قصة قصيرة : وليمة لأعشاب الحلم د. زهرة عز
إلى شهداء الطحالب ،
إلى من تحولت أجسادهم لوليمة للحوت
كان التاكسي على وشك أن يدخل زنقة 7على مشارف ساحة
السراغنة بدرب السلطان، حين ارتفع آذان الفجر.تراءى لخديجة طيف الحاج بوشتى، جارها
، بجلبابه الأبيض، وهو يتجه للمسجد. "لا تتوقف، لا أريد أن يراني جيراني وهم ذاهبون
للصلاة" قالت خديجة بلسان أثقله الشرب. لقد احتست هذه الليلة كل أنواع الكحول
التي قدمها لها زبائن الملهى،وتأخرت عن الرجوع قبل آذان الفجر. "حسنا" أجاب
الشاب حميد، "لنذهب لشارع محمد الخامس، هناك مقهى تقدم حريرة لذيذة"خرجت
الكلمات مبعثرة من فم خديجة. كان الشارع يعج بالنساء والرجال بعد أن لفظتهم الحانات
والملاهي، كانوا في حالة يرثى لها، منهم من وقف جانباً يستفرغ ما بجوفه، وقد امتلأت
ثيابه برذاذ قيء كريه... ومنهم من كان يمشي خطوة ويتراجع خطوتين في خط ملتو لا يلوي
على شيء، ولا يعرف طريقه إلى أين.. أما الفتيات، فكانت سحنتهن قد تغيرت، اختلطت ألوان
مساحيق المكياج، الكحل يغطي جفوناً منتفخة لعيون حمراء... فهل هناك أقبح من وجه امرأة خانتها مرآتها فلم تصحح عيوبها؟
في ليلة السبت هاته، لم يكن هناك سكون ولا سكينة
للسكان القريبين من المكان.. أكيد أنهم الآن يتقلبون في أسرتهم لاعنين الوقت وهم يسمعون
كلمات نابية وأصوات السكارى تجلجل صمت الشارع بالليل وفد أقلقت راحتهم، "ألا توجد
شرطة تضع حداً لهذه الفوضى العارمة؟" قال حميد لخديجة وهو يرى تعاركاً بالأيدي
بين سكيرين على فتاة ليل، كل واحد يزعم أنها من نصيبه وقد غمزت له بذلك بالبار.
أشعلت خديجة سيجارتها وأخذت نفساً طويلا حتى عجزت
عن التنفس، ثم دفعت بالدخان خارج رئتيها وكأنها تنفث كل الهموم خارجها. "أنت تدخنين
كثيراً يا خديجة، عليك التخفيف أو إن استطعت التوقف، هناك الآلاف يموتون سنوياً بسرطان
الرئة" واسترسل حميد في شرحه لأضرار التدخين وأنواع القطران القاتلة المتخفية
داخله.. كان سعيداً وهو يستعرض ثقافته، تذكره بإجازته في الكيمياء،" الله يعفو
"أجابت خديجة، لم أكن أدخن قبل مجيئي للدار البيضاء، منذ سنتين كنت لا أتحمل رائحته.."ِلمَ
لَمْ تشتغل بشهادتك؟" سألته خديجة وقد بدأ مفعول الشرب يتبخر واستعادت بعضاً من
كلماتها الثابتة. " بقيت عاطلاً عن العمل أكثر من ثلاث سنوات، أقضي يومي وليلي
بين النوم والتسكع بالمقاهي، متأبطاً صحيفة اليوم. رأسمالي عشر أو عشرون درهماً، تحاول
أمي المسكينة تأمينها لي من مصروف البيت، ثم استفقت ذات يوم من حلم التحاقي بسلك التعليم
بعد أن أقفلت مراكز التكوين في وجه جيلنا، حاولت أن أستفيد برخصة كشك لبيع الصحف والجرائد،
لم أوفق رغم الوعود الكاذبة لمنتخب الحي الذي كنت مسؤولا عن حملته الانتخابية بمنطقتنا.
لم يف بوعده ، وعرض علي الشغل مع شركة للنظافة. لكنني لم أقبل، لأني متيقن أنني لن
أستطيع أن أتحمل نظرة ازدراء أصدقائي وأهل الحي. فعلى عكس البلدان المحترمة والمتقدمة
التي تسمي عامل النظافة بمهندس النظافة، ويحصل على أعلى الأجور. فنحن قوم لا نحترمه
وننظر إليه نظرة دونية وهو سبب نظافة أزقتنا.." تخيلي معي لو أن عمال النظافة
أضربوا عن العمل لشهر بل لنقل لأسبوع، كيف ستكون الأزقة والشوارع ؟؟بالتأكيد ستصبح
المدينة مدينة أزبال وقاذورات، حتى الهواء لن نستطيع أن نتنفسه، سنصبح جميعا من أبناء
القمر.." "أبناء القمر؟ لم أفهم ما علاقة القمر بالموضوع... هههه أظنك سكرت
بالرائحة، خوي حميد" سألته خديجة مازحة.. تنحنح حميد وهو يستعرض معلوماته. سعيدا
بتفوقه.."إنهم ضحايا مرض جيني نادر يصيب الجهاز التنفسي،أفتك من السرطان، فتعرض
هؤلاء المرضى للشمس والأشعة البنفسجية يعرضهم لتآكل الجلد .. معاناة حقيقية يومية على
مدار الساعة.
في البلدان المتقدمة
يزودونهم بلباس يشبه رواد القمر لوضعه عند الخروج وآلة لحساب الأشعة عند دخول أي مكان
لمعرفة ما إذا كان يشكل خطراً عليهم،أما عندنا للأسف، فيتآكلون في صمت ويعانون إلى
أن يقضي عليهم المرض.. ألم تصادفي مرة متسولة مع ابنتيها بالمعاريف تتاجر بمأساتهما
وتجمع المال من عرضهما للفرجة وهم يذوبون تحت الشمس؟؟ "لا حول ولا قوة بالله العلي
العظيم،" قالت خديجة متحسرة، وهي تفكر في طفلها عماد ، ابن أربع سنوات وتطلب له
الصحة ولكل الناس..
".
أختي، حاربت حتى
حصلت على رخصة تاكسي، إن شاء الله أوفق حتى تكون لي سيارتي الخاصة وأشتري كَريمة باسمي.."
أضاف حميد " الله يوفقك، أنت طيب وتستاهل كل خير .." .تذكرت خديجة أول مرة
استقلت تاكسي حميد، عاملها باحترام ولم يصدر أحكاما مسبقة على عملها أو ينتقص من قدرها،
بالعكس عندما عرف بمهنتها كشيخة تغني في الملاهي، أخبرها أنه من عشاق فن العيطة، والثرات
الفني الجميل للشيخات... تفاجأت عندما أخبرها أن هناك دراسات ودكتورات ناقشت هذا الفن
الأصيل، وحدثها عن دور الشيخات إبان الاستعمار ومشاركتهن في المقاومة بنشر أغاني وطنية
وبنقل الأسلحة أيضا، حدثها عن الشيخة خربوشة وعن الشيخة رابحة والقايد عقا بمنطقة آسفي
إبان الاستعمار،وهي التي برعت في عيوط من قبيل "قياد مديونة لي زادوا مابي".
حدثها عن الشيخة حويدة وممثل المخزن عيسى بن عمر في أيام العز .
كانت كلمة الشيخة مسموعة ولها تأثير على العامة
من الناس،وعلى خواصها ، كانت أول من اخترق جدار الصمت واستغل فن البوح في نقل هموم
الناس وانتقاد المخزن."محال لحرام ما يروح سالم،وعمر لعلقة ما تزيد بلا علام،
واحلفنا بالجمعة مع الثلاث، فيك المخزن لبقات" ... تذكرت خديجة كيف أبهرت بتاريخ
الشيخات المشرف،ولأول مرة أحست أنها ليست منبوذة ومجرد منتوج مثير لتهييج الغرائز المكبوتة
عند ضعاف النفوس، والسكارى الذين ينصب اهتمامهم على لعبها بمؤخرتها ولا يعيرون بالاً
لكلماتها.. لم تفترق عنه بعد ذلك أو تركب مع سائق غيره،يأتي لاصطحابها لعملها وينتظرها
عند انتهائها. أخ لم تلده أمها، برفقته تحس بالأمان وبالاحترام
فتحت خديجة باب بيتها الصغير ، بهدوء،ودخلت تمشي
على أصابع قدميها،حتى لا تثير أي ضجة في البهو، كانت أمها تغط في نوم عميق، ورأس ابن
خديجة عماد يتوسد كتفها. والغطاء قد سقط على الأرض. أعادت خديجة تغطية حبيبها... سقطت
دمعة من عينها وهي ترى نفسها محرومة كل ليلة من النوم في حضن ابنها الغالي. أحكمت إقفال
ستائر غرفتها وألقت على سريرها البارد جسداً منهكاً ومتعباً من الشرب والرقص والهم.
لم تستطع النوم بتلقائية وعفوية طبيعية، وككل ليلة، عادت بذاكرتها إلى أيام الزمن الجميل،
وحياتها السعيدة مع حبيبها وزوجها إدريس. غسلت دموعها بقع الشرب والإهانات لهذه الليلة
حتى ابتلت وسادتها، ترحمت على إدريس وهي تناجيه بأسى وحزن، "لم تركتني وحيدة عرضة
لكلاب تنهش لحمي، وزمن لا يرحم؟. ابتسمت وهي تسترجع أول لقاء بينهما على شاطئ الواليدية.
كانا مثل العشرات من الغواصين والغواصات، يستعدان لمغامرة جديدة، وهما ينتظران عملية
المد والجزر حتى يكون غوصهما آمنا. لم تنتبه إليه وهو يرمقها بتفحص، كانت ترتدي بذلة
الغطس السوداء،العازلة، وهي تعانق جسدها الندي، وأنوثثها تكاد تنفجر لمعانقة مياه البحر
المالحة. اقترب منها ولم يقل شيئاً، عيونه قالت كل شيء وباحت بمكنون أفكاره. وعندما
صعدت للسطح وهي تحمل طحالب جمعتها تحت المياه، كان بجانبها، لم تمانع حين مد يده لمساعدتها،
كان وسيما، زاده اسمرار بشرته بفعل البحر والشمس جمالا، حتى خصالات شعره الذهبية كان
لها لمعان آخر ، رأت فيه فارسها الشهم، وكانت حوريته البحرية.
عندما طلبها للزواج، كانت فرحتها لا توصف،"لن
تنزلي البحر ثانية، سأتكفل باحتياجات أمك. ستعيش معنا، أنا يتيم وهي الآن أمي أيضا.
" كان يجمع الطحالب والظفر من أعماق البحر ، ويبيعها في المرسى . لم يكن للجهد
الذي يبذله ثمن يعادله، لذا كان يبيع أيضا الأسماك الطازجة و المشوية. كانت خديجة راضية
بما قسمه الله لها، لقمة عيش نظيفة وزوج محب. ثم كان اليوم الذي تأخر فيه في العودة،
وكانت ما تزال في فترة نفاس،وقد وضعت لتوها ثمرة حبها طفلاً وسيماً ، صورة من أبيه
إدريس.
كانت ترضع عماد عندما دق الباب بقوة قفز له قلبها.
من الصباح وقلبها مقبوض. فتحت أمها الباب لتجد بوشعيب صديق إدريس يلهث من الجري وقد
انقطع نفسه،" إنه إدريس، لقد تعرض لحالة إغماء وفقدان للوعي في المياه الضحلة،
وقد نقلته سيارة الإسعاف للمستشفى" . قفزت المسكينة من مكانها حتى كاد رأس ابنها
أن يرتطم بالأرض. تلقفته أمها، وطارت هي بدون منديل ولا جلابة. حافية تجري، وبوشعيب
يتبعها حاملاً شبشبها وما تستر به نفسها "البقاء لله " قال الطبيب،
"قلة الأكسيجين في المخ أدت إلى الوفاة، هذه حالة تقع كثيراً ، حتى في حمامات
السباحة."
كانت الصدمة كوقع الصاعقة على خديجة، لم تكن تظن
أن القدر سيسرق سعادتها ويحرمها حضن حبيبها. ظلت طيلة شهور مغيبة، حتى وهي تقف في شواية
السردين لم تبتسم أبدا لزبائنها. كانت تسعى لتوفير لقمة العيش لأسرتها الصغيرة على
مضض. عشقها كان الغوص في عالم عجيب وجميل تحت
الماء وغناء العيوط. لم تستطع أن تعود للغوص، فقد غدرها البحر،واكتفت،وهي تحمل ابنها
تبثه حزنها ولوعتها على أبيه، وتبوح له بأجمل الكلمات والألحان. لم تستطع أن تتغيب
عن عرس بنت جارتها فاطنة، بعد أن اعتزلت الحفلات والزيارات لأزيد من سنتين،حيث تعرفت
على الشيخة حادة البيضاوية، أعجبت بصوتها حين شاركتها الغناء، واقترحت عليها أن تنتقل
للدار البيضاء، سيكون لها مستقبل أفضل مع صوتها القوي، الشجي. لم تفكر كثيراً. كانت
تمشي لقدرها بعد أن زكمت أنفاسها رائحة السردين المشوي والبحر الغادر. ستهرب من آلمها
لربما تجد الراحة وتربي ابنها بعيداً عن مكان جرحها. لن تستطيع أن تزور قبر إدريس كل
جمعة كما كانت تفعل، وتسقيه ماء وترعى زهراته، لكنها ستزوره كلما سنحت الفرصة وقد وعدها
حارس المقبرة المعجب بإخلاصها برعاية القبر في غيابها.
استقبلتها الدار البيضاء بالأحضان، فتحت لها ذراعيها،
لكنها لم تسمح لها بمعانقتها إلا ليلا. عالم الليل عالم جديد أعمتها أضواؤه، واكتشفت
أسواق نخاسة متعددة الأشكال، وهي التي كانت تظن أن عصر العبيد قد ولى.. .وتساءلت بمرارة
لم أزقة العشق ضيقة على سكان الدار البيضاء؟؟
كانت تحلم بإعادة مجد فن العيطة وإعادة الاعتبار
لفن الشيخات العريق، لكن عشاقها لم يكونوا أكثر من سكارى، غايتهم من فنها، تهييج مكبوتاتهم
وتحرير كلماتهم البذيئة وسط دخان كثيف من البذاءة والقبح.. "ها العسل... زيد شوية
فالمتور" كانوا يصرخون بجنون حين تهز خصرها وتلاعب صدرها وترسم بعجيزتها دوائر
متداخلة وكأنها أقراص تشكل مركز ثقل لعيونهم التي يأكلها الغبن...
لم يكن لها بد من احتساء كاسات الروج،الويسكي،فودكا،الكونياك...
أقبلت عليها بشراهة، تبغي المزيد والمزيد عسى أن تفقد ذاكرتها وتنسيها اسمها ومسمياتها.
حتى صدرها تمرد عليها عندما صعدت للمنصة أول مرة مرتبكة، كسر نهداها سجنهما وحلا عقد
التكشيطا المزركشة وأطلا بهامتهما يلقيان تحية لطالما انتظراها..
أخرجت خديجة من دولابها تكشيطاتها الثلاث.. نفضت
عنها غبار النسيان،وقع اختيارها على التكشيطة الوردية،لون انشرح له حلمها في إحياء
مجد فن العيطة. أحست بضيق، هل هو الخوف من الغوص في مجهول لا تعرف عاقبته. قد تكون
مياهه ضحلة، وقد تفقد الوعي، وتفقد روحها معه ؟ أم هو صدرها قد ازداد حجماً بعد الحمل
والرضاعة، فضاق به المكان؟؟ نظرت في المرآة، فطالعتها صورة امرأة تكاد تبتسم. قد ممتلىء،
مدور. حروفه متناسقة،تفيض أنوثة، وعلى خديها تفتحت ورود وردية. ثغر استوى تفاحاً أطلسياً
ينضح حمرة من شدة الخجل وهو الذي ينتظر وليمة قد تأتي أو لا تأتي بعدما نسي طعم القبل.
ترى هل من مفاجآت في أول وصلة لها بالملهى الليلي،
وهل سيحبون بحتها وآهاتها؟. كانت ركبتاها ترتجفان وهي تجلس في ركن تنتظر ولوج المباراة
وإشارة من الشيخة حادة البيضاوية، سبب تحول حياتها. اقترب منها الرايس حمو، رجل خمسيني،
تكاد رأسه تخلو من الشيب ...كان أحسن من يضرب البندير وعلى إيقاعاته بين جبال الأطلس تمايلت أجمل الفنانات
الزيانيات بغنج وجمال. ضاق به المكان رغم فساحته، بعد أن انقسمت الفرقة ولم يستطع المحافظة
على تماسكها واستمراريتها في ظل تهميش الفن التراثي الجميل، فنزح إلى الدار البيضاء
يرتجي حلماً وخبزاً بعدما ترك من حيث أتى أفواهاً
مفتوحة تنتظر...
"خديجة، أراك مرتبكة، طبيعي أول مرة تواجهين أناساً لا تعرفينهم، عندي
علاج لارتباكك ، مفعوله سحري وفوري" قال لها حمو، وهو يقرأ في عينيها نظرات توجس
وحيطة."لقد أخذت حبة أسبرين، لكن أحس حرارتي مرتفعة." أجابت خديجة وهي تشكر
اهتمامه.ضحك حمو، حتى أبان عن أسنان صفراء وأضراس تآكلها السبسي والجوانات والسجائر.ضحك
ملء فمه المهترىء من الضياع والبؤس،" أنت ساذجة ، خديجة، احذري ، أنت نعجة طرية
قد تتكالب عليك الذئاب، أنا أكلمك عن بلسم روحي، إكسير الحياة، عشبة الحشيش التي حشت
منها الأحلام" . انتفضت خديجة عند سماعها لكلمة عشبة، تذكرت في الحال الطحالب
البحرية، تذكرها بالموت بل هي الموت نفسه ،لم تنس أبداً أنها كانت سبب فقدانها لحبها
واستقرار أسرتها. لا تكلمني عن الأعشاب، إنني أمقتها، حتى الحنة أضعها مضطرة لتغطية
بعض خصلات الشيب. أصبحت كلما رأيت عشبة أتذكر موت زوجي.. لا تكلمني عن الموت...
"أنا أكلمك عن الحياة وهمسة الحياة، "غادي نصوب ليك جوان، تنساي فيه
اسميتك وتنساي الموت وتعانقي الحياة،ههههه وتعانقيني حتى أنا"أضاف مازحاً محاولاً
إقناعها...لم يكن يعرف الرايس حمو ما يكابده
مزارعو هذه العشبة الممنوعة، والتي هي أساساً عشبة طبية، آه لو يعلم ما تكابده نساء
كتامة، وما تعانيه المنطقة من تهميش وبؤس،حيث مشقة الوصول عبر أشباه طرق عارية كما
الموت عنوان قرى معلقة بين الجبال . قرى تكاد تخلو من الرجال، يلعبون لعبة المش والفار،
عملية كر وفر هرباً من السلطة والمتابعات القضائية.. لا يعرف الرايس حمو مثله مثال
الكثيرن من المدمنين على هذه العشبة مرارة عيش الكتاميين، الطرقات ضيقة مبعثرة بين
منازل مهترئة، سحنات كئيبة بائسة. أطفال نصف عراة، يتراشقون الحجارة،ويصنعون من الخيش
والأسمال كرة القدم يتقاذفونها مثلما يقذفهم القدر بين التراب والحجر ، لا يملكون غيرها.
أمهات وفتيات يشتغلن بحقول زراعة القنب أكثر
من أربع عشرة ساعة في اليوم، عمل مضن تحت أشعة
الشمس الحارقة، انحنت له أجمل القدود وذبلت حتى ذبل الحظ نفسه. يشتغلن كالدواب ثم يعرضنه
في سوق مقابل ملاليم لا تكاد تسد رمق جوعهن. محرومات معظمهن من رجالهن المتوارين في
الجبال، والجميع محروم من الحق في الحياة. فتل حمو "جوان" بتأن محترف ألفت
أصابعه التدوير، وهو يناوله بتودد مزعوم لخديجة. تذكرت جارهم أحمد بالوليدية، الشيطان الذي انتهى به الإدمان
حارساً لبيته الأسري وقد تحول وكراً للرذيلة والقوادة بعدما استباح لحم وشرف بناته
.لم تدخن خديجة لكن إصرار حمو وباقي أعضاء الفرقة كان أقوى من رفضها، فكانت سيجارتها
الأولى، وكأسها الأولى .. وهي تسبح في دخان السجائر ولفافات الجوانات والسبسي وكؤوس الروج، تراءت لها وليمة الأعشاب، أصنافها
طحالب وقنب، حياة وموت، موت وحياة.. والضيوف بؤساء،منهم من حضر دون دعوة،يحلمون بحياة
باتت مستحيلة ...التفت دوائر الدخان المخصب بالحشيش والتبغ والأنفاس وروائح العرق على
عنق خديجة حتى بدا لها كل الحضور يبتسم لها إعجاباً وزلفى. كانت حينها قد عرجت إلى
السماء السابعة،وغابت في ملكوت الحلم حتى نداها حمو قائلاً " حادة تناديك" ...بخطى واثقة لا تعرف
الخوف ابتدأت خديجة وصلتها بصوت مجروح وآهات اختزلت فيها كل معاناة الناس المنسيين
في مغرب عميق منسي
.
كانت لمدة عامين ، بعد موت زوجها، حبيسة ذكرياتها
وماضيها، تعيش بثلاث كزولة مناخاً سيبيرياً، صقيعاً وثلجاً، حتى تجمدت عواطفها،وأهملت
أنوثثها وأصبحت نادراً ما تنظر في المرآة. وهاهي الآن محط أنظار الرجال، يلتهمونها
بعيونهم ويحلمون بمضاجعتها.كانت في بداية التحاقها بالمجموعة،تغمض عينيها حتى لا تلتقي
عيونهم الوقحة وهي تعريها، لكنها مع الوقت لم تعد تربكها ولم يعد شيء يهمها. تعلمت
من تجربتها في الغوص تحت مياه البحر أن تغوص في أعماقها، وتكتم نفسها أطول وقت ممكن،
ثم بحثت عن هدف لحياتها، خلاصها من واقعها المرير. ..ووجدت أن الحياة بدونه لا معنى
لها. عثرت على هدف، يسمو بها فوق تفاهات حياتها. ويعيد لها آدميتها واحترامها، كانت
تغوص في أعماقها باحثة عن لآلئ تغني روحها عوض أصداف كانت تعود بها مع إشراقة كل شمس
مظلمة. هدفها، لؤلؤتها المفقودة، حبيبها وقرة عينها فؤاد، ستعيش له وبه، وستحرص على
منحه حياة أفضل، ستكون شمعة تحترق لتنير له طريقا كنستها بجسدها وروحها. وهي تناجي
نفسها وتعيد ترتيب الحكاية من ألف حبيبها وزوجها إدريس، فكرت لبرهة في الرجل المبتسم
لها دوما، الاستثناء، الخجول الحالم الذي ينط العشق من عينيه كأرنب شتوي....وقبل أن
تغلق باب التاكسي أحست بجسدها المدور ينتفض مثلما لم يفعل من قبل ...خطت الخطوات التي
تفصلها عن باب بيتها وكأنها ترتدي فستانها الوردي وترقص له على إيقاعات عيطة زعرية
وسط أشكال هندسية أبدعتها شموع متعددة الألوان .