"ولد البلاد": عزيز رزنارة
زنقة
السقالة بمدينة الصويرة، زقاق ضيق ينطلق من ساحة مولاي الحسن بمحاذاة وكالة
البنك الشعبي
إلى باب السقالة. تشكل البيوت أحد جوانب الزقاق بينما الجانب المقابل هو السور الكبير
للمدينة القديمة جهة "بحر الكلوب" كما يسميه أهل الصويرة. أغلب دكاكين الزنقة
التي كانت أوراشا صغيرة لنجارة خشب العرعار أصبحت بازارات صغيرة تعرض وتبيع منتجات
الصناعة التقليدية من خشب وحلي وملابس وغيرها من التذكارات والهدايا، بينما المحلات
الكبيرة تحولت إلى مقاهي ومطاعم تتبع في الغالب لدور الضيافة التي احتلت الأدوار العليا
من أغلب منازل الزقاق.
هذه
الزنقة ارتبطت في ذهني بذكريات لا يمكن أن تمحى أبدا، لأنها متجذرة في ذاكرتي منذ الطفولة
الأولى حينما كنت أقضي أغلب أوقات العطلة المدرسية في الصويرة. كانت أغلب المحلات الأرضية
أوراشا لنجارة خشب العرعار. وكان أغلب أصحاب هذه الدكاكين يعمدون إلى تحضير خليط الورنيش
بإذابة الصمغ في الكحول وإعداد الغراء الأبيض للصق الخشب على قارعة الزقاق الضيق. وكنت
أجد متعة لا تقاس بالمرور في هذا الزقاق المعطر برائحة خشب العرعار الممزوجة بنسمة
الكحول مع الصمغ والكل مدمج بشكل سوريالي في عبق اليود البحري القادم من المحيط من
وراء السور العالي. هذا الخليط الجميل من الروائح الطبيعية إضافة إلى صوت البحر الصاخب
وغير المرئي خلق في ذاكرتي ترسبات ذهنية كانت تنتابني أحيانا كلما استبد بي الحنين
إلى الصويرة، حتى وأنا بعيد عنها وعن المغرب. كنت، وعلى بعد آلاف الكيلومترات في بلاد
المهجر، كلما تذكرت الصويرة وزنقة السقالة بالتحديد، تجتاح خياشيم أنفي نسمات من هذه
الخليط السحري من الروائح وتسمع أذناي أصوات أمواج تهدر من بعيد.
وحتى
بعد أن احتلت البازارات مكان دكاكين النجارة، ولم يعد بالزقاق بأكمله ولو ورشة واحدة
لنجارة العرعار، واظبت على "السعي" في زنقة "السقالة كلما حللت بالصويرة
ذهابا وإيابا عدة مرات باليوم، فقط لكي أحس بمتعة تذكر الرائحة الجميلة العجيبة وصوت
الأمواج السيمفوني.
في ليلة
العاشر من يوليو 2016، وخلال تواجدي بالمغرب للعطلة السنوية، حرصت على حضور حفل فني
رائع لموسيقى "الفادو" البرتغالية ضمن فعاليات الأيام الثقافية البرتغالية
بالصويرة، وانتشيت كثيرا بأنغام وغناء هذا النوع الحزين من الشذو الذي طبع الروح البرتغالية
منذ زمن طويل. وظلت ترانيم القيثارة الحزينة وتأوهات المغنية البرتغالية تسكنني إلى
وقت متأخر من الليل. وفجأة انتابتني رغبة شديدة في الخروج والتمشي في زنقة السقالة
لإضافة متعة الرائحة الأسطورية إلى تسكنني إلى ما علق بسمعي من ألحان وغناء "الفادو".
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير وكانت فلول المتسكعين في ساحة مولاي الحسن قد
بدأت تخف تدريجيا. وخلت أزقة المدينة القديمة ودروبها من المشاة إلا من قططها التي
تستبيح المدينة ليلا في أمن وأمان.
بدأت
"مسعاي" التقليدي في زنقة السقالة كالعادة ابتداء من ساحة مولاي الحسن، على
أمل أن أصل الباب الكبير لقلعة السقالة ثم أعرج على "درب العلوج" لأعود بعد
ذلك عبر الملاح الجديد إلى الساحة حيث يوجد الفندق الذي تعودت النزول به كلما حللت
بالصويرة. ولأول مرة في حياتي، لم يعتريني نفس الإحساس الذي كنت أشعر به كلما وضعت
رجلي في بداية الزقاق. لم تأتيني الرائحة الأسطورية التي ارتبطت في ذهني بالمكان، وكأن
البحر رحل هو أيضا عن المكان، وراحت معه أمواجه وهديرها الصاخب. واصلت سيري وحيدا داخل
الزقاق وأنا أتحسس بأنفي أي نسمة من نسمات العرعار أو البحر أو مجرد رائحة الجدران
المتآكلة. لا شيء من ذلك، بل فقط رائحة نتنة للبول الآدمي تعم كل جنبات الزقاق. وكأني
بسكان الدور والمحلات كلهم خرجوا ل"يتبولوا " على الجدران.
وعلى
مقربة من الباب الفرعي للسقالة والذي يظل مقفلا دائما، لمحت شابا تبدو عليه، من خلال
ترنحه واتكائه على الجدار، علامات سكرة طافحة أو تأثير مادة مخدرة. كان يضع إحدى يديه
على الجدار لكيلا يسقط، بينما اليد الثانية يمسك بها فتحة سرواله وهو يتبول على جدار
السور الأثري للزقاق. توقفت وراءه دون أن يراني حتى أكمل تبوله، ثم واصلت سيري نحوه
حتى صرت بمحاذاته. انتبه لوجودي بقربه، وكان ما يزال يحاول إقفال فتحة سرواله. كان
يبتسم لوحده ابتسامة السكارى، وأدى لي ما يشبه التحية العسكرية، ثم بادرني بالحديث
دون أن تكون لدي النية بمكالمته:
- مساء الخير.
وجدتها
فرصة لمعرفة أكثر عن هذا النوع من الناس الذين لا يتورعون عن التبول على جدران قاومت
"تبول" الزمن عليها لمآت السنين، ولكنها الآن تترنح تحت حموضة بول من يقطنونها
ومن يفترض فيهم حمايتها والحفاظ عليها. رددت عليه تحيته بمثلها فقط:
- مساء الخير.
ووجدتها
فرصة سانحة لمعرفة المزيد عنه. سألته:
- أنت صويري؟
رد علي
وهو يتابع محاولة إقفال أزرار فتحة سروال الجينز التي استعصت عليه لفرط سكره:
- إيه، أنا ولد البلاد.
وكأني
به أعطاني "الكلمة السحرية" التي كانت تقض مضجعي منذ زمن طويل في علاقتي
بالمدينة وبعض أهلها. ولم أترك الفرصة تفوت، فبادرته بسؤالي:
- ولد البلاد وكتبول على حيوط البلاد؟
ضحك
بصوت عال، ثم قال:
- كلشي ولاد البلاد كيبولو على الحيوط. فين
بغيتي نمشي نبول فهاد نص الليل؟.
ثم سألني:
- وأنت منين؟ جاي سياحة؟
- لا، أنا صويري
- آه مزيان، هي "ولد البلاد"
- لا، أنا صويري ولكن ماشي "ولد البلاد"
أرسل
قهقهة طويلة ويبدو أنه استعذب الحوار معي، فنظر إلي لأول مرة في عيني مباشرة وهو يسأل:
- ما يمكنش، إلى كنتي صويري، راك "ولد
البلاد"
- أنا ماشي "ولد البلاد" حيث ما
كنبولش على البلاد.
ويبدو
أن وميضا من يقظة عابرة مرت بذهنه المثقل بالخمر أو المخدرات، فقال لي وهو يعطيني بظهره
مغادرا دون استئذان وبعد أن أفلح أخيرا في إقفال فتحة سرواله المنحدر إلى وسط مؤخرته
على موضة هذه الأيام:
- كاينة، هادي عندك. الله يصاوب
تركته
يبتعد عني وهو يترنح بين جدران الزقاق الضيق. كان فقط نموذجا من شباب هذه المجموعات
التي تحتل كل ليلة بعض أزقة وشوارع المدينة القديمةبالصويرة، تعاقر الخمر أو الكحول
الممزوج ببعض المشروبات الغازية، أو تتعاطى مخدرات رخيصة لتهرب من واقع مدينة تعيش
في النهار على وهم كاذب، تفضحه بالليل فسحة قصيرة بين شوارعها المترعة برائحة البول
والقاذورات.
خلال
نقاشاتي العديدة مع بعض أبناء المدينة حول حالتها المزرية وخصوصا وضعية الشباب الكارثية،
كان مفهوم "ولد البلاد" يطفو على الحديث كنوع من "الأصل التجاري"(fonds de commerce) لدى بعض الذين لا يملكون من العلاقة مع
هذه المدينة سوى "شهادة الولادة" التي تشهد لهم بأنهم ولدوا داخل المدار
الحضري للمدينة. بالنسبة لبعض هؤلاء، تكفي "شهادة الميلاد" هذه لكي يحتكروا
الحديث عن المدينة، ومشاكل المدينة وحتى الحلول الممكنة لهذه المشاكل. بالنسبة لهم،
أي إنسان، مهما كان تكوينه وتجربته وخبرته، إذا لم تكن له مثل هذه "شهادة الميلاد"
تشهر في وجهه "تهمة" "ماشي ولد البلاد" إذا لم يوافق طرحه هوى
هؤلاء المتحكمين في الجدل البيزنطي الذي لاينقطع حول المدينة ومشاكلها. وباستقراء بسيط
لكل الذين دمروا أو ساهموا في تدمير هذه المدينة واستغلوا خيراتها سواء كمسئولين محليين
أو فاعلين اقتصاديين أوسماسرة وغير ذلك، سنجد أنهم في غالبيتهم يحملون "شهادة
ميلاد ولد البلاد". وقد نجد أن العديد ممن أسدوا خدمات جليلة للمدينة وساكنتها
على امتداد تاريخها ليسوا بالضرورة "أولاد البلاد"، بل ليسوا حتى مغاربة.
فقط قاسمهم المشترك هو حبهم لهذه البقعة الجميلة من المغرب والتي تستحق بكل تأكيد مصيرا
آخر أفضل مما تقاسيه الآن من ويلات وعلى يد بعض "أولاد البلاد".
ولكي
نحسم الجدل نهائيا ونفند بشكل "علمي" و "تاريخي" مفهوم "ولد
البلاد" كما يشيع له البعض، يكفي أن نقرأ قليلا تاريخ المدينة منذ أن قرر السلطان
سيدي محمد بن عبدالله بناءها في سنة 1760 م ويوكل ذلك إلى المهندس الفرنسي "تيودور
كومود". قبل هذه السنة كانت الأرض خلاء من العمران والمدنية إلا من القبائل التي
كانت تستوطن المنطقة من أبناء"حاحا"و"الشياظمة". كما أن الأبحاث
والتنقيبات العلمية أثبتت أن موقع المدينة عرف تواجد الفينيقيين منذ عدة قرون قبل التاريخ
كموقع لصناعة "الصباغة الأرجوانية". ولكن، حسب المعطيات التاريخية والعلمية
المتوفرة حاليا، يمكن الجزم بأن الميلاد الحقيقي لمدينة الصويرة كحاضرة مدنية واستعمال
تسمية "الصويرة" بالذات كان في سنة 1760 م. وقبل هذا التاريخ لم تكن هناك
بهذا الموقع أي عائلة من عائلات "أولاد البلاد" الحاليين. بل إنالسلطان سيدي
محمد بن عبدالله،وبالموازاة مع بناء المدينة ومينائها، كان يخطط لتعميرها لتكون حاضرة
تجارية بالأساس. ولهذا حرص على استقدام العديد من العائلات التجارية المعروفة من مختلف
مناطق المغرب وحتى من خارجه. وكان من بين هؤلاء عائلات يهودية أتت من مراكش وأكادير
وفاس ومكناس وآسفي وغيرها من الحواضر المغربية وحتى خارج حدود المغرب. كما أن الازدهار
التجاري الذي عرفته المدينة بعد تشغيل مينائها، الذي قضى على ميناء أكادير بسوس، جعل
العديد من العائلات المغربية المعروفة في عالم التجارة بمدن أخرى تنزحوتستقر بالمدينة
أو تفتح بها فرعا لتجارتها. هذا النجاح التجاري جعل من الصويرة قاعدة دبلوماسية مهمة
للمغرب بعد افتتاح عدة قنصليات أجنبية بها. وقد سميت العديد من الأحياء في المدينة
بأسماء الجاليات التي قدمت إليها واستوطنتها ومنها "درب أهل أكادير"،
"الشبانات"، "الملاح" وغيرها.
هذه
المعلومات التاريخية المعروفة لدى كل مطلع مبتدئ على تاريخ الصويرة تظهر وبجلاء تام
أن كل العائلات التي استوطنت الصويرة بعد بنائها جاءت إليها من مناطق أخرى، وبالتالي
ليست هناك عائلات أصيلة وأصلية في المدينة التي تعتبر حديثة بالمقارنة مع مدن تاريخية
أخرى بالمغرب، مثل فاس ومراكش والرباط وغيرها. وهكذا يسقط مفهوم "ولد البلاد"
أمام هذه الحجج التاريخية الدامغة ويصبح فارغا من أي مدلول حقيقي.
وتشير
نفس المعطيات العلمية إلى أن موقع الصويرة الحالي كان دائما، وقبل بناء المدينة، يعرف
ظاهرة الرياح الشرقية التي يسميها أهل الصويرة ب"الشركي". كما أنه كان كذلك
موطنا لطائر النورس البحري الذي يعرف محليا ب "عوا". وعليه فإذا كان هناك
من يستحق فعلا لقب "ولد البلاد" بمفهومه التاريخي والاثنوغرافي، فهما
"الشركي" و "عوا"، أما من يدعي ذلك غيرهما فهو مفتر وكاذب.
وعلى
مر السنوات التي تلت بناء المدينة وإعمارها، هاجرت العديد من العائلات الصويرية وأبناء
المدينة إلى أصقاع أخرى في العالم بحثا عن العلم أو ابتغاء للتجارة والريح أو لمآرب
أخرى. وقد حالف الحظ الكثير منهم فاندمجوا في المجتمعات الجديدة التي سكنوها، ومنهم
من ذاع صيته في العديد من المجالات مثل الفنون والأدب والتجارة والإدارة والرياضة وغيرها.
هؤلاء الصويريون نجحوا لأن أحدا لم يواجههم في أوطانهم الجديدة بحاجز اسمه "ولد
البلاد"، بل كان اندماجهم التام في المجتمعات التي احتضنتهم هو السبيل إلى نجاحهم
في الحياة العامة. ويشكل هذا الشتات الصويري أحد أهم العناصر التي يمكن أن تفيد المدينة
غبر الخبرات والإمكانيات التي راكمها أبناء الصويرة المغتربين ومنهم من لا يحمل
"شهادة ميلاد" بالمدينة، ولكنه يحمل "شهادة حب" مسجلة في قلب ينبض
كله شغفا بها.
إن الصويرة
تحتاج إلى من يحبها، سواء من أبنائها أو من يعتبرون أنفسهم كذلك، وليس ممن يروا فيها
فقط بقرة حلوبا يتم استنزافها بكل الوسائل.
الصويرة
تحتاج لمن سيتقطع قلبه حزنا وأسى على جحافل الشباب المتسكع ليلا في أزقتها بين مخالب
البطالة والانحراف بعد أن سدت في وجهه كل سبل العيش الكريم، ثم يعمل جاهدا على تغيير
هذا الواقع المؤلم.
الصويرة
تحتاج لمن لا يرضيه الانهيار الاقتصادي الشامل الذي تعرفه المدينة بعد إقفال أغلب مصانعها
وانحسار حركة الميناء والموت البطيء للصناعة التقليدية.
الصويرة
لن تحتاج أبدا لمن لا تهمه سوى أصوات ناخبيها لينهب بعد ذلك المال العام المرصود لحل
مشاكلها.
أتمنى
أن ينشئ المجتمع المدني "شهادة حب الصويرة" لمنحها لكل من ثبت في حقه أنه
أهل لحبها وحب أهلها، وستكون بكل تأكيد شهادة دائمة وليس لها نهاية صلاحية لا تتعدى
3 أشهر كما هو الحال بالنسبة ل"شهادة ولد البلاد".
عزيز
رزنارة
الصويرة
10 يوليو 2016