يعتبر العديد من الدارسين المحدثين – خصوصا معتنقي المنهج النفسي – الشعراء القدماء الفحول حالات مرضية ، وذلك اعتمادا على معطيات المنهج النفسي في دراسة أشعارهم ، وقد فسروا
جرأتهم المفرطة وكشفهم لنقاب المستور في عصرهم بانحراف نفسي تقف وراءه العقد التي أقرها علم النفس ، والتي يتم رصدها من خلايا أشعار الشاعر التي تعكس تجليات هذه العقد خصوصا وأن أغلب الفنانين والمبدعين والعباقرة قد عرفوا بعدم استواء شخصياتهم ومعاناتهم من الاضطراب والقلق النفسي .
جرأتهم المفرطة وكشفهم لنقاب المستور في عصرهم بانحراف نفسي تقف وراءه العقد التي أقرها علم النفس ، والتي يتم رصدها من خلايا أشعار الشاعر التي تعكس تجليات هذه العقد خصوصا وأن أغلب الفنانين والمبدعين والعباقرة قد عرفوا بعدم استواء شخصياتهم ومعاناتهم من الاضطراب والقلق النفسي .
وقد تعرض مجموعة من الدارسين لنماذج من الشعراء القدماء بناء على المظاهر النفسية والجوانب الاجتماعية محاولين استجلاء آراء ومواقف هؤلاء الشعراء العباقرة من المجتمعات والبيئات التي عاشوا فيها ، ومن الأوضاع الاجتماعية والحدود الأخلاقية التي اضطروا إلى التزامها على الرغم منهم في كثير من الأحيان ،
فقد أجبر أغلب الشعراء العرب الُمَقدَّمين على التزام أوضاع لم تكن تستجيب لتطلعاتهم ولا تتوافق مع تراثهم القومي والفكري والروحي والشعوري ، وقد ولد ذلك في نفوسهم خيبة الأمل وعدم الرضى بالواقع المهين في نظرهم ، وقد عبر كل واحد منهم بأسلوبه الخاص عن هذا الرفض والامتعاض ، فلجأ بعضهم إلى السخرية من الناس ومهاجمتهم بالهجاء والذم وتحقير الانتماء القومي كما فعل بشار بن برد ... ، أو الانقطاع إلى مواقعة اللذات واقتناص الشهوات ، وإرضاء الميول الشبقي للنفس البشرية كما فعل أبو نواس وأصحابه ، كما لجأ بعضهم إلى تغييب الكرامة والشخصية ، ومن ثم احتراف التملق والمداراة والتلون مع موافق الحياة ونوائب الدهر وعدم الاحتفاء بعزة الشاعر وأنفته .
بينما ذاق بعضهم مرارة الدنيا وجور الزمان ن وقضى وراء سراب الحكم والسلطان ، متوسلا في ذلك بشتى الطرق الممكنة ، فعاش حياته بين مطرقة أنفة النفس وتضخم الأنا ، وسندان التعلق بأولي القوة والحكم ، والتقرب منهم بهدف الظفر ببغيته وأمله في السيادة ، بينما انقطع بعضهم عن الدنيا وجعلها عدوا له فلم يرتح إليها ولم يتخذ الأسباب من أجل التعلق بها ، بل قطع كل ما يجمعه بها من وشائج .
كل هذا كان من أجل التعبير عن مناهضة الوضع الذي آلت إليه مكانة الشاعر العربي ، الذي عاش فترته الذهبية في العصر الجاهلي إذ كان الشاعر ذا مكانة عظيمة في قومه تفوق بكثير مكانة الخطيب ، ولعل أهم من يزِر وِزْر تردي وتراجع مكانة الشاعر العربي هما الشاعران الكبيران الأعشى والنابغة الذبيانيان ، لمّا انحرفا بالشعر عن غايته الأولى التي تبوّأها حتى أصبح بيده فصل الخطاب إلى التكسب بالشعر ، والسعي إلى نيل العطايا والهبات والصلات طارقين بذلك آخر مسمار في نعش كرامة الشاعر وتأبِّيه .
ضاقت على الشعراء الدنيا بما رحبت فلم تعد لهم تلك المكانة ولم يعد لهم ذلك الدور الكبير والوزن الثقيل والمعتبر داخل الدولة ، فأصبح الشاعر بين خيارين ، أولهما أداء الوظيفة الجديدة المتمثلة في المدح والتملق من أجل كسب المال والتزلف إلى أصحاب السلطة الزمنية ، ملغيا كرامته وأنفته الضائعة ، ذائبا في الوضع الجديد ولو على مضض ، وثانيهما التشبث بدوره الأول ورسالته السامية المتمثلة في التعبير عن الذات ونقد المجتمع ودفع عصمة الحاكم وعدم التسليم بما يفرضه الواقع والدفاع عن الموقف الخاص ، ومواجهة إكراهات المجتمع الذي يتفق العديد من الشعراء على أنه أصبح بيد طائفة من المنحطين واللئام ، وفي ذلك يقول أبو نواس :
هذا زمن القرود فاخضع وكن لها سامعا مطيعا
وكما يقول الأحنف العكبري :
رأيت في النوم دنيانا مزخـــــــــــــــــــــــــــ ــرفة مثل العروس تراءت في المقاصير
فقلت جودي لنا قالت على مهل إذا تخلصتُ من أيدي الخنازيـــــر
ومن تجليات هذا التمرد أدب الشذوذ الجنسي الذي يعتبر شبه عادي في الحياة الانسانية من خلال سير العديد من العظماء من الحكام والقادة العسكريين والفلاسفة والفنانين والأدباء ، ومن توارد أخباره في الصحف والمجلات الغربية على وجه الخصوص والاعتراف به وإقرار قوانينه في العديد من الدول والمطالبة بالتطبيع معه في بلدان أخرى ، أما المثير في الأمر فهو ظهور الغزل بالمذكر في دواوين بعض الشعراء الذين لم يؤثر عنهم هذا الانحراف ، حتى يتبادر إلى الأذهان أن جميع الشعراء المبرزين كانوا يعانون الثنائية الجنسية ، فيتحدثون عن النساء والغلمان على السواء .
والأغرب مما سبق هو تهالك الشعراء على هذا الغرض من الشعر وانتشاره بشكل واضح في دواوينهم مما يستدعي تفسير ذلك ، وقد مال غير قليل من الدارسين إلى اعتبار أدب المثلية الجنسية لونا من التمرد الاجتماعي والانتقام النفسي من المكانة المتدنية والوضع المهين الذي وصل إليه الشاعر العربي منذ أواخر العصر الجاهلي .
ومن مظاهر الشذوذ في الشعر العربي القديم ظاهرة أخرى لا تقل أهمية وانتشارا عن المثلية الجنسية وهي ظاهرة شعر الخمرة التي اقترنت في الشعر الجاهلي بالشجاعة والكرم والشهامة ، وكانت تعتبر لونا من ألوان الفتوة والرجولة وذكر الحرب والكر والفر و السيادة في المجالس ونيل وصال الغواني ، وبعد مجيء الإسلام وتحريم الخمر أصبح التغني بشربها في الأشعار عند بعض الشعراء ضربا من التعبير عن التحدي الاجتماعي والديني وثورة نفسية في ثوب قصائد شعرية بديعة ، وبحثا محموما من قبل الشعراء عن ذواتهم في سياق اجتماعي وأخلاقي لا يقدّر قيمتهم ولا يقدح زناد شاعريتهم المتوقدة ،لأنه سياق أكرهوا على قبوله والعيش فيه .
وقد شكل أبو نواس أنموذجا متفردا في هذا الباب وإن شابت تجربته الشعرية الكاملة – إذا صحت نسبة كل الأشعار إليه - مجموعة من المفارقات والتناقضات المتمثلة أساسا في الزهد في الحياة وذم الدنيا ومتاعها والهروب من همومها والتسامي عن كل الماديات والتعلق بالروحيات وبين الإفراط في ذكر الخمرة و التغزل بالمذكر و الغلاميات والشعوبيات تعبيرا عن الاغتراف من قاع الشغف والكلف باللذة الحسية والرفض والثورة على الواقع وعلى مكانة الشاعر غير المشرفة :
· الرّاح شيء عجيب أنت شاربها فاشــــــــــرب وإن حمّلتك الــــرّاح أوزارا
· يا من يلوم على حمراء صافية صِرْ في الجنان ودعني أسكن النارا
o وعاذلة تلــوم على اصــطـفـــــــــائي غــــلاما واضـحا مـــــــثل المهــــــــــــــــــــــــــ ــــــاة
o و قالت قد حرمت ولم توفـــق لطيب هـــوى وصــال الغــــــانيات
o بــــذا أوصـى كـتاب الـله فـينــــــــــــــا بتفضيــل البنيــن علــى الـبـنـــــات
مما سبق يتضح التجاذب والتصارع بين التفسيرين النفسي المستند إلى العقد النفسية واضطراب تكوين الشخصية الشعرية ، والتفسير الثوري القائم على الرفض النفسي والتمرد على الوضع الاجتماعي الذي يزيد إمعانا في الحط من المكانة الاعتبارية للشاعر والمرجعية الرمزية التي تمتّع بها على امتداد المراحل الأولى والوسيطة من العصر الجاهلي ، وقد ساهم كل ذلك في تظاهر مجموعة من الشعراء لقيادة ثورتهم الإبداعية وحملهم لواء عدم الرضى والقبول والتعبير عن ذلك كل حسب قريحته ووسيلته ومواضيعه والتي اختارت في أغلبها خندق الشعر الشاذ الذي يمتح من القضايا التي يعالجها المجتمع بكثير من التغاضي والتجاهل والتعالي .
أحمد هيهات