عن جريدة الوسط
في مقابلة مع مجلة «فوغ» في العام 1995، اعترف إيكو بأن ما يكتبه ليس سهْلاً في القراءة. وقال: «يسألني الناس دائماً: كيف تمكَّنَتْ رواياتك، والتي هي صعبة للغاية، من
تحقيق هذا النجاح؟ أشعر بالمهانة إزاء سؤال من هذا القبيل. مثلما يتمُّ سؤال امرأة: كيف يُمكن لرجل أن يهتمَّ بكِ؟»، وأضاف بسخرية نموذجية «أنا شخصياً أحبُّ قراءة الكتب السهْلة تلك التي تدفعني إلى النوم فوراً». يُورد الاقتباس المشار إليه الكاتب والصحافي جوناثان كاندل، ضمن مراجعته التي كتبها في صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الجمعة (19 فبراير/ شباط 2016)، بعدما بُثَّ نبأ وفاة الروائي والأكاديمي الإيطالي أمبرتو إيكو، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين عاماً. صاحب العمل الأشهر من بين مجموعة أعماله «اسم الوردة».
المبدع الذي استطاع أن يبحر ضمن عالميْن: السيموطيقيا، إلى جانب الفلسفة، وعالم الرواية. (السيموطيقيا علم يدرس أنساق العلامات والأدلة والرموز، سواء أكانت طبيعية أم صناعية. وتُعدّ اللسانيات جزءاً من السيميائيات التي تدرس العلامات أو الأدلة اللغوية وغير اللغوية).
في اللقاءات الصحافية يبدو إيكو أكثر مباشرة، ولكن بعمق. من بينها اللقاء الذي أجرته معه قبل سنوات، لِيلا أزام زانغانيه، وقام بترجمته رؤوف علوان، ورد في جانب منه سؤال نصه: ينتقدك كثيرون بأنك تستعرض معرفتك في أعمالك. لدرجة أن أحد النقاد قال بأن الشيء الوحيد الذي يجده في أعمالك هو قدرتها على جعل القارئ العادي يشعر بمهانة جهله. بمعنى أنك تستعرض عضلاتك المعرفية.
ما أعرفه في تفاصيل قصصي
يجيب إيكو: هل أنا شخص ساديّ؟ لا أعلم. استعراضي؟ ربما. إني أمزح. بالطبع لستُ كذلك! لا أقوم بكل هذا الجهد من الكتابة فقط لأكدّس معرفتي على القارئ. بالتحديد كل ما أعرفه يوجد تحت تفاصيل البناء الروائي لقصصي. والأمر يعود إلى القارئ بأن يراها أو لا يراها.
وعن الكتاب الذي لم يكتبه وتمنَّى أن يكتبه أجاب: «أجل، كتاب واحد فقط. منذ صغري وحتى الخمسين من عمري، كنت أحلم أن أكتب كتاباً عن نظرية الكوميديا. لماذا؟ لأن كل الكتب عن هذا الموضوع كانت مخيِّبة، على الأقل الكتب التي استطعت قراءتها. فكل أصحاب النظريات حول الكوميديا من فرويد، إلى بيرغسن، حاولوا شرح جانب واحد من هذه الظاهرة، لكن ليس كل الجوانب. الكوميديا ظاهرة معقّدة جداً لدرجة أنه لم توجد نظرية إلى الآن تشرح الكوميديا بشكل متكامل. ففكرّت بأن أضع نظرية حقيقية حول الكوميديا. لكن لاحقاً، بدت المهمَّة صعبة جداً. لو كنت أعرف لماذا كانت صعبة، لكنتُ حصلت على الجواب واستطعت أن أضع نظرية للكوميديا.
هنا وقفة عند مراجعة كاندل في نيويورك تايمز»، نورد أهم ما جاء فيها، مع هوامش ومداخلات عديدة ارتأى المحرر الثقافي ضرورتها.
توفي الباحث والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، يوم الجمعة الماضية (19 فبراير/ شباط 2016)، عن عمر ناهز الـ 84 عاماً. إيكو الذي أصبح كاتب الروايات الأكثر مبيعاً، ولاسيما روايته «اسم الوردة».
وأكد ناشر أعماله «بومبياني» نبأ وفاته، في منزله بميلانو، من دون أن يُحدِّد الأسباب، وفقاً لوكالة الأنباء الإيطالية (أنسا).
تفسير الثقافات
وباعتباره عالماً في السيميائيات (علم الإشارات/ العلامات)، سعى إيكو لتفسير الثقافات من خلال العلامات والرموز... الكلمات والرموز الدينية، اللافتات، والملابس، الدرجات الموسيقية، وحتى الرسوم، وضمن هذا المجال، نشر إيكو عبر حياته الأكاديمية والبحثية أكثر من 20 كتاباً حول هذه الموضوعات، في الوقت الذي كان يمارس مهنة التدريس في جامعة بولونيا، التي تُعدُّ أقدم جامعة في أوروبا.
وبدلاً من فصل حياته الأكاديمية عن أعماله الشعبية التي تمثَّلت في الأعمال الخيالية/ الروائية، وظَّف المجالات تلك بإنجازه سبع روايات، احتوت في موضوعاتها على العديد من اهتماماته العلمية.
بتجسيره لهذين العالمين، لم يكن قطُّ أكثر نجاحاً مما كان عليه وخصوصاً مع إصدار روايته الأولى «اسم الوردة»، التي نشرت أول الأمر في أوروبا في العام 1980، وباعت أكثر من 10 ملايين نسخة في نحو 30 لغة. (في العام 1986 قامت هوليوود بتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي من إخراج جون جاك آنود وبطولة شون كونري، إلا أنه تلقَّى استقبالاً فاتراً في حفل عرضه الأول).
تدور أحداث الرواية في ديْر إيطالي في القرن الرابع عشر؛ حيث تتكرَّر عمليات قتل غامضة للرهبان في شمال إيطاليا، وتطغى على تفسير العمليات تلك وجود روح شريرة، فيما الأمر يكمن وراءه أطروحة فلسفية مفقودة منذ زمن طويل تعود إلى أرسطو. وعلى رغم تكريس فصول كاملة لمناقشات اللاهوت المسيحي والبدَع، من خلال مخزون هائل ووقوف غزير على الخطاب القروسطي, تمكَّن إيكو من إيجاد حال من الافتتان بالكتاب لدى جمهور كبير من القرَّاء، وخصوصاً مع شخصية الراهب ويليام، الذي يتبع الرهبنة الفرانسيسكانية، لخبرته التي اكتسبها من قبل كمحقّق في محاكم التفتيش، والذي ساورتْه الشكوك في وجود شخص وراء كل تلك الجرائم.
بعد الزيارة التي يقوم بها ويليام إلى الدير رفقة تلميذه آدزو، وبعد سلسلة من الأحداث المثيرة، يصطدم فيها الراهب بأحد محقّقي محاكم التفتيش، والذي كان قد اتهمه سابقاً بالهرطقة مُهدّداً إياه بالموت، ولكن في نهاية الأمر يتمكن ويليام من فك اللغز، ويتوصل إلى معرفة القاتل.
الاشتغال على التاريخ والفكر
رواياته اللاحقة، تناولت أبطالاً يعودون إلى فترة الحروب الصليبية، ففي العام 1988، طلع أمبرتو إيكو على القرَّاء بروايته «بندول فوكو»، وفيها اشتغال على التاريخ والفكر، من خلال ثلاثة أبطال (مُحرِّرين)، يسعون إلى البحث عن خريطة فكر للعالم، في محاولة لإتاحة فهم أعمق لمجريات التاريخ وتحولاته، ولمركز ذلك الفهم: الإنسان، في رحلة نحو أزمنة وأمكنة متباينة، من أوروبا في تلك الفترة (القرون الوسطى)، مروراً بالشرق وما اتسم به من حروب صليبية، وصولاً إلى أميركا اللاتينية، في وقوف على عمق وتجذّر الديانات البائدة.
علينا هنا أن نُعرِّج على روايته الثالثة في الترتيب الزمني التي أصدرها في العام 1994 وحملت عنوان «جزيرة اليوم السابق»، حيث لم يبرح التاريخ في هذا العمل مثل عمليْه السابقيْن، وتحديداً بأخذنا إلى 400 سنة إلى الوراء؛ حيث صراع الإمبراطوريات في محاولات دائبة للحصول على خريطة خطوط الطول ودوائر العرض على الأرض؛ الأمر الذي سيُمكِّن الذي تكون في حوزته من معرفة مواقع أساطيله في المحيطات ومن ثم فرض هيمنته.
في مقابلة مع مجلة «فوغ» في العام 1995، اعترف إيكو بأن ما يكتبه ليس سهلاً في القراءة. وقال: «يسألني الناس دائماً: «كيف تمكَّنتْ رواياتك، والتي هي صعبة للغاية، من تحقيق هذا النجاح؟ أشعر بالمهانة إزاء سؤال من هذا القبيل. مثلما يتم سؤال امرأة: «كيف يُمكن لرجل أن يهتمَّ بكِ»؟ وأضاف بسخرية نموذجية «أنا شخصياً أحب قراءة الكتب السهلة تلك تدفعني إلى النوم فوراً».
وعلى رغم أن إيكو حظي بعدد من المدافعين عنه والمتحمِّسين لأعماله في الأوساط الأكاديمية وعالم الأدب وكذلك النقاد في كلا العالميْن اللذين أبدع فيهما، تمَّت مجابهته ورفضه والاستخفاف ببعض أعماله في بعض الأحيان، تحت دعاوى افتقاره إما إلى الوقار العلمي أو الموهبة الروائية.
المعتقدات الكاذب وتغيير التاريخ
كاتب السيرة الأدبية إيان تومسون، كتب في صحيفة «الغارديان» في العام 1999: «لا يوجد أثر ثقافي متواضع جداً أو تافه بالنسبة إلى التحليل الذي يتبنَّاه إيكو»، مشيراً إلى مجموعة مقالات إيكو التي توضح بجلاء كيف أن المعتقدات الكاذبة قد غيَّرت التاريخ.
كما كتب الروائي البريطاني سلمان رشدي، في استعراض لاذع في «لندن أوبزرفر»، ساخراً من رواية إيكو التي أصدرها في العام 1988 «بنْدول فوكو»، قائلاً «بينما تم السماح بنشرها، على رغم خلوِّها من الشخصيات، ومفرغة تماماً من أي شيء يشبه الكلمة المنطوقة ذات الصدقية، في نزوع إلى تخدير كامل للعقل لامتلائها بالهراء من كل نوع».
حدث ذلك بعد ظهور الاثنين في ندوة أدبية بنيويورك في العام 2008، واختار إيكو بامتعاض قراءة جانب من الرواية نفسها.
وباعتباره نجماً عالمياً في كل من الدوائر المرموقة، وكذلك الدوائر الثقافية الشعبية، تقبَّل ايكو مثل هذه الانتقادات برباطة جأش. وقال في هذا الصدد: «أنا لست متشدِّداً. فليس هنالك فرق بين هوميروس ووالت ديزني»، كما أوضح لصحافي «الغارديان».
ما يلفت في إمكانات إيكو أنه يستطيع أن يقدم محاضرات بخمس لغات حديثة، إلى جانب اللاتينية واليونانية الكلاسيكية، إذ يظل الرجل في انتقالات يعبر من أجلها المحيط الأطلسي لحضور المؤتمرات الأكاديمية، وجولات على الكتب، وكذلك لحضور حفل استقبال للمشاهير.
في «بندول فوكو»، روايته الثانية، يحكي إيكو قصة فيزيائي فرنسي في القرن الثامن عشر، اسمه ليون فوكو، ابتكر آلية لإثبات دوران الأرض، من خلال تعليق ثقل قدره 28 كيلوغراماً بسلك طوله 67 متراً إلى قبة كنيسة بانتيون في باريس مشكِّلاً بذلك رقَّاصا (بندولاً) عملاقاً. وعند تحريك البندول وُجد أن مستوى اهتزازه كان يدور باتجاه الساعة بمقدار 11 درجة كل ساعة، متماً بذلك دورة كاملة كل 32.7 ساعة. حضرت الرواية في جميع أنحاء العالم، وحققت مبيعات قياسية، على رغم أنها لم تتلقَ إشادة بالإجماع لأنها لم تكُ بتلك الهالة والإبداع الذي حوَته روايته الأولى «اسم الوردة»، وإشادة النقاد بها.
في تكرار الاستخفاف بأعماله
تكرَّر ذلك مع روايات أخرى لإيكو، والتي غالباً ما يتم الاستخفاف بها من قبل بعض النقاد، إلا أن القرَّاء عمدوا إلى التهامها، على رغم بنْيتها النثرية المكثفة، واحتوائها على عدد من المفاهيم والرؤى الصعْبة. في مراجعة لرواية إيكو الرابعة «باودولينو» والتي أصدرها في العام 2000، وهي ذات فضاء تاريخي أيضاً، يستخدم فيها إيكو أسلوب السرْد الأسطوري من خلال شخصيتها الرئيسة باودولينو، كتب ريتشارد بيرنشتاين في صحيفة نيويورك تايمز، إنها «ستجعلك تتساءل كيف أن حكواتياً ماكراً مثل إيكو انتهى إلى إنتاج رواية في صيغة مُبعثرة ومشوَّشة كما هو الحال مع هذه الرواية».
على العكس من روايته الثالثة التي أصدرها في العام 1994 «جزيرة اليوم السابق»؛ إذ كان النقَّاد في غاية اللطف معه. الرواية تحكي قصة نبيل إيطالي لا يستطيع السباحة، الفارس المالطي في بحثه عن جزيرة «اسكونديدا»، في لعبة شدٍّ وجذب توهم القارئ بأنه عثر عليها، والنوازع التي تنتابه، وصولاً إلى تيقنه بأنها ليست الجزيرة المنشودة. نقف عند روبارتو ذلك الذي يمعن في تأمل جزيرته، في الوقت الذي هو عاجز عن الوصول إليها.
علينا هنا أن نمرَّ على روايته «مقبرة براغ» والتي صدرت في العام 2010، في لعبة كشف الحقائق التاريخية التي يُراد التكتُّم عليها. إبداع الشخصية المُتخيلة التي تملك سحْر سرد عدد من التفاصيل المثيرة، حيث يمتزج التاريخ بالواقع.
في طفولته، كان يقضى ساعات كل يوم في قبو جده، مُتنقلاً بين الكتب وقراءة جول فيرن، ماركو بولو وتشارلز داروين، وكتب المغامرات. خلال حكم الدكتاتور بنيتو موسوليني، يتذكَّر أنه كان يرتدي الزيَّ الفاشي، كما فاز بالجائزة الأولى في مسابقة للكتابة مخصَّصة للصغار الفاشيين.
كان من المقرَّر لإيكو أن يدرس القانون، إلا أنه فضَّل التخصُّص في فلسفة وآداب القرون الوسطى.
بحصوله على شهادة الدكتوراه في العام 1954، قام بتدريس الفلسفة في جامعة تورينو، إلى جانب العمل في الإذاعة الفرنسية ومُحرراً ثقافياً في عدد من الصحف، علاوة على عمله في دار نشر «بومبيني».
بعد الحرب العالمية الثانية، انضم إيكو إلى منظمة الشباب الكاثوليك، وترقَّى في مهامه ليصبح زعيمها الوطني. استقال في العام 1954 خلال احتجاجات ضد السياسات المحافظة التي قرَّرها البابا بيوس الثاني عشر. ولكنه ظل مُحافظاً على ارتباطه بالمنظمة.
من مؤلفاته: «آليات الكتابة السردية»، «أن نقول الشيء نفسه تقريباً»، «اعترافات روائي ناشئ»، «الأثر المفتوح»، «التأويل بين السيميائيات والتفكيكية»، «التأويل والتأويل المفرط»، «السيميائية وفلسفة اللغة»، «العلَامَة»، «القارئ في الحكاية»، «باودولينو»، «تأملات في السرد الروائي»، «جزيرة اليوم السابق»، «الفهم»، «دروس في الأخلاق»، «ست نزهات في غابة السرد»، «مقبرة براغ»، وفي العام 2015 أصدر رواية «العدد صفر».
في مقابلة مع مجلة «فوغ» في العام 1995، اعترف إيكو بأن ما يكتبه ليس سهْلاً في القراءة. وقال: «يسألني الناس دائماً: كيف تمكَّنَتْ رواياتك، والتي هي صعبة للغاية، من
تحقيق هذا النجاح؟ أشعر بالمهانة إزاء سؤال من هذا القبيل. مثلما يتمُّ سؤال امرأة: كيف يُمكن لرجل أن يهتمَّ بكِ؟»، وأضاف بسخرية نموذجية «أنا شخصياً أحبُّ قراءة الكتب السهْلة تلك التي تدفعني إلى النوم فوراً». يُورد الاقتباس المشار إليه الكاتب والصحافي جوناثان كاندل، ضمن مراجعته التي كتبها في صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الجمعة (19 فبراير/ شباط 2016)، بعدما بُثَّ نبأ وفاة الروائي والأكاديمي الإيطالي أمبرتو إيكو، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين عاماً. صاحب العمل الأشهر من بين مجموعة أعماله «اسم الوردة».
المبدع الذي استطاع أن يبحر ضمن عالميْن: السيموطيقيا، إلى جانب الفلسفة، وعالم الرواية. (السيموطيقيا علم يدرس أنساق العلامات والأدلة والرموز، سواء أكانت طبيعية أم صناعية. وتُعدّ اللسانيات جزءاً من السيميائيات التي تدرس العلامات أو الأدلة اللغوية وغير اللغوية).
في اللقاءات الصحافية يبدو إيكو أكثر مباشرة، ولكن بعمق. من بينها اللقاء الذي أجرته معه قبل سنوات، لِيلا أزام زانغانيه، وقام بترجمته رؤوف علوان، ورد في جانب منه سؤال نصه: ينتقدك كثيرون بأنك تستعرض معرفتك في أعمالك. لدرجة أن أحد النقاد قال بأن الشيء الوحيد الذي يجده في أعمالك هو قدرتها على جعل القارئ العادي يشعر بمهانة جهله. بمعنى أنك تستعرض عضلاتك المعرفية.
ما أعرفه في تفاصيل قصصي
يجيب إيكو: هل أنا شخص ساديّ؟ لا أعلم. استعراضي؟ ربما. إني أمزح. بالطبع لستُ كذلك! لا أقوم بكل هذا الجهد من الكتابة فقط لأكدّس معرفتي على القارئ. بالتحديد كل ما أعرفه يوجد تحت تفاصيل البناء الروائي لقصصي. والأمر يعود إلى القارئ بأن يراها أو لا يراها.
وعن الكتاب الذي لم يكتبه وتمنَّى أن يكتبه أجاب: «أجل، كتاب واحد فقط. منذ صغري وحتى الخمسين من عمري، كنت أحلم أن أكتب كتاباً عن نظرية الكوميديا. لماذا؟ لأن كل الكتب عن هذا الموضوع كانت مخيِّبة، على الأقل الكتب التي استطعت قراءتها. فكل أصحاب النظريات حول الكوميديا من فرويد، إلى بيرغسن، حاولوا شرح جانب واحد من هذه الظاهرة، لكن ليس كل الجوانب. الكوميديا ظاهرة معقّدة جداً لدرجة أنه لم توجد نظرية إلى الآن تشرح الكوميديا بشكل متكامل. ففكرّت بأن أضع نظرية حقيقية حول الكوميديا. لكن لاحقاً، بدت المهمَّة صعبة جداً. لو كنت أعرف لماذا كانت صعبة، لكنتُ حصلت على الجواب واستطعت أن أضع نظرية للكوميديا.
هنا وقفة عند مراجعة كاندل في نيويورك تايمز»، نورد أهم ما جاء فيها، مع هوامش ومداخلات عديدة ارتأى المحرر الثقافي ضرورتها.
توفي الباحث والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، يوم الجمعة الماضية (19 فبراير/ شباط 2016)، عن عمر ناهز الـ 84 عاماً. إيكو الذي أصبح كاتب الروايات الأكثر مبيعاً، ولاسيما روايته «اسم الوردة».
وأكد ناشر أعماله «بومبياني» نبأ وفاته، في منزله بميلانو، من دون أن يُحدِّد الأسباب، وفقاً لوكالة الأنباء الإيطالية (أنسا).
تفسير الثقافات
وباعتباره عالماً في السيميائيات (علم الإشارات/ العلامات)، سعى إيكو لتفسير الثقافات من خلال العلامات والرموز... الكلمات والرموز الدينية، اللافتات، والملابس، الدرجات الموسيقية، وحتى الرسوم، وضمن هذا المجال، نشر إيكو عبر حياته الأكاديمية والبحثية أكثر من 20 كتاباً حول هذه الموضوعات، في الوقت الذي كان يمارس مهنة التدريس في جامعة بولونيا، التي تُعدُّ أقدم جامعة في أوروبا.
وبدلاً من فصل حياته الأكاديمية عن أعماله الشعبية التي تمثَّلت في الأعمال الخيالية/ الروائية، وظَّف المجالات تلك بإنجازه سبع روايات، احتوت في موضوعاتها على العديد من اهتماماته العلمية.
بتجسيره لهذين العالمين، لم يكن قطُّ أكثر نجاحاً مما كان عليه وخصوصاً مع إصدار روايته الأولى «اسم الوردة»، التي نشرت أول الأمر في أوروبا في العام 1980، وباعت أكثر من 10 ملايين نسخة في نحو 30 لغة. (في العام 1986 قامت هوليوود بتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي من إخراج جون جاك آنود وبطولة شون كونري، إلا أنه تلقَّى استقبالاً فاتراً في حفل عرضه الأول).
تدور أحداث الرواية في ديْر إيطالي في القرن الرابع عشر؛ حيث تتكرَّر عمليات قتل غامضة للرهبان في شمال إيطاليا، وتطغى على تفسير العمليات تلك وجود روح شريرة، فيما الأمر يكمن وراءه أطروحة فلسفية مفقودة منذ زمن طويل تعود إلى أرسطو. وعلى رغم تكريس فصول كاملة لمناقشات اللاهوت المسيحي والبدَع، من خلال مخزون هائل ووقوف غزير على الخطاب القروسطي, تمكَّن إيكو من إيجاد حال من الافتتان بالكتاب لدى جمهور كبير من القرَّاء، وخصوصاً مع شخصية الراهب ويليام، الذي يتبع الرهبنة الفرانسيسكانية، لخبرته التي اكتسبها من قبل كمحقّق في محاكم التفتيش، والذي ساورتْه الشكوك في وجود شخص وراء كل تلك الجرائم.
بعد الزيارة التي يقوم بها ويليام إلى الدير رفقة تلميذه آدزو، وبعد سلسلة من الأحداث المثيرة، يصطدم فيها الراهب بأحد محقّقي محاكم التفتيش، والذي كان قد اتهمه سابقاً بالهرطقة مُهدّداً إياه بالموت، ولكن في نهاية الأمر يتمكن ويليام من فك اللغز، ويتوصل إلى معرفة القاتل.
الاشتغال على التاريخ والفكر
رواياته اللاحقة، تناولت أبطالاً يعودون إلى فترة الحروب الصليبية، ففي العام 1988، طلع أمبرتو إيكو على القرَّاء بروايته «بندول فوكو»، وفيها اشتغال على التاريخ والفكر، من خلال ثلاثة أبطال (مُحرِّرين)، يسعون إلى البحث عن خريطة فكر للعالم، في محاولة لإتاحة فهم أعمق لمجريات التاريخ وتحولاته، ولمركز ذلك الفهم: الإنسان، في رحلة نحو أزمنة وأمكنة متباينة، من أوروبا في تلك الفترة (القرون الوسطى)، مروراً بالشرق وما اتسم به من حروب صليبية، وصولاً إلى أميركا اللاتينية، في وقوف على عمق وتجذّر الديانات البائدة.
علينا هنا أن نُعرِّج على روايته الثالثة في الترتيب الزمني التي أصدرها في العام 1994 وحملت عنوان «جزيرة اليوم السابق»، حيث لم يبرح التاريخ في هذا العمل مثل عمليْه السابقيْن، وتحديداً بأخذنا إلى 400 سنة إلى الوراء؛ حيث صراع الإمبراطوريات في محاولات دائبة للحصول على خريطة خطوط الطول ودوائر العرض على الأرض؛ الأمر الذي سيُمكِّن الذي تكون في حوزته من معرفة مواقع أساطيله في المحيطات ومن ثم فرض هيمنته.
في مقابلة مع مجلة «فوغ» في العام 1995، اعترف إيكو بأن ما يكتبه ليس سهلاً في القراءة. وقال: «يسألني الناس دائماً: «كيف تمكَّنتْ رواياتك، والتي هي صعبة للغاية، من تحقيق هذا النجاح؟ أشعر بالمهانة إزاء سؤال من هذا القبيل. مثلما يتم سؤال امرأة: «كيف يُمكن لرجل أن يهتمَّ بكِ»؟ وأضاف بسخرية نموذجية «أنا شخصياً أحب قراءة الكتب السهلة تلك تدفعني إلى النوم فوراً».
وعلى رغم أن إيكو حظي بعدد من المدافعين عنه والمتحمِّسين لأعماله في الأوساط الأكاديمية وعالم الأدب وكذلك النقاد في كلا العالميْن اللذين أبدع فيهما، تمَّت مجابهته ورفضه والاستخفاف ببعض أعماله في بعض الأحيان، تحت دعاوى افتقاره إما إلى الوقار العلمي أو الموهبة الروائية.
المعتقدات الكاذب وتغيير التاريخ
كاتب السيرة الأدبية إيان تومسون، كتب في صحيفة «الغارديان» في العام 1999: «لا يوجد أثر ثقافي متواضع جداً أو تافه بالنسبة إلى التحليل الذي يتبنَّاه إيكو»، مشيراً إلى مجموعة مقالات إيكو التي توضح بجلاء كيف أن المعتقدات الكاذبة قد غيَّرت التاريخ.
كما كتب الروائي البريطاني سلمان رشدي، في استعراض لاذع في «لندن أوبزرفر»، ساخراً من رواية إيكو التي أصدرها في العام 1988 «بنْدول فوكو»، قائلاً «بينما تم السماح بنشرها، على رغم خلوِّها من الشخصيات، ومفرغة تماماً من أي شيء يشبه الكلمة المنطوقة ذات الصدقية، في نزوع إلى تخدير كامل للعقل لامتلائها بالهراء من كل نوع».
حدث ذلك بعد ظهور الاثنين في ندوة أدبية بنيويورك في العام 2008، واختار إيكو بامتعاض قراءة جانب من الرواية نفسها.
وباعتباره نجماً عالمياً في كل من الدوائر المرموقة، وكذلك الدوائر الثقافية الشعبية، تقبَّل ايكو مثل هذه الانتقادات برباطة جأش. وقال في هذا الصدد: «أنا لست متشدِّداً. فليس هنالك فرق بين هوميروس ووالت ديزني»، كما أوضح لصحافي «الغارديان».
ما يلفت في إمكانات إيكو أنه يستطيع أن يقدم محاضرات بخمس لغات حديثة، إلى جانب اللاتينية واليونانية الكلاسيكية، إذ يظل الرجل في انتقالات يعبر من أجلها المحيط الأطلسي لحضور المؤتمرات الأكاديمية، وجولات على الكتب، وكذلك لحضور حفل استقبال للمشاهير.
في «بندول فوكو»، روايته الثانية، يحكي إيكو قصة فيزيائي فرنسي في القرن الثامن عشر، اسمه ليون فوكو، ابتكر آلية لإثبات دوران الأرض، من خلال تعليق ثقل قدره 28 كيلوغراماً بسلك طوله 67 متراً إلى قبة كنيسة بانتيون في باريس مشكِّلاً بذلك رقَّاصا (بندولاً) عملاقاً. وعند تحريك البندول وُجد أن مستوى اهتزازه كان يدور باتجاه الساعة بمقدار 11 درجة كل ساعة، متماً بذلك دورة كاملة كل 32.7 ساعة. حضرت الرواية في جميع أنحاء العالم، وحققت مبيعات قياسية، على رغم أنها لم تتلقَ إشادة بالإجماع لأنها لم تكُ بتلك الهالة والإبداع الذي حوَته روايته الأولى «اسم الوردة»، وإشادة النقاد بها.
في تكرار الاستخفاف بأعماله
تكرَّر ذلك مع روايات أخرى لإيكو، والتي غالباً ما يتم الاستخفاف بها من قبل بعض النقاد، إلا أن القرَّاء عمدوا إلى التهامها، على رغم بنْيتها النثرية المكثفة، واحتوائها على عدد من المفاهيم والرؤى الصعْبة. في مراجعة لرواية إيكو الرابعة «باودولينو» والتي أصدرها في العام 2000، وهي ذات فضاء تاريخي أيضاً، يستخدم فيها إيكو أسلوب السرْد الأسطوري من خلال شخصيتها الرئيسة باودولينو، كتب ريتشارد بيرنشتاين في صحيفة نيويورك تايمز، إنها «ستجعلك تتساءل كيف أن حكواتياً ماكراً مثل إيكو انتهى إلى إنتاج رواية في صيغة مُبعثرة ومشوَّشة كما هو الحال مع هذه الرواية».
على العكس من روايته الثالثة التي أصدرها في العام 1994 «جزيرة اليوم السابق»؛ إذ كان النقَّاد في غاية اللطف معه. الرواية تحكي قصة نبيل إيطالي لا يستطيع السباحة، الفارس المالطي في بحثه عن جزيرة «اسكونديدا»، في لعبة شدٍّ وجذب توهم القارئ بأنه عثر عليها، والنوازع التي تنتابه، وصولاً إلى تيقنه بأنها ليست الجزيرة المنشودة. نقف عند روبارتو ذلك الذي يمعن في تأمل جزيرته، في الوقت الذي هو عاجز عن الوصول إليها.
علينا هنا أن نمرَّ على روايته «مقبرة براغ» والتي صدرت في العام 2010، في لعبة كشف الحقائق التاريخية التي يُراد التكتُّم عليها. إبداع الشخصية المُتخيلة التي تملك سحْر سرد عدد من التفاصيل المثيرة، حيث يمتزج التاريخ بالواقع.
ضوء
ولد أمبرتو إيكو في أليساندريا، وهي مدينة صناعية في منطقة بيدمونت شمال غرب إيطاليا، يوم 5 يناير/ كانون الثاني 1932. كان والده جوليو يعمل مُحاسباً في شركة للمعادن، قبل أن تستدعيَه الحكومة للخدمة في ثلاثة حروب. انتقلت والدته جيوفانا معه خلال الحرب العالمية الثانية، إلى قرية صغيرة في حيْد بييمونتي الجبلي.في طفولته، كان يقضى ساعات كل يوم في قبو جده، مُتنقلاً بين الكتب وقراءة جول فيرن، ماركو بولو وتشارلز داروين، وكتب المغامرات. خلال حكم الدكتاتور بنيتو موسوليني، يتذكَّر أنه كان يرتدي الزيَّ الفاشي، كما فاز بالجائزة الأولى في مسابقة للكتابة مخصَّصة للصغار الفاشيين.
كان من المقرَّر لإيكو أن يدرس القانون، إلا أنه فضَّل التخصُّص في فلسفة وآداب القرون الوسطى.
بحصوله على شهادة الدكتوراه في العام 1954، قام بتدريس الفلسفة في جامعة تورينو، إلى جانب العمل في الإذاعة الفرنسية ومُحرراً ثقافياً في عدد من الصحف، علاوة على عمله في دار نشر «بومبيني».
بعد الحرب العالمية الثانية، انضم إيكو إلى منظمة الشباب الكاثوليك، وترقَّى في مهامه ليصبح زعيمها الوطني. استقال في العام 1954 خلال احتجاجات ضد السياسات المحافظة التي قرَّرها البابا بيوس الثاني عشر. ولكنه ظل مُحافظاً على ارتباطه بالمنظمة.
من مؤلفاته: «آليات الكتابة السردية»، «أن نقول الشيء نفسه تقريباً»، «اعترافات روائي ناشئ»، «الأثر المفتوح»، «التأويل بين السيميائيات والتفكيكية»، «التأويل والتأويل المفرط»، «السيميائية وفلسفة اللغة»، «العلَامَة»، «القارئ في الحكاية»، «باودولينو»، «تأملات في السرد الروائي»، «جزيرة اليوم السابق»، «الفهم»، «دروس في الأخلاق»، «ست نزهات في غابة السرد»، «مقبرة براغ»، وفي العام 2015 أصدر رواية «العدد صفر».