يفاجئ علي أومليل قراءه بكتاب حميمي، لم ينفصل فيه عن همومه الفكرية التي أخلص لها لمدة عقود، ولكنه سكبها هذه المرة في سرد شجي تحمله كتابة أنيقة تنتقل من البوح
إلى الحكي إلى التحليل إلى التأمل إلى التدفق الشعري، كتابة كثيفة مصفاة تدعوك للانغمار في الحياة كتجربة كونية تتحرر من الأزمنة لتستقر في شساعة الوجود والفناء.عنوان الكتاب» مرايا الذاكرة»، وهو سرد كما جنسه المؤلف، ليس رواية ولا سيرة، حتى وهو يمتح منهما معاً. عنوان كاشف ومضلل. فبينما تدخل الكتاب بحثاً عما «يتذكره» الكاتب، تطالعك الأحداث والأمكنة والمشاعر متقابلة في مرايا يضيء بعضها بعضا. المدينة التي بلا تاريخ (وبلا اسم في النص) وبلا أمجاد، تضيئها مدن أخرى تظهر وتختفي، لكل مدينة وجه، تراه في مرآة ويَراك في مرآة أخرى. أحياناً تكون المرآة نصاً قديماً أو حكاية، أو واقعة تاريخية، وأحياناً تكون رأياً نضج على نار العمر الهادئة. في كل مرآة نتذكر شيئاً أو نستعيده، أو نفقده. لأن تعدد المرايا يكسر الملامح والحكي، فلا نكاد نعثر على صورة واضحة حتى يكسرها تدخل صور متسارعة تتهافت على نصيبها من الذاكرة.
من أول الكتاب إلى آخره تحاول الفلسفة والشعر ترويض الموت كجزء لا يتجزأ من الحياة، موت الأشخاص وموت المعنى وترقب الموت المقبل (أو ارتخاء حبل المعنى بتعبير الكاتب) الذي لن يمنع الحياة من الاستمرار «غير آبهة بمن رحل» «إلى أن ينفصل جرم تائه في الفضاء فيصدم هذا الكوكب ويفجره شظايا كما تفجرت كواكب واختفت عوالم و»كأنها لم تكن». لكن هذا الحضور المهيمن للموت لا يستبطن أي مديح للتعاسة. إنه مجرد مرآة أخرى نستدرج الحياة لأبهائها لننظر إليها بنوع من «راحة البال»، بِلاَ توتر وَلاَ أوهام. لأننا عشنا عصرنا الذي لا مناص منه «ومتى كان الإنسان يختار عصره؟».
وفي غمرة رحلتنا نحو الفناء جربنا اليقين والشك وانتهينا إلى التسليم بنسبية الأشياء، وقدرتها الدائمة على إدهاشنا بتقلباتها غير المتوقعة.
يعود علي أومليل إلى أمكنة الطفولة، المدينة التي «شيوخها أكبر منها»، والتي نبتت حول ميناء الجنرال الفرنسي، هي الآن، كما يسترجعها الكاتب، خيط عمراني رفيع يخترق غابة المعمورة أيام الجوع والتيفوس والمظاهرات الوطنية. يضع المؤلف ديكور المبتدأ في القنيطرة من دون أن يسميها، كأنها ليست مدينة بعينها بل مدينة مطلقة، وحولها بين البحر والغابة وبحيرة المهدية، بين مغرب يمضي وآخر يولد. يحرس المشهد، ولي صالح (هل وُجد حقاً؟) يصعد قبيل المغيب إلى أعلى شجرة ليطل منها علَى البحر ويؤذن من قمتها لصلاة لاَ يؤمها بأحد، ويعيد تكوينها كما في بدء الخليقة زلزال وطوفان، ومن هذا المبتدأ تولد خيوط متشابكة من التأملات، المدينة كانت قلعة. وكان البحر مجالها الذي تدافع عنه وتصبو إلى الهيمنة عليه، ولكنها خَسرت معركة البحر، والناس عندمَا يخسرون الحرب «ينزلون إلى أغوار النفس» «يتصوفون» «التصوف تربية على الموت».
اختار المؤلف أن يبدأ تأملاته من هذه البنية القارة في الثقافة المغربية. الاحتماء بالنفس ضِد تعقد العالم المادي في الحرب وفي السلم، التصوف الباطني ضد الفقهاء وضد السلطة. التصوف ضد الفلسفة، كما تجسدها بشكل تراجيدي جنازة ابن رشد يتفرج عليها ابن عربي، الجثمان في كفة وكتب الفيلسوف في كفة مُعادِلة وتعليق المتصوف: كتب تعادل جثة!
في موازاة هذه البنية القارة يحفر المؤلف مسارات أخرى للتأمل:
* حول التاريخ: ما الذي نستبقيه وماذا يهرب منا؟ ما هي الرواية وما هي الأسطورة؟ مَا هو الاحتمال ومَا هو اليقين؟
- حول العلاقة مع الآخر في ما قدمه مستكشفون وجغرافيون وعلماء إلى حضارة الغرب: الفرغاني والإدريسي وحسن الوزان وابن خلدون. علاقة تكافؤ مستحيل وتبادل يقتضي منفى الأشخاص ومنفى المعرفة.
* حول الزمن الثوري وسرعته المدوخة، وكيف يستعصي المضي بهذا الزمن إلى مداه، خصوصاً عندما يجد في طريقه زمن النكوص إلى الوراء وهو لا يقل سرعة وانجرافاً عنه. الزمن المسيحي في حضارة الغرب ممهوراً بالبدء والرسالات والنهاية والبعث والقيامة، والزمن الكنفوشيوسي في الحضارة الصينية حيث لا بداية ولا نهاية، إذ كل نهاية هي استئناف».
- حول الفقه والفلسفة كما في تجربة ابن رشد الذي استعمل الفقه لإضفاء شرعية على الفلسفة ولم يجعله من صميمها ولا صنواً لها، معتبراً أن عامة الناس يجب أن يأخذوا الدين في حده الضروري، ويجب عدم حشرهم في التباس المتكلمين الذين يدافعون عن الدين بحجج فلسفية فلا هم خدموا الدين ولا هم خدموا الفلسفة.
*وامتداداً لذلك، حول الفقيه وفيلسوف اللذة. لماذا لم تنشأ عندنا فلسفة للذة، هل لأن الدنيوي لم يستقل عن الديني؟ ولماذا لَم نهتد إلى اعتماد مذهب للمنفعة ملائم لما يطلبه الناس من مسرات ومنافع، والحال أن الدولة لا شأن لها «بتنظيم الآخرة» بل «بتنظيم المنافع» وهل يمكن لمذهب المنفعة العامة أن يوجد لو لم تستقل الدولة عن الدين؟
- حول اللغة العربية في علاقتها بالمقدس وباللذة، كما هي في هلوسات المعري. كيف السبيل إلى تحرير اللغة من «العمى» الذي لا يجعلها مُبصرة إلاَّ عبر الوحي المنزل. وهل يمكن أن نخلص اللغة من «الكهنوت» دون إصلاحها لتصير لذة ومنفعة.
حول استحالة العلاقة بين البداوة والدولة. كما تجسدها التجربة الليبية التي محا ديكتاتورها كل هياكل الدولة حتى إذا انهارت الديكتاتورية لم يجد الفراغ شيئاً أنفع من العودة إلى القبلية.
* حول الحداثة وفشل استنباتها في هذه الأرض. لماذا فشل المثقفون في «تغيير العالم بالأفكار» كما تمنوا أو توهموا. ألأنهم لم يجدوا في الفكر السياسي للفلاسفة القدماء جداراً يسندهم، أم لأن مجتمعاتهم تربة صلدة لاَ تتشرب مَاء الأفكار الجديدة. إذا كان الإصلاح قد ظل في مجتمعاتنا شأناً للفقهاء وليس شأنا للفلاسفة؛ هل يمكن ربطه من جديد بعجلة العصر، وهو مرتد بتاريخه إلى الماضي؟
ـ مسارات كثيرة عاد إليها أومليل بتدقيق بيداغوجي قريب من الحكي ومن التأمل الحر، مما يجعل منها مرايا لأسئلتنا القديمة والحديثة، وأكثر من ذلك مرايا لحيواتنا المتقاطعة. والمؤلف هنا لا يصفي حسابات وَلا يوزع يقينيات، إنه يضع بينه وبين قارئه المفترض زمناً آخر. ليس زمن الحدث أثناء «اشتعاله» ولا زمن الأفكار عند تشكلها، بل زمن «الصمت» الذي هو بتعبير المؤلف «إصغاء للخطوات المقبلة».
كل هذا الحديث المُمْتِع عن الأفكار يشتغل في مناخ سردي نلتقي فيه بملامح من سيرة ذاتية ينقلنا السارد عبرها لنتعرف على الطفل الذي يهاجر «سرياً» من القنيطرة إلى تطوان معقل المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي، ليحصل هناك على جواز سفر يسمح له بالذهاب من أجل الدراسة إلى القاهرة، والعيش فيها إلى حين، أو لنتعرف على المناضل الحقوقي يتحدث لرئيس أمنستي أنترناشيونال عن أول رسالة تسربت من معتقل تازمامارت، ليَبدأ بذلك مسلسل إقفال التراجيديا.
وبين الطفل (14 سنة) في واحد من أجمل فصول الكتاب. والمناضل الحقوقي الذي تزلزله رسالة من الجحيم. سيأخذنا المؤلف إلى بعض من آلامه الكامنة، تلك التي تتمحور حول الفقدان، عندما يتأهب جيل بأكمله للرحيل، منهم من يأتي في تابوت من أمريكا يكاد لا يتسع له قبر مسلم، ومنهم من يبتلع الموت ذراعه، ثم بعد سنوات باقي جسده ليرتاح في قبرين، ومنهم من يعيش في واد ويموت في واد!
فقدان قديم يوم رحل الأخ الصغير صوب ملائكة السماء، أو يوم رحلت الأم إلى مملكة النسيان. وفقدان متجدد خارج كل الأزمنة. فقدان الذين ندفن معهم بعضاً مِنَّا، وفقدان القدرة على الخوض في شيء. لا نريد «أن نشيد قولاً وَلاَ أن نحضر جنازة». لا يروض هذا الألم سِوى الحكمة أو السخرية، وانتظار جرم طارئ يبطش بهذه الأرض، فتنتهي الحياة نفسها، وليس كل واحد منا على حدة، ثم «يموت الموت»!
٭ كاتب مغربي