عن ميدل إيست أونلاين
أكد الناقد المغربي د. المالك أشهبون في دراسته
"الحيرة الكبرى للراهب المسيحي.. قراءة ثقافية في رواية عزازيل ليوسف زيدان"
أن أعمال الروائي المصري يوسف
زيدان تمكن من قراءتها أو تحليلها من مستويات متعددة، وواحد من أهم هذه المستويات هو التأمل العميق والدقيق في تاريخ الأديان المقارن "ظهورها، أقانيمها، صراعاتها" وذلك بنكهة سردية مشوقة.
زيدان تمكن من قراءتها أو تحليلها من مستويات متعددة، وواحد من أهم هذه المستويات هو التأمل العميق والدقيق في تاريخ الأديان المقارن "ظهورها، أقانيمها، صراعاتها" وذلك بنكهة سردية مشوقة.
وأضاف: لتقريب الفكرة المركزية في روايات زيدان
نقول: إنه ـ ربما ـ لأول مرة، وفي عمل غير مسبوق، يقدم روائي عربي مسلم على اختراق
أسرار المعبد، وسبر أغوار تطور الصراع المذهبي بين الطوائف المسيحية في المشرق، مع
رصد ظواهر التطرف الديني، في نسيج روائي مشوق وأخاذٍ، ويتعلق الأمر بروايته الشهيرة:
"عزازيل".
وأشار إلى أن رواية "عزازيل" هي في الأصل
ترجمة أمينة لمجموعة اللفائف (الرقوق) التي كتبها راهب مصري الأصل، اسمه: "هيبا"،
دوَّن فيها سيرته الطريفة والمشوقة، وأرَّخ لمظاهر حيرته وقلقه من ظهور الدين الجديد،
كما سجل فيها كل ما جرى له مع تقلبات زمانه المضطرب: دينيا وسياسيا وعاطفيا.
تضم هذه الرقوق ـ بداية ـ سيرة حياة الراهب
"هيباتا" منذ خروجه من بلاده الأولى بأطراف بلدة أسوان جنوب مصر، مروراً
بما وقع في تلك السنة المشؤومة التي حرم فيها وعُزِل الأسقف نسطور، ووصولاً إلى ما
جرى بينه وبين "مرتا" الجميلة من غوايات ومكابدات وعذابات، وقصته، كذلك،
مع المرأة الفاتنة "أوكتافو"، وأخيرا علاقته بالفيلسوفة والحكيمة "هيباتيا".
كل تلك الوقائع والأحداث، تدور في ظل نفسية تتنازعها الغوايات الشريرة لعزازيل: الشيطان
اللعين.
ولفت إلى أنه من خلال القراءة المتفحصة لطبيعة الصراع
في الرواية، نجده قائما ـ بشكل جلي ـ بين شخصيات روائية تنتمي للدين القديم "عبدة
الأوثان وأتباع الديانة اليهودية" وبين أتباع الدين الجديد "المسيحية"
تارة، أو بين شخصيات روائية لها المعتقد الديني نفسه "المسيحية"، ولكن الاختلاف
في تأويل هذا الدين الجديد، يغدو مبعث صراع حاد بين وجهات النظر حول من يمتلك الحق
في التأويل الصحيح للدين الجديد، وهنا مربط الفرس.
وأوضح أشهبون أنه يمكن توزيع محاور هذا الصراع في
الرواية من خلال العنصرين التاليين: أولا الصراع الوجودي بين أتباع المذاهب الدينية:
تولدت عن العنصرية الدينية الظاهرة ـ بجلاء ـ في أحداث الرواية، نزعة استعلائية اتصف
بها المتشددون المسيحيون تجاه كل من عبدة الأوثان واليهود من جهة، وتجاه النسطوريين
المسيحيين من جهة أخرى، ذلك أن أبرز أسباب الصراع بين الشخصيات في عالم الرواية سببه
الأساس ونواته الصلبة: الانتماء العقدي المغلق، الذي له أكثر من مظهر، بدءا بالعنف
اللفظي ضد الآخر المختلف، مرورا بإقصائه وعزله، وصولا ـ في النهاية ـ إلى ممارسة العنف
الجسدي: الفردي منه أو الجماعي ضده.
فقد بدا الصراع في مستهل الرواية، ما بين أتباع
الدين الجديد (المسيحية) وعبدة الأوثان على أشده. فكان من مخلفات هذا الصراع الوجودي،
ما تعرض له أب "هيبا" الراهب من قتل بشع وشنيع، على مرأى ومسمع من ابنه،
بينما وقف هذا الأخير عاجزا عن دفع الموت عن أبيه.
فقد كان أب "هيبا" صياداً ومن أتباع عبدة
الأوثان، كما كان يقدم شيئاً من السمك لسدنة معبد فرعوني مرة كل يومين، لكن زوجته الشريرة
وشتْ به، فكمنَ له المتنطعون المسيحيون، فأردوه قتيلاً، وقطَّعوا جسده إرباً، ورموه
فوق أسماكه على باب المعبد، وتكتمل حلقات النهاية التراجيدية هذه، بأن تتزوج الأم أحد
قتلة الأب، في مشهد درامي مؤثر ومحزن.
كما كان الراهب "هيبا" شاهد عيانٍ على
مقتل الحكيمة والفيلسوفة "هيباتيا" من طرف الغوغاء والمتشددين من أتباع الدين
الجديد. فمن اللحظات التي لا زالت تؤرق "هيبا" وتقض مضجعه، حينما كانت الفيلسوفة
تستنجد به، وهي في قبضة المتشددين، بينما أنكر معرفته بها أمام جموع الراديكاليين المسيحيين،
خوفا من بطشهم، ومن افتضاح أمر إعجابه بعلمها ومعرفتها، وهي الوثنية التي لا تستحق
إلا القتل، وذلك بتحريض من البابا "كيرلس"، بدعوى أنها كافرة ومُهَرطِقة
ومُبْتدعة.
فإذا كانت القاعدة تقول: إنه لم يسبق لفيلسوف أن
قتل رجل دين؛ فإن العكس صحيح في هذه الرواية. فكم من رجل دين متشدد قتل فيلسوفاً أو
عالماً أو حكيماً. وخير مثال على ذلك ما حصل للفيلسوفة "هيباتيا".
وذات الموقف السلبي الجبان، يجد "هيبا"
نفسه في خضمه، وهو يشاهد مصرع حبيبته "أوكتافيا" (الوثنية) التي عاش معها
تجربة عشق لم يسعد بها من قبل. وها هو يشهد مصرعها المأساوي أمام عينيه، وهي تحاول
إنقاذ الفيلسوفة "هيباتيا" من قبضة المتنطعين، بينما اكتفى هو بتغيير المنكر
في نفسه، كما فعل مع أبيه من قبل ومع "هيباتيا" كذلك
هكذا ظل "هيبا" الراهب يراقب ـ عن كثب
ـ أسباب تفشي الفتنة الدينية التي تستشري في الجسد المسيحي كاستشراء النار في الهشيم،
دون أن يتدخل خصوصاً في اللحظات الحرجة التي يجد نفسها أمامها، مكتفياً بتغيير المنكر
بقلبه، ودون أن يلقي بنفسه أمام التيار الجارف لمعارضي وجهة نظره التي كان يتقاسمها
مع من كانت لهم وجهة نظر مختلفة إزاء تأويل الدين الجديد: تأويلاً أرثودوكسيا ومتزمتا.
وعلى هذا الأساس، كان مآل أبرز شخصيات الرواية
(أب "هيبا"، "هيباتيا"، "أوكتافيا") هو النهاية المأساوية
بكل المقاييس، حيث الموت يطارد كل من له موقف يقيني ثابت بصحة عقيدته غير المسيحية،
فيما انبرى المتشددون المسيحيون في الدفاع عن امتيازاتهم المادية والاعتبارية باسم
الدين من جهة، وعن الرهبان والقساوسة الفاسدين، بمباركة من الحكام، في إطار زواج باطل
بين السلطتين: الدينية والدنيوية من جهة أخرى.
أما اليهودية فلم يسلم أتباعها من شر متطرفي كلا
الديانتين (الوثنية والمسيحية)، فقد كان اليهود موضع كراهية في المدينة (الإسكندرية)
من الفريقين معاً: «يكرههم الوثنيون لجشعهم، ويمقتهم المسيحيون لوشايتهم بالمخلِّص
وتسليمه للرومان ليصلبوه.. ليصلبوه..أتراه صُلب حقاً؟".
وهنا نستحضر الموقف العدائي للبابا المتشدد
"كيرلس" تجاه اليهود، وهذا ما يُستشف بجلاء من مضمون دعائه أثناء الصلاة:
«يا أبناء الله، يا أحباء يسوع الحي، إن مدينتكم هذه، هي مدينةُ الرَّبِّ العظمى. فيها
استقر مُرقس الرسول، وعلى أرضها عاش الآباء، وسالت دماءُ الشهداء، وقامت دعائم الديانة.
ولقد طهَّرناها من اليهود، المطرودين. أعاننا الرَّبُّ على طردهم، وتطهير مدينته منهم".
هكذا تبدو الهوة شاسعة بين القول والفعل، وهو ما
تجسده العديد من المواقف التي يقول فيها الراهب عكس ما يفعل؛ فالكنيسة هي مكان الرب
المتسامح، بينما يطرد منها اليهود والوثنيين، بل يتم إجبارهم على بناء خيام خارج الإسكندرية،
لتغدو عبارة عن غيتوهات يتم فيها التمييز العنصري بلا هوادة، على أساس عقدي واضح، ولا
غبار عليه.
ثانيا: الصراع بين أتباع الدين الواحد: الأصل في
هذا الصراع هو الاعتقاد الجازم، والإيمان المطلق بالتأويل الصحيح والنهائي والصائب
لمبادئ الدين الواحد (الدوكسا). يصل هذا الاعتقاد، الضيق الأفق، أحياناً إلى مستوى
فرض هذا الرأي/التأويل على باقي المنتمين للمذهب الديني نفسه، بالحوار في البداية،
وبالتكفير والإقصاء، ويكون القتل هو خاتمة المطاف، والنهاية المأساوية لأتباع الرأي
المخالف من الدين نفسه.
ورأى أشهبون أنه يمكن تتبع مسارات هذا الصراع، من
خلال وجهتي نظر متناقضتين ومتباينتين للدين الواحد (المسيحية نموذجاً)، وذلك على خلفية
الصراع المحتد حول طبيعة المسيح، وهو صراع يتراوح ما بين التأويل "الكيرلوسي"
(نسبة إلى البابا "كيرلس")، والتأويل "النسطوري" (نسبة إلى الراهب
"نسطور") كما هو بارز في الرواية. أولهما: وجهة نظر متعصبة ومتشددة: يمثل
وجهة النظر المتشددة في هذه الرواية: البابا "كيلرس" الذي يرى أن الله تجسَّد
بكامله في المسيح، من يوم صار ببطن أمه. وعليه، فإنه لا انفصال في المسيح بين الألوهية
والإنسانية، فهو إله ورب كامل تامٌّ، لا ناسوت له مستقلا عن اللاهوت، وهنا يوجز البابا
"كيرلس" هذا التصور في رسالته الأخيرة وهي على النحو الآتي: «جسد المسيح
لم يتحول إلى طبيعة إلهية، ولم يتحول الله إلى طبيعة الجسد، حتى حين كان المسيح طفلا
مقمطاً".
ثانيهما: وجهة نظر متسامحة وعقلانية: أما وجهة النظر
المتسامحة، فيمثلها الراهب "نسطور" ومن معه. ويمكن تركيز وجهة نظره في أن
الله اتخذ من يسوع مجلىً له، «ومن أجل الله غير المنظور، نَسْجُدُ نحن للمسيح المنظور،
مدركين أنه شخصان هما: المسيح الآخذ الذي هو كلمة الله، والمسيح الإنسان المأخوذ الذي
يعدى باسم الذي اتخذه".
المذهب النسطوري، يقدم نفسه في هذه الرواية، باعتباره
وجهة نظر مسيحية منفتحة، نبني على قاعدة ذهبية، أساسها مبدأ التوافق بين الاعتقاد الديني
والتفسير العقلي للأمور الدينية. غير أن الصّراع الدّائر بين العقل والمنطق، وبين التَّشدُّد
الديني اتَّسَعتْ رقعته الجغرافية، واتّخذ طابعاً عنيفاً باسم الدين في كثير من الأحيان.
ك
ما يلاحظ أن السلطة المدنية ممثلة في الإمبراطور،
عادة ما تميل مع الكفة الراجحة دون اعتبار لنجاعة الرأي، وسداد وجهة النظر في أمور
الدين وإشكالاته. وهكذا كانَ شأنُ الإمبراطور" قسطنطين". فرغم جهله باللاهوتيات،
وعدم اهتمامه بالخلاف اللاهوتي بين القسّ "آريوس" و"إسكندر" أسقف
الإسكندرية في زمانه، انتصر للأسقف "إسكندر" ليضمن قمحَ مصر ومحصول العنب
السنويّ، وكفَّر الرّاهب "آريوس"، وحرّم تعاليمه.
ثالثا: نهاية الصراع بين التصورين "المتشدد
والمتسامح": منْ من التصورين سينتصر في نهاية مطاف أحداث هذه الرّواية؟ هذا سؤال
جوهري لا يمكن تلافيه، ونحن نقف على أعتاب نهاية صراع محتد بين طرفي الصراع في الرواية،
حيث انتقل إلى صراع وجود لا صراع أفكار أو آراء. مع أخذنا بعين الاعتبار أنه في استخدام
العنف لا أحد ينتصر سوى مَنْ يؤمن بالعنف، بينما يكون أنصار الإقناع بالحجة والبرهان
والحوار، قد أصبحوا أضحية على مذبح الحرية.
هكذا يصل الصراع مداه الأقصى، حينما سيطالب
"كيرلس" ـ من موقع قوة طبعاً، وفرضا للأمر الواقع ـ عقد اجتماع في مدينة
إفسوس لرؤساء الكنائس في العالم، للنظر في عقيدة الأسقف "نسطور"، وذلك بمباركة
من الأمبراطور وبموافقته. ويبدو أن أتباع "كيرلس" قاموا بحملة تعبئة واسعة
تحضيرا لهذا الاجتماع المصيري، فكان حضورهم قويا ووازنا في الصراع بين وجهتي نظر المتصارعتين.
وكان الجميع يتوقع أن يكون هذا الاجتماع عاصفا وحاسما
ومصيرياً. وبالفعل، فقد تمخض الاجتماع الاستثنائي هذا عن قرارات حادة وانتقامية، منها
إقصاء وجهة نظر "نسطور" المتسامحة والمتسمة بالعقلانية والواقعية، بعد أن
تخلى عنه الأساقفة، عدا أسقف أنطاكية، فيما لم يشأ الإمبراطور وبابا روما أن يغضبا
أتباع التيار الديني المتطرف الجارف القادم من الإسكندرية.
ولما رأى الأسقف "ربولا" ومن معه، أن
كفة الميزان مالت لصالح "كيرلس"، انقلبوا على "نسطور" وأدانوه،
فكان مصيره النفي إلى مكان قصيٍّ تابع للإسكندرية، بعدما أنكروا آراءه باعتباره مُهرْطِقاً
وكافراً بالأرثوذوكسية (الإيمان القويم).
ويخلص أشهبون إلى أن رواية "عزازيل"،
وما أكثر ما كتب وسوف يكتب عنها، كانت مشروعاً روائيا كبيرا، بشهادات النقاد (عدد المقالات
التي كتبت عن الرواية) والقراء (عدد الطبعات)، ولجان التحكيم (جائزة البوكر (2009)
وجائزة "أنوبي" البريطانية (2012)، بالإضافة إلى ما أثارته من ردود فعل تراوحت
بين الرفض والقبول، وكان الطموح فيها عظيما وقضيتها المركزية واحدة من أهم قضايا الوجود
العربي الساخنة ألا وهي وظيفة الدين في نسيج المجتمعات، وقضية التطرف الديني في المشرق
العربي، في الماضي كما في الحاضر