعصي، والطفلةُ
من ورائها تجري ثم تَجري، لا تَكُفُّ عنِ العِنادِ، ولا يُلْجِمُها العَناءُ، بل تَحفِزُها
وتَزيدُ مِن صلابَتها المُعاناةُ ... كنتُ واقِفاً في جانبٍ من المَشهَد، وأنا أَخوْفُ
ما أكونُ من أن تَصِلَ أَنامِلُها إلى تلك الفراشة التي سَلَبَت لُبَّها وجلَبَت مُتعَتَها.
فحينئذِ ستَنْطَفِي شَمعةُ الطُّموح والحَماس، ويتوقَّفُ الكَدُّ الذي يَجلُبُ العَطاءَ.
ويومَها سيَنتهي الحُلْمُ والسعادةُ، ويومَها أيضا سَيَلبَسُ الفَنُّ أَكفانَه... فهل
يمكن أن نُعرِّفَ الفنَّ بشيءٍ آخر سوى الجَري تِلوَ الجَريِ، والمُحاولة تلوَ المحاولة،
والتجربةِ بعد التجربة؟ وهل يُمكن أن يُولَد للفَنّان شيءٌ اسمُه الإبداعُ بلا مَغَصٍ
ولا آلامٍ ؟
جَرَّبَتْ (نُزهةُ) أن تُفتِّقَ طاقاتِها الخَلاّقةَ
في الرَّسم على القُماش تارةً، وفي النّقْش على الزُّجاج تارةً أخرى. ولها إلى جانب
ذلك مُحاولاتٌ في عَوالِمَ أُخرى، كان بعضُها قد تجلَّى في لَمَساتٍ من تَشكيلٍ اللِّباسِ
النّسائيِّ المغربي التقليدي. حاولَتْ أن تُضيفَ هذا إلى ذاك، وأن تُحَطِّم ما بين
الفُنون من جُدرانٍ قد تبدو لغير الفَنّان حدوداً ضرورية. لكنَّ الفَنَّ الحقيقي لا
يَعرِفُ الحُدودَ ولا يعترفُ بالقيود. بل لا يعرفُ النُّقَط والفواصِل، ولا يعتَرِفُ
بالقَواطِع والمَوانِع. الفنّانُ الحقُّ له عينٌ نافِذةٌ إلى ما خلفَ ظَواهرِ الأشياء،
بها ينظُرُ ويَقيسُ ويَزِنُ ويَحكُمُ. والعالَمُ كلُّه بجُزئيّاته وتَفاصيله،بانحِناءاته
وانعِراجاته، عالَمٌ واحدٌ وفضاءٌ مُتَّصِلٌ، فَسيحٌ في مجالات أَلوانه، متعدِّدٌ في
صِفاته وأَشكاله، لكنه جميلٌ في تَنَوُّعه، مُتناغِمٌ مُتناسِقٌ في جُملته وتَفصيله.
بهذه العين تنظُر السيدةُ (نُزهةُ) إلى العوالِم
التي تبدو لنا مُنعَزِلةً ومختلِفةً، وهي تراها مُتَوالِجةً مُتداخلةً متواصِلةً. وبهذا
التَّنوُّع الفَنّي بدَأَت طريَقَها واستمَرَّت في تجاربها. وذلك هو الطريقُ الواضِحُ
الفَسيحُ الذي لا أُريدُها أن تَحيدَ عنه... ولا أُريدُها أَن تَطمئِنَّ ولا أن تستريحَ.
بل أُريدُها دائماً تَجري، بلا نِهايةٍ ولا حُدودٍ. تُحاوِرُ الأًلوانَ، وتَعشَقُ الفِرشاةَ،
وتبحثُ عن مُعاناةٍ ... ذلك هو الشيءُ الوحيدُ الذي يحيا به الفَنانُ. وبغيرِه تَنقضي
آجالُه وتَضيعُ خُطْواتُه.
وأُوصيكِ، أُوصيكِ:
لا تَقتُلي الفَراشَةَ، لا تقتُلي الأَحلامَ .
الرباط: 8 مارس 2013م