أبناء جيلي والسّابقون لهم يذكرون أن كرّاس التربية الإسلامية كان ينقسم إلى شطرين شطر للعبادات وشطر للأخلاق. وما عاد الأمر كذلك اليوم لا فحسب في الكرّاسات
والدّروس ولكن في الواقع المجتمعيّ كذلك إذ يبدو أنّ الشّطر الأوّل استحوذ على الكرّاس كلّه وألغى الشّطر الثّاني أو كاد.
إن هذا المقال ينشد طرح السؤال التالي: لماذا يقتصر الإسلام لدى كثير من التونسيين على العبادات فحسب؟ قد يبدو السؤال مستفزا ولكنه نتاج سنوات من الملاحظة ومن الاختلاط بالناس…طبعا وهذا المقال لا يسعى إلى التعميم ولكنه فقط يطرح السؤال…
يقرن الله تعالى في كتابه الحكيم الإيمان بعمل الصالحات. ورغم أن الإيمان أوسع من الإسلام فإننا سنضرب صفحا في هذا المجال غير الأكاديمي وغير المختص عن الفارق. المهمّ أن الله تعالى يقرن الإيمان بالعمل. ومعلوم أن أركان الإسلام خمسة يسعى المسلمون إلى الإحاطة بها شهادة وصلاة وصوما وزكاة وحجّا لمن استطاع إليه سبيلا. ويندر أن تجد مسلما لا يمارس هذه العبادات (أعني بالمسلم من اختار الإسلام دينا لا من كان إسلامه وراثيا). وإذا كان لا يمارسها فإنه يؤكد أن ذلك وقتي وأنه ينتظر هدى الله تعالى وأنه في يوم ما سيضطلع بالعبادات. والعبادات مفروضة طبعا من الله تعالى ولا شك أن كثيرا من حكمتها مما يجهله الإنسان على أن القرآن وضّح لنا بعض مظاهر هذه الحكمة واضطلع الدارسون عبر التاريخ الإسلامي بالنظر في أبعادها. ولا يمكن في هذا المقام أن لا نتذكر على الأقلّ أنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ولكن ما يلفت انتباهنا أنه بقدر تزايد إقبال الناس على العبادات نجد عزوفا عمّا من المفروض أن تنتج عنه العبادات ونعني الأخلاق والمعاملات الراقية. ولا يمكن إلا لجاحد أن ينكر ذلك، بل إن الأمر مختلف في كثير من البلدان العربية المسلمة والبلدان الغربية. ففي بلادنا اليوم يندر أن تجد من يترك الأولوية لشخص يجد صعوبة في المرور، ويندر أن تجد من يلتزم بنظام الاصطفاف في محلات البيع إلا المحلات العصرية الكبيرة إلى درجة أني منذ مدّة رأيت بأمّ عيني امرأة تلقي بسروال على وجه بائع لمجرد أنه قال لها بكل لطف: من فضلك التزمي بالصفّ. ومن منّا لا يعرف أن سواق التاكسي في بلادنا عدد منهم لا يحملون الناس إلى الأماكن التي يقصدونها إلا في إطار مشروط (مكان بعيد أي تعريفة أكبر أو مكان في طريق المنزل) وقد لا يقف بعضهم أصلا لمريض أو مسنّ ويفضّل عليه سائحا يقف بعد أمتار قليلة. ومن منّا لم ير أشخاصا يلقون بفضلات من سيارتهم وإن يكن بعضهم خارجا من المسجد. ومن منّا لم ير من يغلق الطريق بسيّارته وهو نازل ليصلّي جماعة؟ ومن منّا لم ير من يقضي حاجاته البشرية في الشارع؟ ومن منّا لم يصادفه أن التقى بشخص في المصعد أو سواه فسلّم عليه فإذا بالآخر لا يجيبه أصلا؟ ومن منّا لم يسمع الناس يغتابون بعضهم بعضا ويقذفون المحصنات والطريف أن بعضهم يفعل ذلك في إطار ما يتصوره حفاظا على “الأخلاق الحميدة”. ألا نسمع في تونس كثيرا فلان يصاحب فلانة وأنّ تلك تعاشر ذاك إلخ…ومن منّا لم يسمع الناس تشكو من التدخّلات وظاهرة “الأكتاف وفي الآن نفسه تجد في كثير من الأحيان ناسا ملتزمين بالعبادات وطقوسها يطلبون (وقد حصل هذا لي شخصيا) تدخلا لإنجاح شخص في مناظرة دون أن يعي الطالب أنه بطلبه هذا إنما يحرم شخصا آخر مستحقا من النجاح…
الأمثلة متعددة وليس المجال مجالا استقصائيا…فقط أسأل: لماذا لا تنهى العبادات بعض الناس عن إلحاق الضرر بالآخر؟ لماذا لا تعلّم العبادات الحبّ ولماذا لا تحض على مساعدة الآخر؟ لماذا لا ينتج عنها حسن الأخلاق؟ كيف نعيد هذا الرابط بين البعد الشعائريّ للدّين وهو هامّ والبعد الأخلاقي العملي له مما لا يقل أهمّية عن الأول؟ ألم يقل الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنّه بُعث ليتمّم مكارم الأخلاق؟ إنّه إذا استمرّ تجاهلنا للخلق الحسن فسنصبح مسلمين بلا إسلام ولعلّي في هذا المقام أتذكر قول الشيخ محمد عبده الذي طلب منه البعض بعد سفره إلى الغرب تعليقا فقال: أخلاقهم ديننا”…
بخصوص تساؤلاتك: لماذا لا تنهى العبادات بعض الناس عن إلحاق الضرر بالآخر؟ لماذا لا تعلّم العبادات الحبّ ولماذا لا تحض على مساعدة الآخر؟ لماذا لا ينتج عنها حسن الأخلاق؟
ردحذفجميع الديانات لا تدعو إلى إلحاق الضرر بالآخرين وهي تعلم الحب وتحض على مساعدة الآخرين، جميعها دون استثناي تحث على حسن الأخلاق... لكن الانسان بتركيبته وثقافته.. وعقليته.. هو اللذي يماس مثل هكذا ممارسات... فلا لوم على الدين أو العبادات كما اسميها... اللوم كل اللوم على بني البشر الذين يمارسون مثل هذه الأفعال...