رسالة غوغول الى قيصر روسيا : د. ضياء نافع
حضرت مرة ندوة حول الادب الروسي في نهاية ستينات
القرن العشرين في القسم
الروسي بجامعة باريس . لقد شارك في تلك الندوة
الادبية وفد سوفيتي ومجموعة من الباحثين والمتخصصين الفرنسيين في الادب الروسي
( معظمهم من اصول روسية او من المهاجرين الروس بعد ثورة اكتوبر 1917 في روسيا )
تحدّث اعضاء الوفد السوفيتي بالطبع من وجهة النظر
السوفيتية الرسمية في ذلك الزمن البعيد جدا , واختلفت الآراء والمفاهيم - في تلك النقاشات - حول عدة نقاط في تاريخ الادب الروسي ومسيرته وأحداثه , ومن بينها
, موقف الاديب الروسي العالمي الشهير نيقولاي غوغول من النظام القيصري في روسيا آنذاك . لقد أكّد الوفد السوفيتي على ان غوغول كان
معارضا ومضادا للنظام القيصري هذا , واستشهد
الوفد بمقاطع من نتاجات غوغول الادبية (خصوصا رواية الارواح الميتة ومسرحية المفتش
العام بالذات) , التي كانت تنتقد – وبشدة ووضوح وبشكل مباشر - بنية
ذلك النظام السياسي الروسي من رشا وفساد اداري
وتباين واضح و رهيب بين الطبقات ...الخ , وكان
رأي الجانب الآخر يؤكّد على ان هذه الانتقادات لم تكن موجهة ضد النظام السياسي الذي
كان قائما في روسيا عندها , وانما ضد النواقص
السلبية الانسانية في كل مجتمع ومرحلته التاريخية , بغض النظر عن النظام السياسي السائد
في ذلك المجتمع , والدليل على ذلك , ان تلك النتاجات الادبية لغوغول ما زالت حيوية , وان المجتمعات الانسانية
في العالم تتقبلها لحد الآن , بما فيها المجتمع الروسي السوفيتي المعاصرآنذاك .
كنت اتابع هذا النقاش الفكري الجميل بكل جوارحي كما يقولون , وفجأة قامت
سيدة روسية من هؤلاء المهاجرين ( وكانت في
نحو العقد السادس او السابع من عمرها ) وقالت للوفد السوفيتي بابتسامة ولكن بحدة وقوة ايضا, ان غوغول نفسه كتب الى القيصر طالبا مساعدته
, لأن وضع غوغول كان صعبا , بل وحتى حرجا عندما كان يعيش في ايطاليا بدون مورد مالي
ثابت ودائم , وان القيصر استجاب لطلبه ذاك , وأمر بمساعدته , فكيف كتب غوغول رسالة
الى القيصر وهو ضده وضد نظامه, وكيف استجاب
القيصر لطلبه وساعده في محنته وهو يعرف ان غوغول معارض له و ضد نظامه السياسي؟ .
بعد انتهاء تلك الندوة والنقاشات المفتوحة والمتناقضة
جدا حول ما جاء فيها من افكار وآراء, توجهت أنا الى تلك السيدة وسألتها : هل توجد لديها
مصادر تثبت ما قالته حول رسالة غوغول وطلبه المساعدة المالية من القيصر , فأجابتني
– وبثقة - انها اطلعت مرة على رسالة ( منشورة
في احد المصادر الروسية ) كتبها غوغول نفسه بهذا الخصوص , الا انها لا تتذكر الان تاريخها
او نص فحواها , بل حتى لا تتذكر اين قرأت كل هذه الوقائع , ولكنها متأكدة كل التأكيد
من ذلك , وأضافت ان اعضاء الوفد تهربوا من الاجابة على ما قالته لهم ومناقشتها حول ذلك , لأنهم يعرفون حق المعرفة هذه
الرسالة حتما ومضمونها بلا شك .
عندما خرجنا من القاعة , قلت لاحد اعضاء الوفد السوفيتي
الذي كان يسير جنبي بالصدفة , ما ذكرته لي تلك السيدة حول رسالة غوغول الى القيصر وما قالته لي بشأنها
, فاجاب ساخرا : ان هذا كلام عام ليس الا , ولا يمكن مقارنته بنصوص ابداعية معروفة
وواضحة كتبها غوغول نفسه ونشرها , ومازال العالم
يقرأ تلك النتاجات الادبية الخالدة , والتي تحدد موقف غوغول الصريح والواضح تجاه ذلك
النظام الاستبدادي وطبيعته .
مرّت اعوام طويلة جدا ( نحو نصف قرن !!!) على تلك
الندوة في جامعة باريس , ونسيت تماما هذه الحادثة
الطريفة في تاريخ الادب الروسي ( وفي تاريخ حياتي ايضا! ), ولكني تذكرتها فجأة الان
, عندما كنت أقرأ كتاب فيريسايف بعنوان - ( غوغول في الحياة ) , والذي اعتمد فيه مؤلفه
الاديب الروسي فيريسايف على رسائل غوغول ليس الا في رسم لوحة قلمية عن حياة غوغول ومسيرته
الادبية ( انظر مقالتنا بعنوان – غوغول بقلم فيريسايف ) , فقد عثرت في ثنايا ذلك الكتاب على أوليات تلك الرسالة التي
أشارت اليها تلك السيدة الروسية في باريس قبل نصف قرن تقريبا , وكدت أصرخ في تلك اللحظة بكلمة – ( وجدتها !) فرحا , مثلما فعل أرخميدس عندما
غطس في الماء في تلك اللحظة التاريخية !!!.
لقد وجدت في الصفحتين 208 و 209 من كتاب فيريسايف
( غوغول في الحياة ) المذكور اعلاه مقطعا كبيرا جدا واساسيا في الواقع
من رسالة غوغول الى الشاعر والمترجم الروسي جوكوفسكي , الذي كان على اتصال بالقيصر
وحاشيته وبلاطه,لأنه كان يقوم بتدريس ابناء عائلة القيصر , وغالبا ما كان يحاول مساعدة
الادباء الروس ومساندتهم في اوساط البلاط القيصري
( انظر مقالتنا بعنوان – اصدقاء بوشكين ) .
لقد كتب غوغول الى جوكوفسكي تلك الرسالة من روما في 6 نيسان / ابريل من عام
1837 , ويشير فيها الى تفصيلات دقيقة جدا حول
وضعه المالي الحرج جدا , بل والتراجيدي فعلا هناك , ويقول له فيها – ( اني فكرت وفكرت
ولم استطع ان أجد افضل من اللجوء الى القيصر . ) , ويرفق رسالته الى القيصر مع رسالته
هذه الى جوكوفسكي ويرجوه ايصالها.