اكْتُبْ و لو عِشْتَ ميِّتاً..!محمد
بشكار
نشر باتفاق مع الشاعر والصحفي محمد بشكار
اكْتُبْ و اجْعلْ بَدَلَ حُنجرتك القلمَ صوتاً، فلن تجد من يتفاعلُ مع
ما تكتُبُهُ قَدَراً في
الجبين، إلا نوويّاً حين يُلغِّمُ بعض أفكارك التي لا تقع بناتها
في حب من يُسيء الفهم، ليتخذها ذريعة للإنفجار غضباً دون أحزمة ناسفة..!
لا تكتُبْ من الأفكار إلا أثقلها، ليس لتعميق المفاهيم في العقول آباراً
تروي ظمأنا جميعاً للمعرفة و نفهم ما يجري حولنا، و لكن لأن الأفكار الثقيلة أنجع من
التمارين الرياضية لإنقاص الوزن في جهلنا أرطالا، و التخلُّص مما أكله البعض عن حق
أو باطل و صارت فضيحته مكشوفة للعريان في ضخامة البطن..!
اكْتُبْ و لا تَتَقَوْقَعْ في إحدى الصدفات تَحْسَبُ نفسكَ لؤلؤةً تنتظر
غوَّاصاً يسْبُرُ بكارتها، بينما أنت مجرَّد حلزونٍ رخوٍ يُخْرجُ مع قرنيه عينيهِ بعيداً
في كل وجهات النظر و هو أعمى كليل البصر..!
اكْتُبْ و لا تُسْرِفْ في التفكير حتى ينوءُ عُنقكَ برأسين و تصير من
فرط العبقرية التي تستمدها من دماغ مُضاعفٍ قليل الفهم..!
اكْتُبْ ما ينسجمُ مع الوضع العام حتى لا تشُذَّ عن النظام الذي سطَّره
بالحافر القطيع، و تغدو و حيد قرنِكَ في غابة المجتمع التي لا تُحبُّ من يتطاول بالقلم
أطول من أشجارها بعد أن توقفت في الركب الحضاري عن النمو، أو ينسى لسانه فيُعبِّرَ
عن مكنونات ألمه بحرية من يُطلقُ الحمام ليعود إلى القفص..!
أعترف بعد سِجالٍ ذهني مع نفسي جعلني أبدو بنظر الجميع في خصام مع ملابسي
التي تعاندني فلا تستقر على لون،
أني خرجت ُدون أن أفتح في عقل أحدهم باباً، بقرارٍ تاريخي لا يصلحُ للتدريس
في مادة الإجتماعيات، مفادُهُ أنْ أقْلِبَ مع وجهي معطف الثقافة الذي صار هذه الأيام
ضيقا و خشناً لا يفي الروح و الجسد من حيثُ مُتطلَّبات الموضة عُرياً؛ أجل سأطوِّحُ
بمعطف غُوغُول لأرتدي مع كلِّ من لا يُفَرِّقُ بين النَّاقة و الأناقة ياقة السياسة
التي تصلُحُ بمرونتها لتكون بَدَلَ جلْدِكَ الأصيل جلداً مُصنَّعاً فاخرا من نوع الكوير
العالمي؛ ياقةُ السياسة تصلُحُ لقضاء شتى الأغراض لباساً يكْشِفُ في سَتْرِهِ العورات
حفاظاً على بعض الإثارة في فيلم رعب طويل نعيش كابوسه بالأسود و الأسود على أمل أن
يبزغ الأبيض إذا ارتأى المُخرجُ أن تكون النهاية سعيدة..!
يَاقَةُ السياسة لا يأتي بمثل حياكتها إلا عنكبوتٌ يُتْقِنُ القفز خفيفاً
على كل الخيوط، فحين تضيقُ ذِرْعاً بالبَر و ما حوى من بشر، يمكن أن تغطس بالياقة في
البحر لتغرق في قرارة نفسك إلى أعماق الصراحة، و تُبْرِزَ للعالم أنك تستطيع بما أوتيتَ
من معْسُول الخِطاب السياسي، تَحْلِيَة حتى المياه المالحة في المحيطات..!
ياقةُ السياسة تُكْسِبُ جسمك مهما ترهَّلَ و كَتَمَ بسُمْنَتِهِ أنفاس
الفقراء، رشاقةً في البَر و البحر و حتى الجو كلما انتفَخْتَ بالهواء بالوناً، لتغدو
من الكائنات البرمائية التي تضعُ رِجلاً مع الشعب و أخرى مع نفسها إلى جوار الثلُث
الناجي في الحكومة و تحت قبة البرلمان..!
و مع ذلك اكْتُبْ و لا تضع قدماً إلا حيث تَضَعْ قلماً كأنكَ تمشي و لو
مشلولاً بالكتابة، لا تخشى و أنت تخطُّ مصيرك أن ينْدَسَّ إرهابي من تحت السطور ليزرع
معنى غير الذي تعنيه و قد لا يعني أحداً، و يحوِّلكَ بضربةِ تأويل لُغْماً..!
اكْتُبْ و لا تبْتَئِسْ إذا عِشْتَ ميِّتاً طيلة الكتابة، فقط انتظرْ
حتى يَنْصَرِمَ رَدْحٌ من الزمن يُعَدُّ بالأجيال، لتعود للحياة مخطوطاً انْتَفَعَتْ
بأوراقه الصفراء الأَرَضَةُ و كل حشرات الغبار أكثر مما انتفعتْ بأفكاره العقول..!
(افتتاحية
ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 19 ماي 2016)