هل صحيح أن اليأس، كما يقول بطرافة ج.ل. تشيسترتون، امتياز طبقي مثله مثل السيجار"
وهذه المسلمات هي:
1- النخبوية والأنانة: إن أغلب البشر لا يستحقون أن يسموا أفراداً، فهم يشكلون كتلة متجانسة محكومة بغريزة القطيع، ومبتذلة، وامتثالية وغبية. يفكرون جميعهم بالطريقة ذاتها ويقومون بالأشياء نفسها: يتزوجون، وينجبون، ويتسلّون بحماقة.
2- الاشمئزاز من الأنثوي الذي يمثل الوجود الجسدي والحسي. إن العدمية كارهة للنساء في جوهرها، لأنها تدين الحياة الجسدية وتعد النساء مسؤولات عنها.
3- احتقار الحياة الأرضية. ليس هنالك ما يمكن استخلاصه من الحياة على هذه الأرض. وبما أنه ينظر لعالم البشر كمسرح لحركة غريبة مضحكة ولا معقولة، فإن العدمي غالباً ما ينأى بنفسه بعيداً عن السياسة إنه يود لو أنه لو يولد أبداً أو لو أنه قد مات منذ زمن، ويحلم بالانتحار لكنه في الآن ذاته يخشى الموت كثيراً ويطمع بالخلود بفضل منجز أو أثر روحي.
هذا الادراك لحضورنا في العالم باعتباره عبثاً عبر عنه الكثير من الأدباء، فهذا يوجين ايونسكويقوم في مذاكرته "حاضر ماض، ماض حاضر.بدءاً من أية لحظة بدأت الآلهة تنسحب من العالم؟ منذ أية لحظة فقدت الصورة ألوانها؟ منذ أية لحظة أُفرغ العالم من جوهره، منذ أية لحظة لم تعد العلامات علامات، منذ أية لحظة وقعت القطيعة التراجيدية، منذ أية لحظة تركنا لمصيرنا، أي منذ أية لحظة لم تعد الآلهة تريدنا كمتفرجين، ومشاركين؟ لقد تركنا لأنفسنا، لعزلتنا، لخوفنا فولدت المشكلة: ما العالم؟ ومن نحن؟".
أطلق كالديرون في كتابه "الحياة حلم" عبارته التي كتب لها الخلود "إن جريمة الإنسان الكبرى هي أنه قد ولد".
كما نسب شكسبير لماكبث فهماً للحياة بوصفها "حكاية يرويها أحمق، حكاية صاخبة وعنيفة ولا معنى لها".
بليز باسكال (عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي) عبر عن الحيرة الوجودية ذاتها في عبارات باتت مشهورة: "غارقاً في الاتساع اللانهائي للفضاءات التي أجهلها وتجهلني، أصاب بالذعر" أو "يرعبني ويذهلني أن أجد نفسي هنا، وليس هناك، لأنه ما من سبب لأكون هنا وليس هناك، لماذا الآن وليس آنذاك".
مع فلوبير وبودلير المولودين عام 1821 شهدنا ولادة العدمية الحديثة، ولعل قصيدة بودلير "الهاوية" تلخص أروع تلخيص تلك الفلسفة:
يا للأسف! كل شيء هاوية، الفعل والرغبة والحلم
والكلمات! وعلى شعر جسدي الذي يقف تماماً
أحسّ ريح الخوف تسري مرات ومرات
فوق، تحت، في كل مكان، القاع، الشاطئ الرملي،
الصمت، المدى المخيف الآسر..
وعلى خلفية ليالي يرسم الله بإصعبه الخبيرة
كابوساً متعدد الأشكال لا يتوقف:
إني لأخشى النوم كما تُخشى حفرة كبيرة
قد ملئت تماماً برعب غامض يفضي إلى حيث لا ندري،
ولا أرى عبر النوافذ كلها غير ما لا ينتهي
وعقلي المسكون دوماً بالدوار
يحسد العدم على قسوته
- آهّ لو أنني لا أخرج البتة من الأرقام والكائنات!
بدءاً من العام 1880 ومع النجاح المذهل لفلسفة شوبنهاور استقرت العدمية في الموقع الذي لم تغادره منذ ذلك الحين: موقع أقوى مدرسة فكرية في أوروبا الغربية.
مع الحرب العالمية الثانية، ومع التدمير الجنوني لأرواح البشر، بالملايين لا بالآلاف، ومع غرف الغاز والقنبلة الذرية، وكوليما، وأوشفيتز ،وهيروشيما، وناغازاكي، كف معظم الكتاب الأوروبيين عن الاعتقاد أن الأدب يمكن أن يساعد على فهم العالم والعيش فيه، وباتوا متشككين إزاء كل شيء، بدءاً من اللغة والسرد. لقد أضرمت النازية ناراً في قلب أوروبا نفسها.
إن الغالبية العظمى من العدميين مصابون برهاب الإنجاب. لذلك فإن عدم الإنجاب عندهم ليس مجرد خيار بل هو مبدأ يتعذر نقضه وبالتالي فهم أعداء النساء. والفيلسوف شوبنهار الذي عانى الوحدة في حياته ولم تلق كتبه النجاح إلا في أواخر حياته لكن ذلك لم يصالحه مع البشرية فعند وفاته عام 1860 عن اثنين وسبعين عاماً كان وريثه الوحيد هو كلبه. يمثل شوبنهاور العدمي الكاره للنساء ففي حوار معه في الثانية والستين من عمره عام 1850 يقول عنهن:"إن الفكرة لا تهمهن لذاتها، فحين تتحدث إليهن عن العلم والتاريخ والشعر والفنون الجميلة، لا يفكرن إلا بما يمكنهن استخلاصه من ذلك ضدك، من أجل الاحتفاظ بك وإخضاعك وتطويقك".
من المؤكد أن شوبنهاور لم يكن في حال جيدة، كان ينبغي أن يهب أحدهم لمساعدته. لم يكن كلبه كافياً، كان ينقصه أصدقاء، كان ينقصه الحب!لكن رغم ذلك راح القراء، عوض النظر إلى كلامه كنوع من الهذيان، راحوا يغبون كلماته وكأنها إكسير الحياة.وانطلاقاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبح شوبنهاور هو الفيلسوف الرائج. ففي فرنسا، نحو العام 1880 كما يعبر أحد معاصري تلك الحقبة"بات الناس يتعاطون شوبنهاور كما يتعاطون المورفين".
أما صموئيل بيكيت مؤلف المسرحية العدمية الأشهر "في انتظار غودود" فكان يقول: "ولادتي كانت خسارتي". كان بيكيت يقرأ شوبنهاور بعمق يعبر عن هذه القراءة لفلسفة شوبنهاور بقوله:جرعة من هواء نقي! كل ما جربته عداه لم يفعل سوى التأكيد على الإحساس بالغثيان، كتب يقول إلى صديق. كانت قراءته أشبه بنافذة انفتحت فجأة في غرفة تفوح منها رائحة العفن. لقد عرفت على الدوام أنه من بين أكثر الأشخاص أهمية في حياتي، وبدأت أفهم الآن لماذا كانت قراءته متعة أكثر حقيقية من كل المتع التي ذقتها منذ زمن طويل. إنها لمتعة أيضاً أن تجد فيلسوفاً يُقرأ كما يُقرأ شاعر".يصف بيكيت عمل شوبنهاور بأنه "المحاولة الأكثر طموحاً لتسويغ الشقاء فكرياً".
يشعر بيكيت بأنه مذنب لتركه أمه وحيدة طيلة سنوات الحرب الخمس، لأنه لم يستطع منع وقوع الكارثة، لأنه ترك أصدقاءه المقربين يموتون، لأنه لم يمت هو نفسه. إنه مذنب، وتتراكم الحجارة."كل ما أندم عليه هو أنني ولدت، لقد بدا لي دائماً أن الموت يستغرق زمناً طويلاً جداً وأنه متعب جداً".
إذا كان بيكيت قد تعرف إلى المعاناة في بطن أمه، فإن التجربة الحاسمة في حياة إميل سيورانقد جاءت وهو في سن الخامسة: لقد أحس بالضجر.
هل هنالك ما هو غير عادي أكثر من أن يشعر طفل في الخامسة بالضجر؟"كانت نوبة الضجر تلك، التي أصابتني بعد ظهر يوم لن أنساه أبداً، أول يقظة وعي حقيقية لي. لولا الضجر لما كان لي هوية.. الضجر هو العثور على الذات- بإدارك بطلانها".
معظم شذرات سيوران تعبر عن عدميته إذ نجده يقول:
"أن تكون العزلة خطيئتك، أن تتسبب بالأذى عبر القطيعة، ألا تعرف فرحاً إلا في انسحابك. أن تكون في غاية الوحدة".
"أود أن أكون حراً، حراً بجنون، حراً كمولود ميت".
" السعادة تشل عقلي، النجاح يفرغني مني، والحظ والحب يمحوان آثار العظمة".
أما الأديب النمساوي توماس برنهارد فيقول:
عبقري أنا،
كررت القول دائماً لنفسي
ضد كل ما يمكنه أن يناقض ذلك
إننا نصاب باليأس مبكراً جداً
لقد أفدت منه
فجعل مني عبقرياً.
*
هل تفهمون؟ الحياة هي اليأس
الخالص، شديد الصفاء، شديد العتمة
شديد الشفافية.. ليس هنالك سوى درب واحد يفضي
إليها عبر ثلج اليأس وجليده، وعلى المرء
أن يسلكه متجاوزاً خيانة العقل.
*
"إن المخرج الوحيد المتبقي لنا في النهاية هو أنه لا أمل أبداً.. لم يكن كل شيء سوى خدعة، حين نعاين الأمر عن كثب، نجد أن حياتنا كلها لم تكن سوى روزنامة بائسة حملت تواريخ الطقوس ثم سقطت جميع أوراقها في النهاية.
*
"لا تخافوا من السعادة، إنها غير موجودة".
*
فلتنموا في أعماقكم شعوراً عميقاً بالضغينة تجاه الحياة.. هذه الضغينة ضرورية لأي إبداع فني حقيقي..ولتعودوا دائماً إلى الأصل الذي هو المعاناة.
ميشيل ويلبيك
إن قراءة النصوص العدمية الكبرى تمثّل في الأغلب تجربة مثيرة. فالتعبير عن اليأس يدفعنا إلى التأمل، أكثر بكثير مما يفعل التعبير عن الغبطة. إننا نعثر فيه على بغيتنا لأننا لا نجد اعترافاً بآلامنا الخاصة فحسب، بل نجدها وقد ارتقي بها إلى النبل، والتوهج بفعل روعة الأدب. كما سبق وكتب بلزاك: "الألم لا نهائي، أما الفرح فمحدود".
وتختم نانسي هيوستن بحثها حول"أساتذة اليأس: النزعة العدمية فى الأدب الأوروبي" بقولها:
عبثاً يصرخ أساتذة اليأس. فهم لن يجعلوا الحياة، أبداً، معاناة خالصة.ولكي نعاين مدى فداحة فرضيتهم هذه، يكفي أن يخرج المرء من بيته قليلاً، أن يسافر قليلاً، أن يفتح عينيه. فليذهبوا ليتحدثوا عن العدم إلى المعتاشين على القمامة في القاهرة، إلى الشباب الذين يتعلمون دروساً في كتابة السيناريو في أواغادوغو، إلى راقصات الهند الجميلات، إلى الصيادين في مارسيليا، إلى عازفي الكمان في أروكسترا شيكاغو الفيلهارمونية، إلى العائلات التي تتنزه بين القبور في مكسيكو، إلى بائعي الخضراوات في بكين: سيهزأون بكم، فلديهم ما يفعلونه خيراً من الاستماع إلى ندبكم، وهم يفعلون! إنها لا تعد ولا تحصى الظواهر التي تثبت فشل نظريات عشاق السواد. إن العدم، وإن بدا ذا سلطة مطلقة ولا نهائياً على نحو مرعب، هو في الحقيقة شيء ضئيل وضيق، بل سأقول ما هو أكثر: إن الحياة البشرية جديرة بأحكام أقل تسطيحاً من ثنائية: أمل/يأس، فهي، في آن معاً، رائعة ومرعبة، مسلية وفظيعة، نبيلة وبذيئة، خير وشر. إنها معقدة، وبالتالي يتعذر توقعها، وهذا يجعلها مثيرة للشغف، هذا هو شرط تفكيرنا والنبع الوحيد لضوئنا.
الحياة ليست عبثية ولا غير عبثية، إنها كائنة، وهي ما يصنعه الناس بها.
أما فلسفة العدم، فهي عبثية فعلاً وقولاً.
من كتاب: أساتذة اليأس: النزعة العدمية فى الأدب الأوروبي