مناظر العدوان على أدوات المعرفة من تكسير كمبيوترات وحرق كتب وعبثٍ بمكتبات، ومن تدمير أدوات للفن من أعواد وكمنجات وطبول، ومن تحطيمٍ لتماثيل وآثار، وباسم الدين… تتركنا في ذهول أمام المعنى الذي تحمله هذه الأفعال الخارجة على الإنسانيّة والدينِ معاً. وتذكّرنا بالسواد الذي اتَّشح به ماء دجلة، عندما ألقى فيه المغول بكتب مكتبات بغداد، فظلّ مسودّاً أربعين يوماً! ولربما أنّا بحاجة إلى حدادٍ لأربعين سنة على ما يجري من انتهاكات للتحضُّر وللعلم وللفنّ وللثقافة وللمعرفة (ناهيك عن قتل البشر بالمجان، وفي عقر بيوتهم)، آخرها عدوان غوغاء متأسلمين من أتباع أردوغان -فيما يبدو- على مكتبة لبيع الكتب، وهدم رفوفها، وتكسير واجهاتها، وتمزيق كتبها، وباسم الإسلام طبعاً. نذكر هذه الحادثة التركية لأنها تنتمي إلى الأيديولوجيا نفسها التي تغذي نفوس أطفالنا العرب والمسلمين في طول البلاد وعرضها؛ تصحُّرٌ في الأرواح يسهل بعده تسيير القطيع نحو ماء آسن!
وحتى يكون الهجوم بهذه الحدة والبسالة على أكثر إنجازات البشرية سِلماً، وأعني الكتب وأدوات الفنون والآثار، لابدّ أن الأشاوس المهاجِمين قد تخرجوا من كتاتيب أو مدارس أو دروس أو فيديوهات أو فضائياتٍ أو على أيدي دعاةٍ يكفّرون المعارف الإنسانيّة كافّةً، باستثناء علوم القرآن، ومن هذه فقط ما قال به أعلامٌ بأعينهم وأصحابُ اتجاه تسطيحيّ حَرفِيٍّ متزمّت للدين أمثال ابن تيمية وابن قيّم الجوزيّة وأبو الحسن الندويّ وأبو الأعلى المودوديّ وسيد قطب ومحمد قطب وتلامذتهم الذين يملأون الجامعات والمعاهد والجوامع والروابط الثقافيّة اليوم.
وحتى يكون الهجوم على التحضُّر بهذه الحدة، فلا بدَّ أن مساقاتٍ دراسيّة مثابرةً، ومعسكرات فتيانٍ مليئةً بالكراهية والحقد على التنوّع والاختلاف، قد أُنفِقَت عليها الملايين بتمويلٍ خارجيٍّ مريب، وخُطِّطَ لها بليلٍ، حتى خرجَ هذا الصنف المتوحّش من البشر، الذي يحكمه الجهلُ أولاً، والبغضاء ثانياً لكل قيم الرفعة والجمال ونور العلم والإنسانيّة. وهو صنفٌ ليس قليل العدد، يبدأ بترعيب الأطفال (يأخذون الأطفال في رحلاتٍ إلى المقابر من أجل عظة الموت)، وينتهي بشحن الهمم المراهقة للدفاع عن الدين “المستَهدَف”، بحمل سلاح التكفير أولاً، الذي هو المقدّمة الطبيعيّة لحمل السلاح الفعليّ القاتل والمدمّر، وشقّ عصا الطاعة على المجتمع والسلم المجتمعيّ.
ومن المقدّمات المخيفة للعنفِ ضدَّ الكتب وأهلها، وضدّ الفنون وأصحابها، وضدَّ التفكير وإعمال العقل، وضدِّ المرأة ومع تشييئها، وضدّ الأديان والمِلل الأخرى وأتباعها، والحضارات وتاريخها، تلك البرمجةُ لعقل الطفل القائمة على فهم الكون من خلال فكرتي الحلال والحرام. ومع أنَّ الفقه الإسلاميّ صريحٌ في موقفه من هذه المسألة، ومن أن الأصل في الدين الإباحة، وأن التحريم طارئ ومحدود، إلا أنه بات في التطبيق سابقاً على الحلال، غالباً له في التفكير والاعتبار. وإلا فكيف نفسّر ذلك العدد الهائل من المواقع والفضائيات والدعاة والبرامج التي تستقبل أسئلة الحرام والحلال، بل تقتصر عليها؟ بمعنى أن المسلم والمسلمة قد تحولا إلى كائنيْن مسلوبَيْ الإرادة، غير قادريْن على السلوك الطبيعيّ الفطريّ في الحياة من دون قائدٍ أو واعظٍ أو داعيةٍ أو مفتٍ! وصار لدينا كائناتٌ يسهلُ العبثُ بعقولها وبعواطفها، وبتوجيهها إلى هذا الركن أو ذاك من العنفِ والكراهية بل والإجرام.. ناهيك أنها أدواتٌ رخيصة في أيدي أفرادٍ عتاة، يدفعون بها إلى الأتون، في لعبة السيطرة السياسيّة القذرة.
الكتب المتنوّعة تبني العقل، والفنون تهذّب السلوك والوجدان.. ومن عاداهما فهو خارج الطقس البشريّ، وإلى الوحش أقرب. وهو تماماً ما يريده دعاةُ الكره والتدمير.
أَمَا من التفاتةٍ إلى محتوى التربية أيها الناس؟
دعونا لا نفقد الأمل..!
______
*الغد