كما أن للمحلات التجارية فترينات لعرض أفضل وأجمل منتجاتها، كذلك للأوطان واجهات عرض لإبراز أبهى أشكال الوجه الثقافي. وإذا كانت المتاجر تجيد تزيين ذلك
الصندوق السحري الفاتن، وتأثيث فضائه بما يغري ويقنع المتسوقين بارتياده، فإن المؤسسات الثقافية العربية تفشل في عرض أفضل منتجاتها الثقافية، وبالتالي تعجز عن تصدير صناعاتها الثقافية كما ينبغي.لأنها تكدس في واجهاتها أردأ أصناف المثقفين وأقلهم قيمة من الناحية المعرفية والفنية، حيث تراهن على حجة شكلية فارغة، تشبه ما يسميه بودريارد «ميتافيزيقيا المظهر الخارجي»، الذي يتشبّه بالثقافة ولا يمثلها بالنظر إلى كون الطابور الذي يحتل مقدمة المشهد هو أكثر الأشكال سطحية وخواء.
يبدو هذا الخلل على درجة من الوضوح في الدول والمجتمعات التي تنعدم فيها الخطوط الفاصلة بين المثقف والمؤسسة، أو بمعنى أدق، في المشاهد الثقافية المزدحمة بأسماء ترى أن من واجباتها الوطنية والقومية وحتى الثقافية تطابق وجهات نظرها مع ما تراه الحكومات والأنظمة في كل القضايا الداخلية والخارجية، السياسية والتنموية والاجتماعية والحقوقية، أي الامتثال لما تمليه المؤسسة، والتخلي عن أي دور استقلالي يعطي للمثقف شخصيته وهيبته ومكانته كمنتج للمعرفة، وكسارد لمروية موازية للتاريخ الرسمي، وهذا هو ما يفسر وجود عصابة رابضة على صدر المشهد، مهمتها اقتناص غنائم اللحظة الثقافية والاستئثار بهبات المؤسسة.
هذه العصابة هي التي تمتلك الحق الحصري في تمثيل الدولة في كل المحافل والمهرجانات، وهي التي تحصد الجوائز، وهي التي تحتل المناصب، وهي التي تظهر في الصور المكبّرة والمبهرجة للوطن، وهي التي لها حق النطق باسمه. وهي التي تستعدي الأنظمة ضد كل من يجاهر برأي ثقافي مغاير وهكذا. بمعنى أنها منذورة لمهمات التسلّط على كل الوظائف والرسائل والمقاصد الثقافية، بحيث لا يمكن لأي باحث أن يتعرف على حقيقة المشهد بدون الارتطام بهذا الجدار الصلب الشاهق الذي ابتنته المؤسسة حول نفسها، لتحجب الرؤية عن المثقفين الحقيقيين، حيث يعمل ذلك الجدار على تنصيع الأداء المؤسساتي والاستماتة في الدفاع عن مرئيات المؤسسة، وطمس أو تهميش دور المثقف الذي لم يترعرع في حضانة المؤسسة.
المعروض من المثقفين في واجهة أي مشهد لا يمثل بالضرورة حقيقته، فهناك من تم تصعيده بروافع مؤسساتية أو حزبية، وهناك من بُولغ في أهميته لأسباب لا ثقافية، وهناك من اُسترزع في قلب المشهد على طريقة نباتات الزينة، وهناك من أجاد لعبة الظهور فركب موجة الانتهازية، وهناك من لا يمتلك من الرصيد إلا قدرته على تسيير المظاهرات المنادية بالثقافة الوطنية واللعب على الغرائز، وهناك من عزز وجوده برسم صورة مزيفة عن نفسه كذائذ عن الوطن وفاضح لأعدائه، وغيرها من الصور المحاكية التي تقلد الأصل ولا تمتلك فاعليته وصدقيته، فهي تعمل كأقنعة مبدّدة للصورة الأصلية. كما يتم الاستفادة منها كعوامل ضغط في مواجهة أي شكل من أشكال التجديد الثقافي أو مناقدة الصور المكرسة.
اليوم تبدو كل تلك التمثيلات الحصرية للثقافة في مواجهة معادلة جديدة بفعل مهبات العولمة، إذ لم يعد بمقدور المؤسسة حجب الرؤية عن المثقفين الحقيقيين واشتغالاهم حتى في المجتمعات التقليدية المحكوم عليها بالانغلاق، ولم تعد جدرانها ذات فاعلية في طمس الأثر الثقافي المقبل من وراء الجدران. وهذا هو ما يفسر تعاظم حجم الفئة التي يُراد لها أن تمثل وجهة النظر المؤسساتية، لدرجة أن فترينتها ضاقت بالمعروضات، لسد ثغرات الجدار الآخذ في التصدّع والانهيار، لأن الزمن لم يعد يسمح برومانسية الوحدوي الذي تراهن عليه المؤسسة، بل هو زمن التعدد والتنوع والاختلاف والتشظي. وعلى هذا الأساس ظهر المفهوم الأحدث لتعريف الثقافة.
بمقدور أي مثقف اليوم أن يتجاوز جدران المؤسسة وأن يصل إلى العالم الآخر بسهولة من خلال إنتاجه الثقافي. وهذا ما لا تريد أن تقر به المؤسسة أو تتفهمه. أو بمعنى أدق حُرّاس هيكلها المتهاوي، الذين يراهنون على استدعاء تماثيلهم الثقافية من المتحف وإعادة طلائهم بما يتناسب مع روح الفترينة الأحدث، وتقديمهم كخلاصة لعقل ووجدان المجتمع أو الوطن الذي يمثلونه، بالمزيد من الجوائز والتكريم والاحتفاء والتمثيل الخارجي. في الوقت الذي صار فيه المثقفون يبرمون مواثيق التواصل الثقافي من وراء الحدود، وفي الوقت الذي يموت فيه نسق المثقف السلعي، المتكئ على التمويه والتمثيل المزيف للقيم الثقافية، على الرغم مما يبدو عليه المشهد من انتصار باهر لقيم الاستهلاك والاستعراض الأجوف لكل أشكال الثقافة.
أكاذيب المؤسسة الثقافية صارت مفضوحة، والمثقف المؤسساتي بات أضحوكة بشكله المحنّط في فترينة العرض، مدافعاً عن الرقابة، وناعقاً بالخطابات الوطنية الفارغة، ومروجاً للتفاهة، ومحافظاً على المشتبهات الثقافية، لأنه المسؤول عن تنهيج الرداءة الثقافية، أي جعلها منهجاً يُقتدى به، بكل ما يختزنه ذلك الأسلوب من انتهازية والتواء وتشيئ للبلادة التي تخالف أبسط مفاهيم الإنسان عن الثقافة. إذ لم يعد مثقف الفترينة في ظل هذا التحدي الكوني محل إعجاب الآخرين لكثرة النياشين المعلقة على صدره، ولا لوفرة الجوائز التي تحصل عليها، ولا بمنسوب حضوره للملتقيات الثقافية، بل بما يمثله كقيمة تغييرية وتنويرية وبما يحدثه من أثر جمالي في المقام الأول.
ما تؤديه ميليشيا مواقع التواصل الاجتماعي يعمّق جراح المؤسسة، ويكثّر من الصدوع في جدارها وتهشيم كيانها. فهي لا تستطيع احتواء كل ذلك الطابور من الساخطين، ولا تقدر على إقناعهم بالإنصات إلى تماثيلها المعروضة في فترينتها، والاقتداء بهم. فمثقف الفترينة ليس أمثولتهم ولا مثالهم، وهم إذ يقتلون الأب الأدبي المفروض عليهم، يعيدون إلى الواجهة مرة أخرى جدلية (إثم المؤسسة) حيث ظنت المؤسسة أن حرّاسها قد تمكنوا من ترحيل تلك المواجهة إلى الذاكرة وأرشفتها كقضية منتهية، إلا أن الأمر لا يبدو كذلك، ولا يبدو أيضاً أن أحداً يمتلك تلك القناعة أو الاعجاب أو الرضا عن مثقف الفترينة، وأن الصدوع في جدار المؤسسة صارت من الوساعة بحيث تسمح لأي متلصص برؤية المثقفين المحبوسين وراء الجدار، بل مصافحتهم، ودعوتهم للخروج.
٭ كاتب سعودي