رغم أهميته الكبيرة كركيزة أساسية لأي عمل إبداعي،
فقد تراجع دور النقد العربي وبقي النقاد بعيدا عن تطور المنجز الإبداعي، الذي تجاوز
معاول النقد القديمة وأطره
المنهجية التي بقيت ثابتة بعيدة عن خصوصية الأدب العربي،
ولم تتوقف مشكلة النقد في علاقته بالنصوص وكتابها فحسب بل تجاوزت ذلك إلى انقطاع الصلة
بين النقاد وجمهور الأدب إذ بقوا متمترسين بالمصطلحات الجافة في أبراج بعيدة عن القراء،
ما ساهم في عزلة النقد التي أدّت بدورها إلى ظهور نمط تقييمي جديد في مواقع على الإنترنت،
وهي تقدم بديلا خطرا عن النقد، إذ توفر الفرصة لأي كان لتقييم العمل الأدبي دون دراية.
“العرب” استطلعت آراء بعض الكتاب والنقاد حول هذه الظاهرة.
على النقاد أن ينزعوا الثوب النخبوي
القاهرة- طالما وجهت أصابع الاتهام إلى الحركة النقدية
في العالم العربي بعدم قدرتها على مواكبة المنجز الإبداعي على كافة الأصعدة في الكثير
من الأحيان، لكون الحركة الإبداعية تتقدم وتتزايد في ظل كثرة الأعمال الأدبية المقدمة
كل عام في حين يعجز النقاد عن تقييم كافة الإبداعات المقدمة، من جهة أخرى تكال الكثير
من الاتهامات إلى النقاد كونهم لا يعبأون بالكثير من الإبداعات المميزة في الوقت الذي
يصبون فيه جل اهتمامهم على أعمال لا تتسم بالجودة الكافية، لحسابات تتعلق بالمجاملات
والعلاقات الشخصية بأصحاب هذه الأعمال.
وفي ظل الأزمات المتلاحقة التي تعاني منها الحركة
النقدية، توقع الكثير من المعنيين بالشأن الثقافي والمتابعين له أن يصل تراجع دور النقد
الأكاديمي إلى نهايته وأن يُشيّع إلى مثواه الأخير بعدما ضعفت صلته بالمؤلف من جهة
وبالقارئ من الجانب الآخر، ليمارس دوره التنظيري الذي لا يعبأ به القارئ أو لا يشكل
أهمية بالنسبة إليه نظرا إلى ما يحمله من مصطلحات أكاديمية يصعب فهمها على القارئ العادي.
النقد التنويري
في كتابه “موت الناقد”، أكد الناقد البريطاني رونان
ماكدونالد أن دور الناقد قد تضاءل وشحب بسبب ابتعاده بشكل جليّ عن كتابة “النقد التنويري”،
وفي تقديمه للكتاب لفت المترجم فخري صالح إلى أن ذلك الموت يعززه اكتفاء الناقد بكتابة
“دراسات وبحوث مليئة بلغة الرطانة التي لا تفهمها سوى نخب متخصصة عالمة باللغة الاصطلاحية
والمفاهيم والمنهجيات التي توجه هذا النوع من الكتابات النقدية التي لا تلقي بالا لما
تهتم به الجمهرة الواسعة من القراء من تعريف بالأعمال الأدبية وتقديم إضاءات حولها”.
إعادة الاهتمام بالنقد الأكاديمي تقتضي استعادة
أهمية فكرة الجدارة الفنية، وأن يقوم النقاد الأكاديميون بدورهم التقويمي
يخلص ماكدونالد في كتابه إلى أن ثمة سلطة نقدية
صارت تعلو على سلطة الناقد الأكاديمي، تتمثل في القراء الذين يقدمون تقييماتهم للأعمال
الأدبية وفق رؤيتهم الخاصة وتفضيلاتهم الجمالية من خلال مواقع تقييم الكتب أو من خلال
مواقع التواصل الاجتماعي، لافتا إلى أن إعادة الاهتمام مرة أخرى بالنقد الأكاديمي تقتضي
استعادة أهمية فكرة الجدارة الفنية، وأن يقوم النقاد الأكاديميون بدورهم التقويمي وليس
“النقضي” فقط.
ومع انتشار وسائل التواصل الحديثة وبزوغ قيم تسويقية
مختلفة عن الماضي تعتمد على الإنترنت والقراءة الإلكترونية، انتشر الكثير من المواقع
المهتمة بتقييم الكتب وتقديمها إلى القراء كذلك، من أبرزها موقع “جودريدز” وكذلك موقع
“أبجد”، وهي مواقع تتيح للقراء القراءة الإلكترونية أو تحميل الكتب، كما تسمح لهم بإبداء
آرائهم في الكتب التي قاموا بقراءتها وإعطاء تقييم لها وفقا لرؤيتهم وذائقتهم الخاصة،
فضلا عن مجموعات القراء على مواقع التواصل الاجتماعي والتقييمات التي يبدونها في مواقع
شراء الكتب إلكترونيا.
ذلك الانتشار لمثل هذه المواقع عزز العديد من التساؤلات
حول القيمة الحقيقية التي يمثلها ذلك النوع من النقد المُقدّم من قِبل قراء غير متخصصين
في النقد، البعض رأى فيه قيمة مضافة وتعبيرا حقيقيا عن تفضيلات القراء الجمالية، فضلا
عن قدرته على مواكبة الكثير من الإصدارات التي لا يواكبها النقد الأكاديمي، ولكن على
الجانب الآخر اعتبره الكثيرون خطرا حقيقيا يهدد الذائقة الأدبية بالانحطاط والتردي
والاعتماد على ذائقة لم تهذبها معايير الدراسة النقدية.
إبداع ثان
حركة نقد الأدب في الثقافة العربية متهمة بالشللية
والضعف
من جانبه، يؤكد الناقد الأدبي البارز يوسف نوفل،
أن مجال القراءة يرحب باستمرار بأي مساهمات في مجال القراءة والتقييم سواء أكانت هذه
القراءة تقييمية موضوعية أم كانت انطباعية، فالمهم أن تكون الآراء مجردة، وليس فيها
تحكيم للأهواء أو الدوافع الشخصية سواء أكان ذلك على صفحات التواصل الاجتماعي أم كان
في مجال الدراسات النقدية. ويتابع نوفل “التقييم النقدي يختلف اختلافا كبيرا وجوهريا
عن مجرد العرض أو «ريفيو»، لأنه كما أفسحنا صدورنا لتلقي عروض الكتب أو تلخيصها والتعريف
بها، فإن ذلك يكون من باب المعلومات العامة أي أنه نتيجة لذلك لا يغني عن ممارسة الدور
النقدي؛ لأن التعريف البسيط والمبسط أن له رسالة معينة وهي تختلف عن الرسالة الأساسية
التي يختص بها النقاد”.
ويوضح نوفل أن القراءة النقدية هي بمثابة الإبداع
الثاني، فكأن النقد يعيد إنتاج العمل الأدبي مرة ثانية من خلال قراءة متخصصة ودراسة
واعية مثقفة تختزل خبرة المبدع وزيادة، ثم يقوم الناقد الخبير بتقديم هذا العمل الموازي
أي الإبداع الجديد مرة ثانية مصحوبا بالتأويل والتفسير والتحليل والتقييم، وهذه المهام
المشار إليها لا تتوافر ولا توجد في العروض المبسطة أو التعريفات الموجزة.
الثقافة النخبوية
أما الناقد الأدبي حسام عقل فيؤكد على ضرورة التفريق
بين رواج أنواع معينة من الكتب لحسابات اجتماعية وثقافية وسوسيولوجية وبين القيمة الحقيقية
للكتاب، من حيث تحقق المعايير الفنية والأدبية فيه بشكل مناسب، فالكثير من الكتب شديدة
الضحالة لاقت رواجا كبيرا بين الجمهور وهي تحمل سما فكريا يسمم الأدمغة، والكثير من
الكتب القيمة لم تلق الرواج الملائم لها.
ويضرب عقل المثال بتلك النوعية من الكتب التي تخاطب
الغرائز لدى الشباب، والتي تلقى رواجا بين جموع الشباب وتحقق نسب مبيعات مرتفعة، في
حين أن المعايير الفنية فيها تكاد تكون منعدمة.
ويستطرد “مع ضغط اقتصاد السوق والموجة العولمية
والرأسمالية بات من الضروري إدخال عنصر الاستفتاءات كنوع من أنواع التقييم، وهو ما
يحدث في تقييم المسابقات مثل «أمير الشعراء»، تلك الاستفتاءات يشارك فيها شباب ناشئ
وضعيف الخبرة، وهو نوع من التلاؤم الذي لا يعكس رهافة في الوعي”.
ويؤكد عقل أنه لا بديل عن النقد والنقاد الذين يقيّمون
النصوص الأدبية بنوع من الرصانة والجدية، وإن كان على الجانب الآخر هناك ضرورة لأن
يبتعد النقاد قدر الإمكان عن الثقافة النخبوية المستغلقة والتخفف من النخبوية والاقتراب
من أسئلة الجماهير، فازدهار الحركة الأدبية في الخمسينات والستينات لم يكن رهينا سوى
لوجود نقاد مثل محمد مندور وغيره ممن أثروا الحياة الأدبية وقتذاك.
مع انتشار وسائل التواصل الحديثة وبزوغ قيم تسويقية
مختلفة، انتشر الكثير من المواقع المهتمة بتقييم الكتب وتقديمها
عزلة الناقد
الكاتب الشاب عمرو المنوفي، الذي وصل عدد من رواياته
إلى قوائم الأكثر مبيعا، يقول في تصريحات خاصة لـ”العرب”، “لا يمكن بالطبع أن تحتل
هذه المواقع أو تكون بديلا عن دور الناقد برغم ما يتصف به الآن من الشللية والانغلاق،
فدور الناقد الأكاديمي المتخصص مطلوب ونقده البنّاء ضروري لتصحيح مسار بعض الأعمال
الأدبية التي قد تجنح للشطط أو النمطية”.
ويستطرد “مثل هذه المواقع كانت في بدايتها مقياسا
جيدا وموضوعيا للكثير من الأعمال الأدبية، ولكنها حاليا تخضع للرؤية الانطباعية أكثر
منها لتقييم جاد، ولكن غياب النقد التقليدي منح مثل تلك المواقع، كامل الحق في أن تكون
مقياسا ولو على غير أسس نقدية صحيحة، وبالطبع فقد فرض على نفسه العزلة ولم يعد القارئ
يبحث عنه، واكتفى بتبادل الآراء”.
وسيلة إعلام
الكاتبة الصحافية والأديبة سامية بكري ترى أن مواقع
تقييم الكتب لا يمكن أن تكون بديلا عن دور الناقد المتخصص، ولكنها تعد بمثابة وسيلة
إعلام يسترشد بها القراء في ما بينهم، ومن الممكن أن تستغل بشكل خاطئ في ترويج أعمال
ليست جيدة، ولكن هنا الحكم يكون للقارئ واختياراته.
وتلفت بكري إلى أن مثل هذه المواقع قد خلقت مجتمعا
للقراءة ولتبادل الآراء وهذا من الأشياء الجيدة، فما يحدث في هذه المواقع هو نفسه ما
يحدث في الحياة من حيث تبادل الكتب والآراء حولها، وأيّا كانت قيمة أو جودة العمل فسيخضع
للتجربة من قبل القارئ الذي سيتقبله أو يرفضه دون أن يُفرض عليه رأي معين.