-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

حين تَكلَّم الله : د. محمد منصوري

حين تَكلَّم الله : د. محمد منصوري
بِغَضّ النظر عن التفاصيل التي ميزت كل دين وكل معتقد، يبدو أن الفكرة المؤسسة لمعظم الأديان تتمحور حول وجود قوة كلية متحكمة في كل شيء يدور في فلكها سر
الخلق والوجود. غير أن هذا المعتقد الشمولي ما كان ليُدرك لولا وجودأشخاص متميزين شكلوا صلة الوصل بين عالمنا الإنساني وهذاالعالم الغيبي اللامحسوس.على هذا الأساس ارتبطت الأديان في مجملها بشخصيات عظيمة رسمت ملامح الحضارة الإنسانية في أزمنة وأمكنة مختلفة. ورغم أن هؤلاء العظماء الذين نسميهم إجمالا ب "الرُّسُل" نطقوا بلغات مختلفة، إلا أن كلامهم في كل مرة لم يكن سوى رسالة حرفية من لدن الإله الخالق نفسه ...أجل، حين تَكلّم الله ظهرت الأديان !!فكيف لبشر مثلنا أن يُكلّمه "الله" الغيب المنيع؟هذا هو السؤال المحوري الذي طالما شكل منعرجا في إيماننا وتقبلنا لفكرة الدين والعبادة بشكل عام وكذلك في اختيارنا لأحد الأديان الموجودة، هذا طبعاً إن كنافعلانختار.
لقد حاول كل دين على حدة أن يعطي لنا وصفا تقريبيا لمشهد غير اعتيادي وخارق لحدود الطبيعة يجسد التقاء عالمين مختلفين عبر جسر بشري يسمح بمرور معرفة غيبية تقمصت هيكلا ماديا تحت مسمى الكتاب أو "الكلمة الإلهية". ولعل استحالة إدراكنا لماهية هذا الارتباط وهذا التواصل بين عالمي اللاهوت والناسوت يجعلنا أمام اختيارين لا ثالث لهما: التصديق والإيمان أو الرفض والإلحاد. لذلك فالمؤمنون بوجود الله الخالق من خلال تصديق هؤلاءالرسل تجدهم يتّبعون "كلامهم" ويقدسون "مقامهم". أما الملحدون فهم منكرون لفكرة هذا التواصل الخيالي جملة وتفصيلا، إذ يرونه مخالفا لقانون الطبيعة وليس عليه دليل علمي أو حجة عقلية. والرسل بالنسبة إليهم ليسوا سوى شخصيات مؤثرة تركت بصماتها في تاريخ البشرية. وطبعا بين الإيمان والإلحاد يوجد جَزْر ومَدّ. لذلك سيكون هناك دائما مُقبِل ومُرتَد، وثالث "لا يدري" من أي الفريقين يُعَد.
بالنسبة لي فقد اخترت الإيمان بعد سنوات ترنحت فيها بين التشكيك والإلحاد. وليس لي دليل على اختياري سوى شعوري بالرضا والسعادة الروحية. وأظن أن هذا هو أكثر ما يبتغيه الإنسان. ومن خلال تجربتي الشخصية استنتجت أن الإيمان عملية عضوية تبدأ باتخاذ قرار التصديق بأحد الرسل من خلال التأمل في حياتهم وكلماتهم التي تصبح، بواسطة الإيمان،"كلمات إلهية". انطلاقا من هذه اللحظة يتوقف العقل عن التشكيك والانتقاد ويتأسس مفهوم المقدس والانتماء الديني بكل ما يستلزمه من ممارسة لطقوس وعبادات معينة والتزام بالأحكام والتشريعات التي تنظم شؤون الفرد والجماعة. لذلك لا يمكنني أن ألوم ملحدا على إلحاده لأنه قرر الخضوع فقط لسلطة العقل. فمهما حاولنا إثبات صحة ما نعتقده وندين به ستبقى حجتنا واهية لأنها تعتمد في الأساس على الإيمان والتسليم وليس على الملاحظة والتجربة. وإصرارنا على إقناع الآخر بما نؤمن به في محاولة لتقديم معتقدنا على أنه المعرفة المطلقة للحقيقة إنما يؤدي في النهاية إلى الجدال والنزاع وغالبا ما يكون السبب وراء ظهور هويات متقاتلة.
المتدينون عامة لا يؤمنون بالله من تلقاء أنفسهم وإنما من خلال تصديقهم للرسول الذي أرسل إليهم أو المختار الذي بُعث فيهم أو المظهر الإلهي الذي تجلى لهم. فهو من حَدّثهم عن الخلق والخالق وعن ماهيتهم الروحانية وعن الموت والحياة بعد الموت وعن الجزاء والعقاب وعن الخير والشر ليصل في النهاية إلى الهدف المنشود وهو كيف يجب أن يكونواوماذا عليهم أن يعملوا ويقدّموا في حياتهم هذه ليدخلوا الجنة أو يحققوا السعادة الأبدية. وهذا هو سبب الاختلاف الحاصل في الوصف أو المخيل الذي يرسمونه عن الخالق وكل الأمور اللامحسوسة المرتبطة به، حيث أنهم كونوا تصورهم من خلال فهمهم للكلمة الإلهية بما تحمله من غموض وتشابه في المعنى. ولذلك أيضا فهم يرتبطون بالدين ومُظهِره أكثر من ارتباطهم بالخالق المجرد. ويبقى السؤال المطروح هو لماذا كل هذه الأديان المختلفة ما دام أن هناك إله واحد؟
الاحتمال الأول نجده عند الملحدين واللادينيين الذين يعتبرون هذه التعددية المتضاربة وهذا الاختلاف الذي يصل حد التناحر أكبر دليل على أن فكرة الدين من الأساس هي من صنع البشر لأهداف سلطوية وتحكمية. والاحتمال الثاني وهو الشائع بين المتدينين يكمن في أنه لا يوجد في الحقيقة إلا دين واحد يعبر عن الخالق الحقيقي وهو بطبيعة الحال دينهم. أما باقي الأديان فهي مجرد طقوس ومعتقدات وضعية لا تمت للغيب بصلة، وحتى إن كانت أديانا "سماوية"ـ في إشارة إلى مصدرها الإلهي ـ فقد تم تحريفها ولم تعد صالحة.المشكل المزدوج في هذا الطرح هو أنك تعتقد بأن معرفتك التي يُفترض أن تكون نسبية هي الحقيقة المطلقة وأن معرفة الآخرين هي مجرد معرفة نسبية أو لا أساس لها من الصحة. فكيف يكون التعايش ممكنا في ظل وجود هذا النوع من التفكير.
هناك احتمال آخر،وهو أن تكون هذه الأديان كلها قادمة من نفس المصدر الإلهي وقد توالت بتوالي الأيام لتساير التطور العقلي والمفاهيمي عند الإنسان، واختلفت باختلاف المكان لملاءمة ظروفه البيئية والاجتماعية المؤثرة فيه. وفي هذه الحالة يجب أن يكون هذا التواصل مع الخالق مستمرا باستمرار الخلق الدالِّ عليه. من هذا المنظور يكون أهم جزء في الجانب المتغير من الدين هو المتعلق بالتشريعات والأحكام والمبادئ التي تنظم علاقات الأفراد والشعوب. لأنه حين يكون هذا الجانب غير مساير لمتطلبات العصر ومستلزماته، تظهر المشقة ويصبح في الدين حرج كبير. وهذا ما يؤدي إلى إبطال العمل بأحكامه والإبقاء فقط على الممارسات التي تحافظ على الهوية الجماعية المرتبطة به، وبذلك يفقد روحه وجوهره والهدف من وجوده.
في النهاية ما يهمنا هو الهدف من وراء كل هذه الأديان وهو تعزيز الأخلاق والصفات الروحانيةوفعل الخير وخدمة الإنسانية وبناء مجتمع سليم ومنتظم. هذا هو الأساس في كل دين وهذا ما ينفع البشرية. ومن كان لا يؤمن إلا بالعقلوالعلوم الحديثةفهو أيضايسعى نحو التطور والامتياز وخدماته عظيمةجلية،وهو أيضا لا ينكر وجودالقيم النبيلة الكامنة في الطبيعة الإنسانية. فلنعبد أو لا نعبد ولنعبد كيف نشاء هذا شأننا مع من نعتقد أنه خالقنا ولا دخل للغير فينا. فهذا عصر مختلف، بلغت فيه الإنسانية سن البلوغ وأصبحت قادرة على تمييز الصواب من الخطأ.وهي تعيش الآن في ارتباط متين وتواصل مستمر لم تشهده من قبل، ولن يسعها أن تتحمل بعدُ تواجد هذه الهويات المتقاتلة.ورغم تخبطها الظاهر فهي تسير بخطى حثيثة نحو تحقيق الوحدة والسلام، وإن كانتالقوى الهدامة التي تتغذى على اختلافاتنا تجعل من هذا التغيير الحاصل مخاضا عسيرا.
لقد كان هدفي من كتابة هذه المقالات الثلاث حول الحقيقة ونسبية المعرفة،وما نعرفه عن الله الخالق وعن رسله ومظاهره وعن الكلمة الإلهية، هو الوقوف على مصدر الخلاف وطبيعته حتى نتجاوزه بكل شكلياته ونركز على طبيعتنا الإنسانية الموحِّدة ونحن نؤسس لقيم المواطنة والعالمية.فتُصبحاختلافاتنا الفكرية والعقائدية مدعاة للفخر والاعتزاز ومصدرا للإغناء والعطاء، وبذلك نستبدل الجدال في المسائل العقيمة بالمشاورة في الأمور التي تهمنا جميعا والتي فيها خيرناوصلاح مجتمعنا. هكذا نتعلَّمُ معاً كيف نبني مغربا أفضل ... كيف نبني عالما أفضل.
د. محمد منصوري
مقالات في نفس الموضوع:
http://www.ueimag.co.vu/2016/07/blog-post_7.html

http://www.ueimag.co.vu/2016/07/blog-post_99.html

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا