قصيدة ( لَــوْ كُـنْـتُ أدْري..)
إلى روح والدتي
تَرَدَّدَ في مَسْمَعي صَوْتُها.
كُنْتُ أُصْغي
كأنِّي، في المِرْآةِ، أَرى وَجْهَها
قُرْبَ النّافِذَة أتَأمَّلُ قَوْلَها:
"وَلَدي.
لَوْ أمْهَلَني قَليلاً،
هَذا العِـيدْ!"
قُلْتُ فِي نَفْسي
ثَمَّةَ نَزيفٌ يَسْبِقُ الضَّوْءَ
وَغابَ الصَّدى في البَعيدْ.
لَوْ كُنْتُ أَدْري..
لِمَ النَّبْضُ اعْتَلاهُ الخَريف؟
ما احْتَضَرَ الحُلْمُ
وَسالَ الحُزْنُ عَلى خَدِّها..
*2*
يَوْمانِ فَقَطْ،
يَوْمانْ
أَمْهَلانِي غِبْطَةَ العِـيدِ
ثُمَّ انْهَزَمَتِ العينانْ
ها إِنِّي قَريبٌ مِنَ السَّريرِ
والجَسَدِ المُحاطِ بالأَسْلاكْ
أُمْسِكُ يَدَها
فتَعْتَريني رَعْشَةٌ بارِدَة.
*3*
هَو ذا الْحِدادُ دَنا مِنّي
يُغازِلُ سيقانَ الوَرْدِ
ينْحَتُني عَزْفاً
في شِفاهِ طفلٍ.. كُنْتُهُ
في لحْنٍ قديمٍ.. صِرْتُهُ
لَوْ كُنْتُ أَدْري..
لِمَ الوَجَعُ اسْتَبَاحَ النَّزيف؟
ما تعثّرَتْ خُطاي.
آهِ ما أَسْرَعَ المَوْتَ!
بَيْنَنا فَيْضٌ مِنَ القُرْبِ
يا أمّي،
وَحَياةٌ شاهِقَة..
أَذْكُرُ كَيْفَ زَرَعْتِ السَّعْدَ
فِي المَحافِلِ،
كَيْفَ نَسَجْتِ الكوْنَ رَبيعاً
فِي عُيونِ الصِّغارِ،
كَيْفَ تَسَلّلْتِ إلى قَراري
حينَ هاجَ البَوْحُ
مِثْلَ فَراشٍ أَرْقَصَهُ الحَرُّ،
كَيْفَ وَهَبْتِ وِسادَتي
حَريرَ الحِكايَةِ،
كَيْفَ حَرسْتِ غَدي
مِنُ جُنوني
وَسَمَوْتِ في الرّقْراق.
لَوْ كُنْتُ أَدْري..
لِمَ العِطْرُ تَمَسَّكَ بالفَجْرِ؟
ما اغْتالَتْ شَمْسيَ الغُيوم.
*4*
يا أنْتِ
كَأنَّ الأرْضَ بُرْكانٌ تَهْتزُّ تَحْتي.
يَمُرُّ السّحابُ سريعاً
فكيْفَ لِي أنْ أُمْسِكَ غَيْماتي؟
بَيْنَنا حَبْلُ سُرَّةٍ
فَأيُّ صَرْخَةٍ حَمَلَتْكِ بَعيداً
خارِجَ المَكانْ؟
يا أمّي،
لكِ المَسافاتُ والرُّؤى
لكِ الحُقولُ
وسَواحِلُ الكَلام..
لَوْ كُنْتُ أَدْري..
لِمَ المِسْكُ تمَسّكَ بالسّوادِ
ما ارْتَدّ صْوتِي رَمادًا
يَرْوي سيرَةَ الفُقْدانْ.
*5*
آهٍ..
يا أمّي،
رُبَّما انْحَرَفْتُ عنِ اليقينِ
كَيْ أُقِرَّ لِلْعالَمينَ
أنّك من يُذكّرُني
بالعُبور الأوّلِ نَحْوَ الذَّات
بالقُبَلِ الصَّغيرَةِ
بِعِشْقِ النَّوارِسِ والبَحْرِ
بطَيْفِ القَصيدَةِ
حينَ أخْلو للذِّكْرَيات.
يا أمّي،
هِي ذي الكَلِمات..
تَأبّطتْ مَدائِنَ الزّهْرِ
فَلَمْ أجِدْني..
إلاّ رَمْلاً فِي السَّرابِ
يُحْصي انْدِهاشَهُ
في التّجَلّي.
هِي ذي الكَلِمات..
تجْرَحُ كفَّ العُمْرِ
وتُسْدِلُ السِّتارَ دونِي.
وَهَذا العيدُ ما عادَ يَعْنيني.
*6*
آهٍ..
يا أمّي،
لا أصَدِّقُ تَعَبَ القلْبِ
ولا ارْتِفاعَ الضَّغْطِ
ولا اخْتِيارَكِ للانْزِواءْ
تِلْكَ حِكْمَةُ الطَّيورِ
حينَ تَخْتَفي كَيْ تَموتَ
في سَلام.
تَخْتلِطُ المَلامِحُ في ذهْنِي
وَلا أَدْري
كيْفَ أُقاوِمُ جُرْحَ الأيّام؟..
الآنَ فقط،
يا أُمِّي.. أراكِ
أُطِلُّ من شُرفةِ اليُتمِ
أتَمَلّى طيْفَكِ الحانِي
وأُبْحِرُ في سَماكْ.
*7*
أيُّ إْرْهابٍ أكْبَرُ مِنَ المَوْتِ؟
يا أُمّي،
هِي ذي الأحْلامُ تَهاوَتْ
لَوْ كُنْتُ أَدْري..
لم ارْتَجَفَ المساء؟
ما هَوى الحَرْفُ إلى حتْفِهِ.
لو كنت أدري..
لم ارْتَعشَ الضّياء؟
ما غاصَ الجَفْنُ في اللّهيب
يَرْوي قِصَّةَ النَّهْرِ
فِي رُكامِ الأَيّام.