نستطيع القول بوجه عام، متجاهلين إلى بعض الجزئيات والاستثناءات التي لا تؤثر
على الصورة العامة، أن العالم المتحضر قد فشل في دفع شعوب الشرق الأوسط إلى
الحداثة.
فشل أولاً خلال ما نسميه "المرحلة الاستعمارية"، التي حاول
فيها "الاستعمار" بطريقة مباشرة تحديث ما تحت سيطرته من شعوب، أقصى ما
نجح فيه خلالها هو تحقيق تحضر مادي جزئي، يكاد لم يؤثر عميقاً وجدياً في تحضر
الإنسان ذاته. ثم فشل ثانياً فيما بعد الحرب العالمية الثانية، حين حاول الأخذ بيد
الكيانات السياسية التي الناشئة والمستقلة، لتصير دولاً حديثة، تجمع شتات
المكونات الإثنية والطائفية التي تشكلت منها، وتسير بها في ركب الحضارة العالمية،
التي أخذت منذ ذلك التاريخ في العدو باتجاه حضارة تجدد نفسها كلياً كل بضعة سنوات
ثم كل بضع شهور، وحالياً ربما يجوز القول كل بضعة دقائق. وفشلت الشعوب الحرة
أخيراً في تطوير شخصية إنسان الشرق الأوسط الذي هرب إليها ليعيش بين ظهرانيها،
فبدلاً من أن يصير مع الوقت صالحاً للعمل كرسول للحداثة لبلاده الأصلية، وجدناه
إما منعزلاً منكفئاً على ذاته وثقافته وهويته، كحصوة في أمعاء مجتمعات الحرية
والحضارة، وإما ينقلب إرهابياً، يفجر ويقتل أهل الحضارة الذين احتضنوه، أو يقوم
بهجرة مرتدة لبلاده، حاملاً زاداً من الكراهية للعالم ولذاته، التي يقوم بتحويلها
إلى قنبلة تنفجر في أهله، في محاولته العودة بهم إلى المستوى اللاحضاري لأربعة
عشر قرناً خلت.
المعضلة هي كيفية تمتع الإنسان الفرد بقوة شخصية وثقة بالنفس، لابد وأن تكون
مستندة إلى أوليات حقيقية غير وهمية، يرجع أهمها لطبيعته البيولوجية الموروثة،
وبعضها للتأهيل السيكولوجي والمعرفي والمهاري. فهذه المقدرة هي التي ستمكنه من
رفض ما يجدر به رفضه من موروثه الثقافي والاجتماعي، والإقبال على ما عليه الإقبال
عليه من تحرر وحداثة، وهي التي ستجعل منه "صانع حضارة"، وليس مجرد
مستهلك لها، وفي نفس الوقت ناقم وكاره لأهلها. . لن يفيد فيما نرى من استقراء
التاريخ والواقع الراهن العمل على الشق التأهيلي وحده، لوضع نهاية لانكفاء شعوب
الشرق الأوسط، واقتلاع ثقافة الكراهية والإرهاب من تربتها. كما لن تجدي مطاردة
واستئصال من تنتجه المنطقة من إرهابيين، لأن الأرض تنتج منهم دوماً المزيد
والمزيد. . ربما هي الهندسة الوراثية التي قد تستطيع إنتاج إنسان شرق أوسطي
جديد!!
لعلنا نشهد الآن النهاية الحقيقية للتاريخ، ليست تلك التي تحدث عنها فرنسيس
فوكوياما عبر ما قال أنه موت الأيديولوجيا، لكنها انتهاء مسيرة الإنسانية إلى
أقصى ما تستطيع الوصول إليه وهي "العولمة"، التي وضعت كل البشر
بتناقضاتهم واختلافاتهم في مركب واحد، ما يترتب عليه عدم استطاعة المكونات
المتحضرة الذهاب لأبعد مما تسمح به أو تطيقه المكونات الأكثر تخلفاً وعجزاً. هذا
ما تفرضه وتفعله الآن التيارات التي نطلق عليها أوصاف "ظلامية"
و"إرهابية". هي تقوم بوقف مسيرة الحضارة، ليكون من المحتم الآن ليس فقط
التوقف عن المزيد من التحضر، وإنما يقتضي الوصول إلى حالة مستقرة أن ترتد البشرية
عن "العولمة"، لفك ولو جزئي للارتباط بين المتحضر والعاجز عن التحضر،
لكي تستطيع الشعوب المتحضرة الحفاظ على حياتها وحضارتها. هكذا تكون
"العولمة" هي النقطة الأعلى في منحنى صعود الحضارة الإنسانية، والتي
يبدأ بعدها الهبوط. هناك أيضاً أن مقاومة الأرهاب الذي يضرب العالم الغربي تقتضي
ارتداداً جزئياً عن الليبرالية، إلى ما هو قريب الشبه من النازية والفاشية، في
محاولة للتفريق بين "البشر" و"أشباه" أو "أعداء
البشر"، كما يحتاج الأمر للتفريق بين "حرية الفكر" و"حرية وحشية
الفكر" أو "الفكر الوحشي" القادم من أيديولوجيات الشرق الأوسط. .
"العولمة" هي نقطة نهاية التاريخ.