ما القلق؟ ما الموسوم والموصوف بالقلق، أهي الحافة فيما يشير إعرابيا ومعنويا، المركب الإضافي «قلق الحافة»؟ أم هو الشاعر صلاح بوسريف إذ يقف على شفا
حفرة، شفا هوة، شفا جُرْفٍ هَارٍ، ويطل على هاوية بلا قرار يرى الخراب عاما مستحوذا، والانهيار شاملا يغطي الزرع والضرع، والإنسان؟
وعن أي قلق يتحدث فوزي عبد الغني المستدرج، الجاذب، المستخرج، والمستغور مسار ومسير وأعماق الكتابة كما تَنَطَّفَتْ، وتخلقت، واسْتَوَتْ نبتًا أخضر وأصفر، وأدكن، نَبْتاً أسودَ أحيانا، مع بياض ناصع يقول المحو المراد، المحو المبتغى الذي يعقبه محو فمحو، وصولا إلى حيازة الصوت المتفرد، لا المتصادي، ولا المحكي، الموطوء والقطيعي؟
حافة قلقة لا يستقر المحور على ترابها ودائرتها، وعمقها، وقلقٌ عَاتٍ ينذر بالسقوط فيها فيما هو يتماسك بكل ما أُوتي من قوة و شراسة، وغضب حَذَرَ الانطفاء والدثور.
لكن، ما الحافة المعنية هنا؟ الموسومة، والمشار إليها أو المومأ إليها عميقا بسند من المعطيات المعلنة في الكتاب؟ هل نقول، بلسان العارف، إنها حافة المواجع والفواجع، والمصائب، والخيبات، والانكسارات، والآلام التي تَتْرَى، والتي أشرنا إليها خطفا؟ أم هي حافة مدوخة تدير الرأس والقلب، وتصيب بالدوار والصداع متى ما رأينا إليها من فوق، من حَالق وشاهق، أو متى ما وقفنا على حَرْفها وَشَفَتها، نكاد ننجرف مع التربة الرخوة إذ هي جُرْفٌ هَارٍ، وشفير مضطرب مهتز تحت أقدامنا متى ما حاولنا الخطو، والتقدم أماما؟
أليست الحافة في حمولتها وبعدها المتعين بالمادة وبالرمز، هي الشرفة الهائمة العائمة المطلة من خلف ضباب وغبش، على الجهد الإنساني وهو يبني، وينشئ رقعة ضئيلة ـ في كل حال ـ تصلح عشا للحياة القصيرة أو المديدة، ويسعى ساكنه، ساكن العش الذي من قش، وطوب هَار،ٍ وخيط وَاهِن، لقول كلمته، وفي أثنائها، لإثبات ذاته، وأنَاهُ، والصدع برأيه، وموقفه وفكره، وشعره، وابتداعه وخلقه؟ وفي هذا ما يُحيلُ على قلق الشاعر بوسريف، وظمأه إلى المزيد من الماء، وجوعه إلى تفاحة المعرفة التي لا ينهيها نَهَمُ الإنسان في تعدده وتاريخيته، وراهنيته، ومستقبله؟
لقد أحسن عبد الغني صنعا حين استنفر قدرات الشاعر وزوادته وعدته من البوح، والتعاطي الحر الطليق المسئول مع أسئلة المحاور. ولعمري إنه لصنيع ثقافي رفيع، وعمل حضاري، وثقافة تنسلك في سُنَّةِ تكليم مبدعنيا ومثقفينا وفلاسفتنا، لنطل على «خابيتهم» العميقة السميكة سُمْكَ ما تختزنه وتدخره طبقة فوق طبقة. وهي سُنَّةٌ ثقافية حميدة دأب عليها كبار مثقفي العالم إذ فتحوا كوة ضوئية في الجدار المُصْمَت العالي للأدباء والمثقفين هنا وهناك. وباتوا ـ مما باحوا به، وشَهَرُوه، وقالوه ـ أكثر قربا وحميمية ودفئا، وتعليما للمتلقين، وتوطينا محسوسا للرموز، والإشارات البعيدة التي اغترفوها من قاع معرفي وأسطوري، وفكري بعيد. ولسوف نقول أيضا، إن صنيع بوسريف، يندرج في هذا الباب، من حيث فَتْحُهُ كُوَّةً، وتسليطه ضوءا مشعا على مبدعين، ومثقفين مغاربة وعرب، أثروا الحقل الثقافي والإبداعي بما لا يقاس من فكر، وإبداع بديع، وجمال، وفلسفة ثاقبة خلاقة، زعزعت البنى القائمة، وخلخلت الثوابت العقيمة المستبدة. ومِنْ ثَمَّ، فإن التفاتنا إلى الكتاب تعني ـ فيما تعنيه ـ تقريب أساسياته ومحاوره من القارىء، ليصطحب حالات ومقامات البوح والحكي والتحليل والتشريح والنقد والتعقيب، التي يقدمها الكتاب الحواري، منشرحا.
ومدار الكتاب المعرفي ـ الإبداعي هذا، على ثلاثة أجزاء، هي: تعطيل الصيرورة (المثقف العضوي، ومساءلة دور المثقف)؛ الخروج من القصيدة؛ فيما دار الجزء الثالث على ما أسماه عبد الغني بـ»مفترقات الجرح الشعري» مُسْتَلفًا الصورة من الشاعر بوسريف.
عنايتنا ستتجه في تقديم الكتاب إلى الشعر أساسا، ورأي بوسريف فيه من حيث هو ناقد. إذ أن المجال فسيح ينتصب فيه بوسريف واقفا وفي يده كتب نقدية خاضت في المجال، وقدمت فيه اجتهادات ثَرَّة وذات أهمية واختلاف، يحسن بقاريء شعره أن يكون على دراية بها.
نذكر، ونحن ندخل المجال آمنين مطمئنين وقلقين في الآن نفسه ـ لأنه مجال حافة قلقة، مهتزة، ورجراجة ـ كتبه ذات العناوين الواضحة الدالة على القلق إياه، في محاولة منه لاستنبات مصطلح جديد، وغرس تصور إبدالي للمُسْتَهْلَكِ النقدي المتقادم الذي تخلف عن المسايرة والمواكبة، وَتَشَرَّبَ النص الشعري المغربي والعربي، وهو يبدل أنساغه، وسماده، ويبحث عن هواء جديد يتنفسه ملء رئتيه، ومسامه. وإذاً، فالمسألة تتصل بـ»المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر»، و«فخاخ المعنى»، و«مضايق الكتابة»، و«الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر»، و«نداء الشعر»، وصولا إلى أطروحته الأكاديمية الموسومة بـ»حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر».
ومن ثم، تكون إجابات ـ ليس بالمعنى الحصري : سؤال /جواب ـ بل بالمعنى الغني السقراطي الذي يسائل الجواب عينه ما يتمخض عنه سؤال آخر في سلسال توليدي، نجح فيه المُحَاوِرُ والمُحَاوَرُ كلاهما. إجابات تحيل على الكتب المذكورة، تستقطر مناحيها في التفكير، و تستحضر رهاناتها في طرح الجديد والمغاير. وهي ـ بدءا ـ تعود إلى السند الأول والأخير في النقد، النقد المسئول العارف الذي يأكله القلق وهو يبحث عن بناية نقدية أخرى جديدة، تسكنها النصوص الشعرية المفارقة، والتي عليها من غبار الجد والكد والجهد والاختراع، والاختراق. النص بدْءٌ، وغَيْرُهُ تَالٍ. والقصيدة مُسَمَّى لأمٍّ وَلودٍ وهي الشعر. وما دام الأمر كذلك في نظر بوسريف، فالأحرى تسمية الكتابات الشعرية الاختراقية بـ»النصوص»، أو بـ»الكتابة»، هكذا. والكتابة على صيغة إفرادها، تنطوي على المعنى المتعدد والوفير.
وفيما هو يُبَادِهُ القارئ بحزمة اجتهاده التي تشع ضوءا وحفرا، وغنى ناجما عن عديد المرجعيات المقروءة، والخيارات المُنْهِكَة التي أخذت منه وقتا مديدا قبل أن تستقر على أوجه وقامات فكرية وشعرية معينة، كونية وعربية ومحلية، ينبري مناقشا جهابذة المعرفة النقدية الحديثة، وأساطين الشعرية المعاصرة، من أمثال ميشونيك، مُبَرْهِناً على أن الشعر لا يقوم بِدَالٍّ واحد، بل بدوال مخصوصة، مثل الإيقاع والخيال والصورة، و«دال الصفحة أيضا».
والحق أقول إن الدوال التي يذكرها بوسريف، وينافح عن وجوب حضورها في الشعر الذي لا يتعين إلا بها، وَرَدَتْ عند أكثر من ناقد لغوي وبلاغي وأسلوبي، غير أن ورودها اتسم بالتمزيق والتذرر وعدم الاتساق. من ذلك أن نقادا كُثْرا احتفلوا بالصورة الشعرية على حساب اللغة الشعرية والمفارقة، وآخرين اعتنوا العناية كلها بالوزن والقافية بما هما أُسُّ الشعر وقوامه وسنامه. وبعضهم وقف طويلا عند الإيقاع متأثرا بأبحاث اللساني والشاعر ميشونيك، وأحيانا بكتابات ابن عربي الصوفية والغنوصية. من هنا، وجوب جمع الشتات، وإعلاء أهمية الدوال التي تصنع الشعر، والتي تشتغل ضمن النص، عناصر بنائية متواشجة، متعاضدة، ومتلاحمة.
حضور القصيدة كمسمى وتوصيف في الدرس الأدبي والنقدي داخل المدارس والجامعات، والمهرجانات والملتقيات متأتٍّ، في اعتبار بوسريف من حضور وطغيان الشفاهة فيها وعليها. فالوعي الشفاهي غالب على المنحى التعبيري إياه، والاحتفاء به، جاء من البنيان الغنائي الذي تمتطيه، والبعد التطريبي الذي تسعى إلى توفيره وتحقيقه في النص.
وعندما يؤكد بوسريف على «الكتابة» كتسمية واسعة، مستوعبة، وإسفنجية، متشربة لعناصر ومكونات الشعرية، ودوالها، فما ذلك إلا لأنه يمارسها، ويحرص كل الحرص على إبعاد واستبعاد اللحظة الشفاهية أو الظل الشفاهي حتى لا يتسرب إلى شمس النص، فَيُرْدِيهِ غنائيا من حيث أراد الهروب والتملص والتحرر من لِحائِه وقشوره وظلال وَعْيه.
وبهذا المعنى، لا يَني صلاح بوسريف، يدفع نحو الكتابة كصنيع حداثي، وتحديثي، ولا يفتأ يكيل المديح تلو المديح للإنصات، لضرورته في فهم الشعر، والتحول مع تحولاته وهو يبني، ويشيد عمارته ودوامته وأفقه، ساعيا إلى محو خطاه الأولى، وتوقيع خطى جديدة وهي تحرث أرضا بكرا، وتشرئب نحو أفق متعال هارب منفلت. وفيما هو يكتب نصه مسلحا بالحكمة، وبضوء أسلافه ومراياهم التي تعكس ذلك الضوء في الاتجاهات كلها، تَشْرَبُه الحافة، وتمتصه قيعانها، وتُطَوِّحُ به عتمتها، والخفي والمتواري، فإذا به، وقد غاض الغَمْرُ يعود إلى «رشده»، فيرى آثار خطوه وقد فعل ما فعل من محو واندثار، وتسويد تشهد له الصفحة البيضاء التي هندستها زمنية الكتابة، ودبيب الإيقاع الساري في تضاعيف السواد بما هو جماع حروف، ولغة، وصور، والبياض بما هو فضاء وحيز، ومكان، وإقامة.
إن كتاب «قلق الحافة» ارتاد بالشاعر، وبنا، حقول ومجالات المعرفة والسياسة، والثقافة، والنقد، والشعر، والعذاب الذاتي، بشكل ماتع وممتع، نَمَّ عن معرفة وثقافة عميقتين، وتفكير منظم ومنهجي لامَسَ في كثير من طروحاته وآرائه ومفاصله ما يدور ـ راهنا ـ في الساحة السياسية والثقافية من أفكار واحتقانات واحترابات حول قضايا بأعيانها، كمثل الدين والأصولية واللغة والتعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد والنقد والشعر والتجييل، وغيرها.
إنه كتاب سجالي غني، جدير بالقراءة، والمتابعة والمحاورة والجدل، إذ يضع شخص بوسريف الشاعر في مرآة ناصعة مجلوة تماما، لا مقعرة ولا مجوفة ولا محدبة ولا مكعبة.
فوزي عبد الغني: «صلاح بوسريف ـ قلق الحافة: حوار في الشعر والمعرفة»
منشورات «ملتقى الثقافات والفنون»، المحمدية» 2016
136 صفحة
حفرة، شفا هوة، شفا جُرْفٍ هَارٍ، ويطل على هاوية بلا قرار يرى الخراب عاما مستحوذا، والانهيار شاملا يغطي الزرع والضرع، والإنسان؟
وعن أي قلق يتحدث فوزي عبد الغني المستدرج، الجاذب، المستخرج، والمستغور مسار ومسير وأعماق الكتابة كما تَنَطَّفَتْ، وتخلقت، واسْتَوَتْ نبتًا أخضر وأصفر، وأدكن، نَبْتاً أسودَ أحيانا، مع بياض ناصع يقول المحو المراد، المحو المبتغى الذي يعقبه محو فمحو، وصولا إلى حيازة الصوت المتفرد، لا المتصادي، ولا المحكي، الموطوء والقطيعي؟
حافة قلقة لا يستقر المحور على ترابها ودائرتها، وعمقها، وقلقٌ عَاتٍ ينذر بالسقوط فيها فيما هو يتماسك بكل ما أُوتي من قوة و شراسة، وغضب حَذَرَ الانطفاء والدثور.
لكن، ما الحافة المعنية هنا؟ الموسومة، والمشار إليها أو المومأ إليها عميقا بسند من المعطيات المعلنة في الكتاب؟ هل نقول، بلسان العارف، إنها حافة المواجع والفواجع، والمصائب، والخيبات، والانكسارات، والآلام التي تَتْرَى، والتي أشرنا إليها خطفا؟ أم هي حافة مدوخة تدير الرأس والقلب، وتصيب بالدوار والصداع متى ما رأينا إليها من فوق، من حَالق وشاهق، أو متى ما وقفنا على حَرْفها وَشَفَتها، نكاد ننجرف مع التربة الرخوة إذ هي جُرْفٌ هَارٍ، وشفير مضطرب مهتز تحت أقدامنا متى ما حاولنا الخطو، والتقدم أماما؟
أليست الحافة في حمولتها وبعدها المتعين بالمادة وبالرمز، هي الشرفة الهائمة العائمة المطلة من خلف ضباب وغبش، على الجهد الإنساني وهو يبني، وينشئ رقعة ضئيلة ـ في كل حال ـ تصلح عشا للحياة القصيرة أو المديدة، ويسعى ساكنه، ساكن العش الذي من قش، وطوب هَار،ٍ وخيط وَاهِن، لقول كلمته، وفي أثنائها، لإثبات ذاته، وأنَاهُ، والصدع برأيه، وموقفه وفكره، وشعره، وابتداعه وخلقه؟ وفي هذا ما يُحيلُ على قلق الشاعر بوسريف، وظمأه إلى المزيد من الماء، وجوعه إلى تفاحة المعرفة التي لا ينهيها نَهَمُ الإنسان في تعدده وتاريخيته، وراهنيته، ومستقبله؟
لقد أحسن عبد الغني صنعا حين استنفر قدرات الشاعر وزوادته وعدته من البوح، والتعاطي الحر الطليق المسئول مع أسئلة المحاور. ولعمري إنه لصنيع ثقافي رفيع، وعمل حضاري، وثقافة تنسلك في سُنَّةِ تكليم مبدعنيا ومثقفينا وفلاسفتنا، لنطل على «خابيتهم» العميقة السميكة سُمْكَ ما تختزنه وتدخره طبقة فوق طبقة. وهي سُنَّةٌ ثقافية حميدة دأب عليها كبار مثقفي العالم إذ فتحوا كوة ضوئية في الجدار المُصْمَت العالي للأدباء والمثقفين هنا وهناك. وباتوا ـ مما باحوا به، وشَهَرُوه، وقالوه ـ أكثر قربا وحميمية ودفئا، وتعليما للمتلقين، وتوطينا محسوسا للرموز، والإشارات البعيدة التي اغترفوها من قاع معرفي وأسطوري، وفكري بعيد. ولسوف نقول أيضا، إن صنيع بوسريف، يندرج في هذا الباب، من حيث فَتْحُهُ كُوَّةً، وتسليطه ضوءا مشعا على مبدعين، ومثقفين مغاربة وعرب، أثروا الحقل الثقافي والإبداعي بما لا يقاس من فكر، وإبداع بديع، وجمال، وفلسفة ثاقبة خلاقة، زعزعت البنى القائمة، وخلخلت الثوابت العقيمة المستبدة. ومِنْ ثَمَّ، فإن التفاتنا إلى الكتاب تعني ـ فيما تعنيه ـ تقريب أساسياته ومحاوره من القارىء، ليصطحب حالات ومقامات البوح والحكي والتحليل والتشريح والنقد والتعقيب، التي يقدمها الكتاب الحواري، منشرحا.
ومدار الكتاب المعرفي ـ الإبداعي هذا، على ثلاثة أجزاء، هي: تعطيل الصيرورة (المثقف العضوي، ومساءلة دور المثقف)؛ الخروج من القصيدة؛ فيما دار الجزء الثالث على ما أسماه عبد الغني بـ»مفترقات الجرح الشعري» مُسْتَلفًا الصورة من الشاعر بوسريف.
عنايتنا ستتجه في تقديم الكتاب إلى الشعر أساسا، ورأي بوسريف فيه من حيث هو ناقد. إذ أن المجال فسيح ينتصب فيه بوسريف واقفا وفي يده كتب نقدية خاضت في المجال، وقدمت فيه اجتهادات ثَرَّة وذات أهمية واختلاف، يحسن بقاريء شعره أن يكون على دراية بها.
نذكر، ونحن ندخل المجال آمنين مطمئنين وقلقين في الآن نفسه ـ لأنه مجال حافة قلقة، مهتزة، ورجراجة ـ كتبه ذات العناوين الواضحة الدالة على القلق إياه، في محاولة منه لاستنبات مصطلح جديد، وغرس تصور إبدالي للمُسْتَهْلَكِ النقدي المتقادم الذي تخلف عن المسايرة والمواكبة، وَتَشَرَّبَ النص الشعري المغربي والعربي، وهو يبدل أنساغه، وسماده، ويبحث عن هواء جديد يتنفسه ملء رئتيه، ومسامه. وإذاً، فالمسألة تتصل بـ»المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر»، و«فخاخ المعنى»، و«مضايق الكتابة»، و«الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر»، و«نداء الشعر»، وصولا إلى أطروحته الأكاديمية الموسومة بـ»حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر».
ومن ثم، تكون إجابات ـ ليس بالمعنى الحصري : سؤال /جواب ـ بل بالمعنى الغني السقراطي الذي يسائل الجواب عينه ما يتمخض عنه سؤال آخر في سلسال توليدي، نجح فيه المُحَاوِرُ والمُحَاوَرُ كلاهما. إجابات تحيل على الكتب المذكورة، تستقطر مناحيها في التفكير، و تستحضر رهاناتها في طرح الجديد والمغاير. وهي ـ بدءا ـ تعود إلى السند الأول والأخير في النقد، النقد المسئول العارف الذي يأكله القلق وهو يبحث عن بناية نقدية أخرى جديدة، تسكنها النصوص الشعرية المفارقة، والتي عليها من غبار الجد والكد والجهد والاختراع، والاختراق. النص بدْءٌ، وغَيْرُهُ تَالٍ. والقصيدة مُسَمَّى لأمٍّ وَلودٍ وهي الشعر. وما دام الأمر كذلك في نظر بوسريف، فالأحرى تسمية الكتابات الشعرية الاختراقية بـ»النصوص»، أو بـ»الكتابة»، هكذا. والكتابة على صيغة إفرادها، تنطوي على المعنى المتعدد والوفير.
وفيما هو يُبَادِهُ القارئ بحزمة اجتهاده التي تشع ضوءا وحفرا، وغنى ناجما عن عديد المرجعيات المقروءة، والخيارات المُنْهِكَة التي أخذت منه وقتا مديدا قبل أن تستقر على أوجه وقامات فكرية وشعرية معينة، كونية وعربية ومحلية، ينبري مناقشا جهابذة المعرفة النقدية الحديثة، وأساطين الشعرية المعاصرة، من أمثال ميشونيك، مُبَرْهِناً على أن الشعر لا يقوم بِدَالٍّ واحد، بل بدوال مخصوصة، مثل الإيقاع والخيال والصورة، و«دال الصفحة أيضا».
والحق أقول إن الدوال التي يذكرها بوسريف، وينافح عن وجوب حضورها في الشعر الذي لا يتعين إلا بها، وَرَدَتْ عند أكثر من ناقد لغوي وبلاغي وأسلوبي، غير أن ورودها اتسم بالتمزيق والتذرر وعدم الاتساق. من ذلك أن نقادا كُثْرا احتفلوا بالصورة الشعرية على حساب اللغة الشعرية والمفارقة، وآخرين اعتنوا العناية كلها بالوزن والقافية بما هما أُسُّ الشعر وقوامه وسنامه. وبعضهم وقف طويلا عند الإيقاع متأثرا بأبحاث اللساني والشاعر ميشونيك، وأحيانا بكتابات ابن عربي الصوفية والغنوصية. من هنا، وجوب جمع الشتات، وإعلاء أهمية الدوال التي تصنع الشعر، والتي تشتغل ضمن النص، عناصر بنائية متواشجة، متعاضدة، ومتلاحمة.
حضور القصيدة كمسمى وتوصيف في الدرس الأدبي والنقدي داخل المدارس والجامعات، والمهرجانات والملتقيات متأتٍّ، في اعتبار بوسريف من حضور وطغيان الشفاهة فيها وعليها. فالوعي الشفاهي غالب على المنحى التعبيري إياه، والاحتفاء به، جاء من البنيان الغنائي الذي تمتطيه، والبعد التطريبي الذي تسعى إلى توفيره وتحقيقه في النص.
وعندما يؤكد بوسريف على «الكتابة» كتسمية واسعة، مستوعبة، وإسفنجية، متشربة لعناصر ومكونات الشعرية، ودوالها، فما ذلك إلا لأنه يمارسها، ويحرص كل الحرص على إبعاد واستبعاد اللحظة الشفاهية أو الظل الشفاهي حتى لا يتسرب إلى شمس النص، فَيُرْدِيهِ غنائيا من حيث أراد الهروب والتملص والتحرر من لِحائِه وقشوره وظلال وَعْيه.
وبهذا المعنى، لا يَني صلاح بوسريف، يدفع نحو الكتابة كصنيع حداثي، وتحديثي، ولا يفتأ يكيل المديح تلو المديح للإنصات، لضرورته في فهم الشعر، والتحول مع تحولاته وهو يبني، ويشيد عمارته ودوامته وأفقه، ساعيا إلى محو خطاه الأولى، وتوقيع خطى جديدة وهي تحرث أرضا بكرا، وتشرئب نحو أفق متعال هارب منفلت. وفيما هو يكتب نصه مسلحا بالحكمة، وبضوء أسلافه ومراياهم التي تعكس ذلك الضوء في الاتجاهات كلها، تَشْرَبُه الحافة، وتمتصه قيعانها، وتُطَوِّحُ به عتمتها، والخفي والمتواري، فإذا به، وقد غاض الغَمْرُ يعود إلى «رشده»، فيرى آثار خطوه وقد فعل ما فعل من محو واندثار، وتسويد تشهد له الصفحة البيضاء التي هندستها زمنية الكتابة، ودبيب الإيقاع الساري في تضاعيف السواد بما هو جماع حروف، ولغة، وصور، والبياض بما هو فضاء وحيز، ومكان، وإقامة.
إن كتاب «قلق الحافة» ارتاد بالشاعر، وبنا، حقول ومجالات المعرفة والسياسة، والثقافة، والنقد، والشعر، والعذاب الذاتي، بشكل ماتع وممتع، نَمَّ عن معرفة وثقافة عميقتين، وتفكير منظم ومنهجي لامَسَ في كثير من طروحاته وآرائه ومفاصله ما يدور ـ راهنا ـ في الساحة السياسية والثقافية من أفكار واحتقانات واحترابات حول قضايا بأعيانها، كمثل الدين والأصولية واللغة والتعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد والنقد والشعر والتجييل، وغيرها.
إنه كتاب سجالي غني، جدير بالقراءة، والمتابعة والمحاورة والجدل، إذ يضع شخص بوسريف الشاعر في مرآة ناصعة مجلوة تماما، لا مقعرة ولا مجوفة ولا محدبة ولا مكعبة.
فوزي عبد الغني: «صلاح بوسريف ـ قلق الحافة: حوار في الشعر والمعرفة»
منشورات «ملتقى الثقافات والفنون»، المحمدية» 2016
136 صفحة