تُشكل الثقافة الأبوية المانع الأكبر في طريق التطور والدخول إلى عصر الحادثة، وإزالة هذا المناع والقضاء على هذه الثقافة يمثل أهم واجبات المثقف الذي يهدف إلى
الخروج بأمته من العصور الوسطي والدخول إلى عصر الحداثة. إلا أن أداء هذه المهمة يتطلب من المثقف الاصطدام بكل من يكرس ويحمي هذه الثقافة عن وعى من أجل مصالح سياسية أو عن غير وعى اعتقادا أن هذه الثقافة هي الخير وأن التمسك بها هو طريق التقدم.
أي أن على المثقف أن يصطدم بالسلطة السياسية وحليفتها السلطة الدينية من اجل القضاء على هذه الثقافة ونشر وترسيخ قيم الحداثة. فالسلطتين السياسية والدينية يحميان ويدافعان عن الأبوية في المجتمع لأنها الثقافة المؤسسة لإلغاء العقل وإتباع الحاكم أو رجل الدين أو شيخ القبيلة أو كبير العائلة أو الحكيم أو أي صاحب نفوذ دون إعمال للعقل أو إيمان بالحرية والمساواة أو شعور بالفردانية، أي القضاء على قيم الحداثة قضاء تام، ما يسهل سيطرة السلطة السياسية على الجماهير وقيادتها مثل القطعان المستأنسة، وهو ما يطيل عمر الاستبداد الذي ينهب خيرات الأمة.
ولأن دور المثقف هو العمل في الاتجاه المعاكس لهذه السلطة، أي أن دوره هو التبشير بالحداثة ونشر قيمها في المجتمع، تتجه السلطة إلى قمع المثقف وتخويفه لمنعة من أداء مهمته ودورة في المجتمع. وهنا ينقسم المثقفين إلى مجموعتين، مجموعة تخاف وتتراجع بل وتضع لنفسها حدود وقيود ذاتية تجنبا للصدام مع السلطة، وما يؤدي إليه من عقوبات تتراوح بين النبذ والتهميش والتشويه وانتهاء بالقتل مرورا بالسجن والنفي. أما الجزء الأخر فيدخل في مواجهة مع السلطة ويتحداها من أجل نهضة أمته وتطورها مدافعا عن قناعاته في الحرية والمساواة والديمقراطية والعلمانية، وناشرا لأفكاره في المجتمع، ما يجعله يدفع الثمن في سبيل أفكاره من ماله ووقته وحريته وربما حياته، إلا أن أفكاره تنتصر في النهاية على الديكتاتورية، فيذهب الطاغية وأعوانه إلى الجحيم وتبقى الأفكار الحداثية لتنهض بالأمة.
كذلك تقف الجماهير المغيبة بفعل التعليم الجامد المنغلق، ورجال الدين ناشري الخرافة، وإعلام الطاغية الذي يمارس أعلى درجات غسيل المخ، في مواجهة المثقفين لمنعهم من نشر أفكارهم. فهذه أفكار جديدة وقد تعلموا أن كل جديد هو بدعة وكفر وهرطقة، يريد تدمير المجتمع والقضاء على هويته. وهذه أفكار تأتي إلينا من الغرب، وكل ما يأتي من الغرب هو شر ومؤامرة على الدولة للقضاء عليها وعلى نهضتها المزعومة التي لا توجد إلا في وسائل إعلام الطاغية. فتقف الجماهير بالمرصاد لكل مثقف يريد لها الخير، بعد أن تم تغييب عقلها وغسل مخها، معتقدة أنها بذلك تحمي الوطن والدين من الخونة والكافرين والمهرطقين. وهنا أيضا ينقسم المثقفين إلى قسمين، قسم ينافق الجماهير من أجل شهره زائفة واحترام مصطنع، يفرح بها المثقف على حساب أفكاره وقيمه. أما القسم الثاني، فيخوض معركة الوعي متحملا ما يتلقاه من عنت وتشويه وسب وقذف مدركا انه يقوم بدور الطبيب المعالج لمريض يقاوم العلاج وأن يوم شفاء المريض سيدرك كم كان الطبيب محبا له. وهو ما سيحدث ولابد، فتستفيق الأمة على واقعها المرير وتدرك أن المثقفين المناضلين الذين تحملوا قمع السلطة وهجوم الجماهير كانوا في الحقيقة هم الجزء المخلص للأمة، وهم يأخذون بيدها إلى الحداثة.
فالحداثة وقيمها لا بد ستنتصر في النهاية، ولكن متى تنتصر؟ تقع إجابة هذا السؤال على عاتق المثقفين، فكلما زاد عدد المثقفين المناضلين قل زمن المعركة وأتى نصر الحداثة سريعا، وكلما زاد عدد المثقفين المنافقين للسلطة وللجماهير كلما طال زمن المعركة وأتى نصر الحداثة بطيئا.