ليلة سقوط زين العابدين بن علي والبداية الرسمية لما بات يُعرف اليوم بالربيع العربي صادفت في نفس ليلة توقيع كتابي الأوّل الأزمة الأخيرة في بيروت؛ خلال التوقيع
سادت على الأجواء النقاشات حول مستقبل الأنظمة العربية بين وجوه الناشطين المبتسمين فيما تراجع موضوع الكتاب بخجل إلى الخلفيّة.
الصدفة هذه كانت بالنسبة لي مليئة بالمعاني، الكتاب الذي نُسي موضوعه في تلك الليلة يتناول قضية تساوي وجودنا، قضية وجود حضارتنا نفسها والسقوط البطيء الذي يجري لها على قدم وساق، ويفسّر جذر معظم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجتاح العالم اليوم، فيما سقوط الرئيس هو حدث واحد وجزئي في سلسلة أحداث كثيرة حصلت قبله وبعده. لكن رغم ذلك، طغى الحدث على المشهد وضاعت الصلة بينه وبين ما يحصل لحضارتنا بالنسبة لمعظم الحاضرين.
قد يقول البعض أن التسلسل المنطقي في هذه الحالة كان أن يستنير المتواجدون بأطروحة الكتاب لكي يعودوا إلى جذور الأزمة ويحلّلوها انطلاقاً من ترابطها بالواقع العالمي المتأزّم، لكنّي شخصياً لم اتوقّع حدوث ذلك، وما حصل هو أن الجميع كان منهمكاً بحدث السقوط نفسه، متناسياً كل السياق الذي ظهر فيه الربيع العربي. ورغم أن معظم اللذين تواجدوا في ذلك المكان هم خيرة الناشطين السياسيين والمدنيين والبيئيين في بيروت وأوسعهم ثقافة، إلا أنه كان من الصعب عليهم أن ينظروا أبعد من الحدث الآني.
هذه الحادثة الصغيرة خلال توقيع الكتاب هي في الواقع نموذج مصغّر عن لسان حال معظم القوى السياسية في العالم ووسائل الإعلام التي غرقت في عصر الثورات بتحليل الأحداث الآنية والتلّهي بها بدل النظر إلى جذور القضية.
رفضاً لتطويب الثورات
من مظاهر الغرق في الأحداث الآنية هو التمجيد الدرامي للثورات والتعامل مع القوى الإسلامية كأنها مفاجأة لم يعلم أحد بوجودها قبلاً.
كل ثورة هي طبعاً عمل شجاع، وهي نتيجة عمليّة طويلة من التراكم، كما أنها تؤدّي إلى تغيّرات دراماتيكية في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبلد ما. لكن ما نتجنّب ذكره عادة عند الحديث عنها هو أن الثورات هي في معظم الأحيان نتيجة فشل طويل الأمد في إحداث تغيير. هذا الفشل هو ما يؤدّي إلى انفجار على شكل ثورة، والانفجار هو أمر لا يمكن التحكّم به أو التنبؤ بنتائجه. لذلك ما يحصل عادة هو أنه ما يهدأ الغبار حتى تكون الأمور قد استقرّت في يد قوى الأمر الواقع، سواء أكانت الجيش، القوى الإسلامية، أم فلول النظام السابق. الثورة التي تحصل قبل نضوج الظروف الاجتماعيّة والسياسية لها قد تؤدّي في بعض الأحيان إلى عكس التغيير المرجوّ منها، وقد تقطع الطريق حتى على مسيرة بطيئة من التغيير الملموس وتستبدلها بفترة مطوّلة من الفوضى تطيح بالانجازات السابقة. هذا لا يعني أن أنظمة الطغيان والفساد تستحقّ الاستمرار، بل يعني أن الثورة ليست أمراً جيداً أو سيئاً لمجرّد كونها “ثورة”، يمكنها أن تكون الاثنين معاً.
قد يعتقد أحدهم في هذه الحالة أننا نتحدّث عن تونس، أو مصر، أو سوريا، أو عن أيّ دولة عربيّة أخرى، لكننا نتحدّث عن أمثلة تاريخية. الثورة البلشفيّة مثلاً عام 1917 في روسيا أنهت حكم القياصرة الظالم، لكنها أنهت أيضاً سلسلة الإصلاحات الحقوقية التي كان يقوم بها هذا الحكم وأنشأت فيما بعد أسوأ نظام شمولي في التاريخ.
ما نقوله لا يعني أن الثورة تتحمّل مسؤولية الفوضى أو الأحداث المؤسفة التي تحصل خلالها أو بعدها، من يتحمّل مسؤولية ذلك هو من يمسك بيده مفاتيح الربط والحلّ في البداية، أي النظام. حين يسدّ النظام الطريق على التغيير ويمشي على شعبه بالدبابات، هو وحده من يتحمّل مسؤولية كل الدماء التي تسيل (إلا حين تتحوّل الثورة إلى نظام جديد).
ولا يعني أيضاً أنه يجب على القوى التغييرية أن تتساهل مع الأنظمة أو تخفّف من مطالبها، لكنه يعني أنه لا يجب على هذه القوى أن تُدفع إلى الثورة فيما هي ليست مستعدّة لذلك، خاصة إن لم تكن مؤهّلة بعد للتعامل مع مرحلة ما بعد الثورة لأن الرابح الوحيد في هذه الحالة هو قوى الأمر الواقع التي ينبثق منها النظام السياسي السابق. وهذا ما حصل في ثورات العالم العربي.
الربيع العربي كان مفاجئاً للجميع لأنه لم يحصل نتيجة تراكم نضالي طويل الأمد، لم يحصل بعد أن كانت القوى السياسيّة تعمل لسنوات على بديل للنظام، لم يحصل بعدما أصبحت مفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة قيم سائدة في المجتمع وبوصلة القوى الحيّة فيه، لم يحصل بعدما تخطّينا أيدولوجية الاستبداد الديني وعمائم التحريم، ولم يحصل بعدما تم تفريغ الأنظمة الاستبدادية من عناصر قوّتها. صحيح أنه كان هنالك تمرّد على الأنظمة هنا وهناك، لكن مطلب التغيير السياسي والاجتماعي الشامل لم يكن مطروحاً. الطغيان المتزايد لأنظمتنا دفعنا كشعوب إلى الثورة قبل الأوان بعد انسداد الأفق السياسي للتغيير، لكننا لم نكن مستعدّين للتعامل مع ما سيأتي بعد ذلك. دخلنا الثورات وأعيننا على صورة الدكتاتور، فغاب عن نظرنا كل الطغاة الصغار اللذين يقفون خلف الصورة.
استيقاظ الشعوب أم عصر الانهيارات؟
خلال العام الماضي، لم تقتصر التغيّرات السياسيّة على العالم العربي، هنالك نحو 125 دولة في العالم شهدت تظاهرات واحتجاجات تطالب بإصلاح أو إسقاط الأنظمة السياسية. للحظة، بدا وكأن العالم بأجمعه على شفير ثورة عالمية شاملة، وهذا بالفعل ما آمن وبشّر به آلاف الناشطين حول الكوكب. الغالبية الساحقة من المحلّلين والناشطين يحتفلون اليوم بـ”استيقاظ الشعوب” وبـ”الفجر الآتي” ويبشّرون بيوتوبيا مقبلة علينا، والبعض يغرق في تبنّي نظريات المؤامرة، لكن هل هذا فعلاً ما يحصل؟
لا نعتقد ذلك. نظريات “استيقاظ الشعوب” و”المؤامرة” تفشل حتى الآن في تقديم تفسير مقنع حول أسباب وتوقيت كل هذه الانتفاضات. البعض يردّ الأسباب إلى الانترنت وتقنيّات الاتصّال المتطوّرة، والبعض الآخر يتحدّث بعبارات غامضة عن “الوعي السياسي” أو “اللحظة المناسبة”، وقلّة تتحدّث عن الأزمة الاقتصادية الصامتة التي تلقي بثقلها على العمليّة السياسيّة. الإجابة الأخيرة هي الوحيدة التي تحمل في طيّاتها القليل من الصحّة. رغم أن حدوث انتفاضات شعبيّة هو أمر إيجابي، إلا أن وصفها بالثورة العالمية لا يعبّر عن حقيقة ما يحصل: ما يحدث هو انهيار عالمي، لا ثورة عالميّة.
السقوط البطيء لحضارتنا الصناعيّة أمر سبق وتحدّثنا عنه في عدّة مقالات، ومن المفيد إعادة التذكير به هنا. مجتمعنا المعاصر يقوم على شبكة متطوّرة جداً من الطاقة المرتكزة على النفط والتي تغذّي كل شيء نقوم به؛ نحن نستعمل هذه الطاقة لنزرع الطعام، لنبرّده، لننقله ونعلّبه، نستعملها لصناعة الملابس والأثاث والأدوية والسيارات والكمبيوترات، نستعملها لبناء المدن والمباني ولصيانة الصرف الصحّي وإنشاء الطرقات، نستعملها للإضاءة والتدفئة والانتقال من طابق لآخر ومن مدينة لأخرى، ونستعملها للاتصال ببعضنا البعض والترفيه ولتحريك الجيوش ونقل الأموال والبضائع. نستعملها في كلّ شيء نقوم به، كل يوم، كل لحظة. كل نمط حياتنا، حكوماتنا، اقتصادنا وتفاصيل حياتنا اليومية، كلها ترتكز على عامل خفي لا نراه أو نشعر به هو الطاقة. وهذه الطاقة تأتي بمعظمها من الوقود الأحفوري، أي النفط، الغاز، والفحم. وهذه الموارد اليوم تعيش أزمة بنيوية غير مسبوقة لا يمكّن حلّها بأي وسيلة سياسية لأن أسبابهاهي بكلّ بساطة جيولوجيّة وفيزيائية. بعد أن كان سعر النفط يبلغ 20 دولاراً في العام 2003، معدّله اليوم هو 90 – 105 دولارات، وهو مرشّح للارتفاع نحو 12 دولاراً على الأقل كل عام. لقد نمى العالم وتطوّر لدرجة أنه يحتاج لطاقة أكثر مما يمكن للأرض أن تقدّم له.
أزمة الطاقة هذه تقف خلف الركود الاقتصادي العالمي الذي نعيشه اليوم، وخلف العديد من الصراعات السياسيّة من فنزويلا إلى إيران، وهي تترك أثار خطيرة جداً على الاستقرار السياسي والاجتماعي في كلّ مكان. ارتفاع فاتورة الطاقة يعني تصاعد الأزمات الاقتصادية وتراجع مستويات المعيشة، زيادة الفقر، تصاعد أسعار الغذاء وكل السلع الأوليّة، إفلاس الخزينة العامة (فاتورة الطاقة تصل في بعض البلدان إلى 20 % من الناتج القومي)، تآكل القوّة السياسيّة للحكومة وعجزها عن أداء دورها الاجتماعي. هذه كلّها عناصر كافية لإشعال أزمة سياسيّة طويلة الأمد ودفع الشعوب للثورة، اعتقاداً منها أن الحلّ هو في تغيير شكل النظام القائم.
في ذروة أزمة الطاقة في صيف عام 2008، شهدت عشرات البلدان احتجاجات سياسيّة، ترتبط بطريقة أو بأخرى بأزمة الطاقة، وأدّى بعضها إلى سقوط حكومات. تقرير مجلس الاستخبارات الأميركية للعام 2010 حذّر أيضاً من أن عدد من الدول الفقيرة قد يتحوّل إلى “دول فاشلة” بسبب أزمة الطاقة، وعدّد دول الشرق الأوسط على أنها أوائل الدول التي ستسقط في هذه المشكلة. لكن حين حصلت احتجاجات عام 2011، لم ينتبه أحد إلى تماثلها مع احتجاجات عام 2008، ولم يذكر أحد التحذيرات الاستخبارية من تأثير أزمة الطاقة على العالم العربي.
حين نتفحّص الوقائع والأرقام يبدو لنا بوضوح أن موجة الاحتجاجات السياسية حول العالم هي قبل كلّ شيء ردّة فعل على الأزمة الاقتصادية الناتجة عن أزمة الطاقة. في الأنظمة التي لا تستطيع استيعاب الحراك السياسي، أتت الاحتجاجات على شكل ثورة، لكن السبب يبقى ذاته. لذلك ليس غريباً أن تبدأ الاحتجاجات في تونس في مناطق الأطراف ضمن الطبقات الشعبية، أو أن تكون بشائر الثورة المصرية بدأت في العام 2007 مع الفئات الأكثر تضرراً من الناحية الاقتصادية كالعمّال والطلّاب، أو أن تكون مناطق الأطراف المُهمّشة في سوريا هي الأكثر تمرداً على النظام. تحوّل مصر إلى مستورد للنفط مثلاً في العام 2006 بعد أن كانت مصدّراً له، حرمت النظام من الكثير من الأموال وقوّضت قدرته على تقديم الخدمات الاجتماعية وضبط الوضع السياسي، وحين اندلعت الثورة بعد خمس سنوات، كان النظام عجوزاً ومنهكاً ومفلساً.
من المهم أن نفهم هذه الأسباب لكي نتجنّب مطبّ توقّع تحسّن كل شيء بعد الثورات؛ المشكلة الحقيقية التي تقف خلف الثورات لا يمكن حلّها عبر تغيير الأنظمة السياسيّة فحسب. صحيح أن الديمقراطية أفضل من الديكتاتورية، لكننا نعيد هنا قول ما كتبناه مرّة في مقال حول ثورة مصر:
“الديمقراطية لا تستطيع تحويل رمال الصحراء إلى تراب يُزرع، ولا الصحف الحرّة أو المدوّنات إلى وجبة طعام، ولا تستطيع استخراج النفط من الآبار بعد نفاذها”.
هذه المعطيات كافية ربّما لتغيّر نظرتنا حول الربيع العربي: المشكلة ليست في الأنظمة الديكتاتورية فحسب، بل هي أعمق من ذلك بكثير، والحلّ لا يمكن أن يكون عبر مجرّد ثورة، بل يقتضي أن نعيد النظر أولاً بكل شيء نعرفه عن بنية حضارتنا ومستقبلها وبأن نبتكر ثانياً حلول قادرة على التعامل مع السقوط البطيء للعالم الصناعي على كلّ المستويات، الطاقوية، الغذائية، الاجتماعية، السياسيّة، الاقتصاديّة، والروحيّة. تبعاً لذلك، يجب أن ننظر بشكل مختلف تماماً إلى السؤال الذي طرحناه في العنوان حول ما إذا كانت الثورات ربيعاً عربياً أم خريف إسلامي.
الحلّ الإسلامي ليس مجرّد بديل سياسي
من الطبيعي أن تكون القوى الإسلامية البديل الأقوى عن النظام في الفترة الأولى بعد سقوطه، كونها أكبر قوّة سياسيّة واجتماعيّة في معظم الدول العربية. صحيح أن القوى المدنيّة والعلمانيّة والأهليّة غير الإسلامية كانت العامود الفقري للثورات (في بدايتها على الأقل)، إلا أنها في حالتها الراهنة غير قادرة على منافسة الإسلاميين الأكثر تنظيماً وتمويلاً وإصراراً.
ارتباك التيارات اليسارية والعلمانيّة في كيفيّة التعامل مع القوى الإسلاميّة يعود إلى سوء فهمها لأمر أساسي جداً: البديل الإسلامي ليس مجرّد بديل سياسي! شعار “الإسلام هو الحلّ” ليس المقصود فيه كرسيّ الحكم، المقصود فيه هو كلّ شيء على الإطلاق. القوى السياسيّة العلمانيّة تتعامل مع الإسلاميين على أنهم خصم سياسي، فيما يواجههم الإسلاميون على أنهم خصم حياتي، وهنا يميل الميزان بوضوح لمصلحة الإسلاميين. باستثناء بعض المفكّرين الشجعان وبعض المبادرات المدنيّة المحلّية، لا تجرؤ معظم القوى السياسية على انتقاد الرؤية العقائدية للإسلام في الشؤون الحياتية والسياسية، وتكتفي بالتذمّر من طروحات الإسلاميين من وقت لآخر فيما يعمل الإسلاميون ليل نهار على تغيير المجتمع بالكامل. وهكذا تجري عمليّة الأسلمة على قدم وساق وتتقدّم في كافة شرايين المجتمع فيما القوى العلمانيّة تغرق في النوم ولا تستيقظ إلا حين تصل الأسلمة إلى مراحلها الأخيرة في المجلس النيابي على شكل قانون يتيح تعدّد الزوجات.
الخريف الإسلامي بدأ في الواقع منذ عشرات السنوات، واجهته الأنظمة حيناً، وقمعته أحياناً، لكن عمليّة الأسلمة استمرّت حتى باتت جزء طبيعي من المشهد العام وقوّة سياسيّة واجتماعيّة كبرى. لماذا يستغرب البعض إذاً أن تدخل الأسلمة إلى مبنى الحكومة بعد أن دخلت إلى بيوت وقلوب ملايين العرب من المغرب إلى البحرين؟
عمليّة الأسلمة في مجتمعاتنا هي في مرحلة متقدّمة جداً، لم تعد مجرّد طرح، هي شبكات اجتماعيّة ومؤسسات وأحزاب وقنوات تلفزيونية وجمعيّات خيرية وأسلوب حياة وامتداد اجتماعي وطروحات فلسفية وممارسات دينية تعطي الناس معنى وهدف وأمل في عالم يفتقد للمعنى والهدف والأمل!
لذلك قلنا أن الإسلاميين ليسوا مجرّد بديل سياسي، بل هم بديل حياتي شامل في زمن مأزوم، في زمن يبحث فيه الجميع عن بوصلة تساعدهم على معرفة الاتجاه الصحيح لحياتهم في عالم تبدو فيه جميع الاتجاهات خاطئة وخطيرة. وهذا ما يجب على العلمانيين أن يدركوه: لا يمكنهم مواجهة طرح حياتي شامل بطرح سياسي محدود.
الشيوعيون واليساريون العقائديّون سيدركون فوراً صحّة هذه المقولة، كون الشيوعية طرحت نفسها في الماضي على أنها أسلوب حياة كامل، لكن الطرح الشيوعي جُرّب مئات المرّات وفشل، وهو طرح غير قابل للحياة في الوقت الحالي لأسباب عديدة لا يكفي هذا المقال لمعالجتها.
وهنا يبدو الربيع العربي عاملاً إيجابياً في وجه الأسلمة لا العكس؛ فهو أخرج إلى الضوء الواقع الإسلامي الذي كان يختمر لعقود في الظلّ، ووضعه تحت المجهر. الصدمة التي تعاني منها القوى العلمانية اليوم جرّاء تقدّم الإسلاميين هي أمر إيجابي لأنها قد تدفع هذه القوى لإدراك حجم المواجهة وإعادة النظر بأساليب عملها واعتماد سياسة أكثر حزماً تجاه زحف الظلاميين. القوى العلمانية يمكنها أن تستفيد من واقع أن الإسلاميين سينشغلون بمتاعب الحكم وسيعانون من ارتداداته ولن يستطيعوا الحفاظ على نفس الصورة النقيّة التي عملوا عليها لسنوات.
كذلك يبدو سقوط الأنظمة الاستبدادية خطوة في الاتجاه الصحيح، حتى ولو كان الإسلاميّون هم المستفيد الأوّل من ذلك في الوقت الحالي. البعض يعترض على إسقاط الأنظمة لهذا السبب تحديداً، لكن يفوتهم أن الحالة الإسلامية نمت وترعرعت بسبب هذه الأنظمة، وأن سقوط الطاغية يعني إفساح المجال لمواجهة مباشرة بين العلمانيين والإسلاميين من دون وجود نظام فاسد يحرج العلمانيين ويغذّي الإسلاميين ويقمع الإثنين معاً. إذا ما انتصر العلمانيون في مواجهتهم هذه، سيكون بإمكانهم تحويل الخريف الإسلامي الرابض على قلوب شعوبنا إلى ربيع مليء بالكثير من الألوان والحياة.
لكن المسألة كما سبق وقلنا، ليست مسألة علمانيّة في مواجهة إسلام سياسي فحسب، بل هي أزمة وجوديّة تطال أسس حضارتنا نفسها وتتطلّب من القوى التي تريد حلاً حقيقياً أن تخرج بنظرة جديدة إلى الحياة والإنسان والعالم، نظرة تستطيع أن تقدّم أفقاً لعالم ما بعد الانهيارات الكبرى. وفي هذا المجال، هنالك تفوّق واضح للطرح الإسلامي في الوقت الحالي. المشكلة الإسلامية تبدو أكثر خطورة حين نفهمها على ضوء السقوط البطيء للحضارة الصناعية؛ صورة الإسلامي الذي يمتطي حصاناً في شوارع بيروت، القاهرة أو تونس، تحمل معنى أبعد بكثير من سريالية المشهد: الإسلام السياسي ليس فقط بديل حياتي متكامل، بل هو الإيدولوجيا الأكثر قدرة في الوقت الحالي على التأقلم مع الانهيار القادم.
لذلك، هنالك الكثير من العمل بانتظارنا في الأيام والسنوات المقبلة نحن العلمانيين والباحثين عن حلول لأزمتنا الإنسانية الكبرى. هذا العمل يبدأ أولاً بإيجاد نظرة (أو نظرات!) جديدة متكاملة للحياة أبعد من الطرح العلماني المحدود وأبعد من طروحات اليسار التراثي، نظرة تستطيع أن تقدّم حلولاً حقيقياً لطريقة العيش والكينونة في القرن الحادي والعشرين. وهنا نعود لننبّه إلى أن “تطويب الثورات” على أنها أمر جيّد بالمطلق يقف في وجه تكوين هكذا نظرة، لأنه يبقي أذهاننا وخططنا أسيرة التفكير الآني الذي يركّز على الأحداث السياسيّة الخارجية والوجوه التي تتناوب على الحكم.
النظرة الجديدة التي نسعى لها لا يجب أن تقدّم فقط بديلاً سياسياً أو تشغل نفسها بالنزاع على كرسيّ الحكم، البديل السياسي هو في الواقع آخر طروحاتها. عليها عوضاً عن ذلك أن تقدّم بديلاً حياتياً متكاملاً في كافة المجالات، وهذا البديل الحياتي هو الذي سينتج وقعه السياسي في ما بعد. الأسئلة التي يجب أن تنطلق منها النظرة الجديدة لا يجب أن تكون جزئيّة مثل “ما هي أفضل طريقة للحكم”، أو “ما هي أفضل طريقة لتوزيع الثروات”، بل يجب أن تكون أسئلة وجودية أساسية: ما هي الطرق الفضلى للعيش، كأفراد وكجماعات، بشكل متناغم مع الذات، مع الآخرين، مع الأرض ومع المقدّس؟ ما هي الطريقة التي تضمن ألا ترث بناتنا وأبناؤنا مجتمعاً ميتاً وأرض جرداء وروح خاوية؟
حين نبدأ بامتلاك الحدّ الأدنى من الأجوبة على هذه الأسئلة نستطيع أن نقول أن العمل الفعلي قد بدأ. وعندها يمكن للربيع الحقيقي أن يزهّر. وإن الغد لناظره قريب!