-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

صورة المهدي الموحدي في رواية "ثورة المريدين " بقلم : إبراهيم أزروال

صورة المهدي الموحدي  في رواية "ثورة المريدين " بقلم : إبراهيم أزروال
كيف نقرأ التاريخ السياسي المغربي  روائيا ؟ هل يمكن إضاءة الحاضر بكشاف
الماضي ، والماضي بأنوار الحاضر  ؟ ما حدود التخييل في الكتابة التاريخية ؟ هل أفلحت رواية "ثورة المريدين" للروائي سعيد بنسعيد العلوي  في استنطاق سيرة المهدي الموحدي ومشروعه الفكري والسياسي  ؟ هل يمكن الاعتماد أساسا على أخبار المهدي كما صاغها أبو بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق ،في قراءة تجربة تاريخية كبرى ،اجتمعت فيها الحقائق والاستيهامات والخيالات الكبرى ؟
هل تفسر السيرة وحدها ،مشروع  محمد بن تومرت ؟هل يمكن الركون إلى تأويل المشروع تأويلا نفسانيا أو جنسانيا أو سياسيا  ؟ما المتحكم في الاختيارات الفكرية والسياسية للمهدي  ؟هل يمكن اختزال هذا  المشروع في توظيف الدين في السياسة  واستعمال كل الأدوات والوسائل الممكنة لنيل السلطة والتفرد بمباهجها ؟ما معنى التركيز على الجفر وضرب الرمل واللامعقول والخرافة  في سيرة المهدي ؟أليست تجربة المهدي تجربة تاريخية ،لا مغامرة فقيه سوسي طموح  ومحتال؟  ما المشترك بين تجربة تاريخية كبرى ،وهبات شبابية ،من سماتها المائزة  غياب المشروع الفكري  والسياسي الواضح والتعويل على الترميق وعلى تطوح النظام السياسي القائم (تونس ومصر)؟
ثمة مشتركات بين الحاضر والماضي بكل تأكيد؛إلا أن ثمة فوارق بينهما لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها أو إنكارها.لا يمكن التركيز على الجوانب الوسيلية أو البرغماتية في تجربة المهدي ،واعتبارها ،صلب المشروع الموحدي ،وربطها بتحولات الحاضر وصراعاته وصرعاته الفكرية والإيديولوجية  .تتسع تجربة المهدي ،للفكر والدعوة والخرافة واللامعقول والأسطورة والبرغماتية والسياسة بالطبع ككل تجارب العصر الوسيط  ؛إلا أنه من الضروري التمييز بين نصاب كل جانب في هذه التجربة التاريخية الإشكالية .
تطرح رواية "ثورة المريدين"أسئلة إشكالية كثيرة،حول قراءة وقائع التاريخ وعلاقة تلك الوقائع بما يجري في الساحة السياسية والفكرية راهنا.
 فقد قدمت الرواية المهدي في صورة سياسي برغماتي ،لا يتورع عن استعمال كل الوسائل المعقولة واللامعقولة ، المشروعة وغير المشروعة لبلوغ مآربه السياسية وتحقيق طموحاته الشخصية.قدم كسياسي داهية ، بارع في  التخطيط وحبك الخطط وإرباك الخصوم  وإشاعة الفوضى واهتبال الفرص .ورفع إلى مقام النموذج السلبي،المتكرر في كل زمان مختل الموازين والمعايير ، والمخترق سجف الأزمان ليظهر مجددا في ميدان التحرير ،في إحدى لحظات ارتجاج اليقين السياسي وعودة التسلف بقوة إلى  مقدمة الحقل السياسي والاجتماعي.
فالمهدي ليس مغامرا من المغامرين البسطاء  ،بل هو صاحب مشروع تاريخي للاستعادة و"التجديد ".كان من الممكن ،استقراء واستجلاء ممكنات وحدود  ومآزق هذا المشروع  في الرواية عوض الركون إلى مسايرة طرائف وغرائب الروايات أو إلى تأويلات مبتسرة أو مغالية في الشخصنة  أو الأسطرة أو التبخيس  .
بنى محمد بن تومرت مشروعا فكريا وسياسيا ،اعتمادا على مرجعيات وأفكار مختلفة المآتي والمحاضن.لقد جمع بين النظر والعمل ،بين بناء المشروع الفكري وإعداد الوسائل التنظيمية  لتحقيقه عمليا.لقد نهل من الأشعرية ومن الاعتزال ومن التشيع ومن التصوف ،إلا أنه صاغ  أفكاره و مقتبساته صياغة موحدة ومركبة  .لقد تعامل مع المذاهب والفرق ،تعامل المستقل  الحالم بنحت  مجرى آخر في صخر التاريخ .ولذلك ،لم يكن أشعريا ولا غزاليا صرفا ،يكتفي بإشاعة الفكري الأشعري ،كما هو حال أبي بكر بن العربي ،تلميذ أبي حامد  الغزالي مثلا . ولذلك لا يمكن إنكار استقلاليته الفكرية ،النسبية بالطبع ، وقدرته على التكييف والتبيئة والتركيب.
غلبت الرواية الدهاء السياسي والتنظيمي على الدهاء الفكري والإيديولوجي .ولذلك ،لم يلتقط الفصل المخصص لمناظرة المهدي لابن وهيب،الفرادة المعرفية للمهدي بالقياس إلى فقهاء المرابطين ،الغارقين في التقليد والفروع واجتناب المغامرات المعرفية .
لا يمكن تحريك الجموع بالاشتغال برد الفروع إلى الأصول أو بإصدار الفتاوى والبت في النوازل ،بل بتحريك كوامن المخيال الديني ،وبإعادة الاعتبار إلى التأويل.تخطى المهدي المعيارية الفقهية ، ليتبنى تأويلا منفتحا على أكثر من معين أو مورد معرفي ومنهجي.
(...وكان على مذهب أبي الحسن الأشعري في أكثر المسائل ،إلا في إثبات الصفات ،فإنه وافق المعتزلة في نفيها وفي مسائل قليلة غيرها .وكان يبطن شيئا من التشيع ،غير أنه لم يظهر منه إلى العامة شيء . ) -1
ولذلك لا يكفي استنطاق سيرة المهدي كما كتبها البيذق  أو رسم خطوطها العريضة عبد الواحد المراكشي وابن القطان وابن أبي زرع وابن خلكان ،بل لا بد من استنطاق كتابات المهدي ومرجعياته وواقع ومآلات مشروعه الفكري والسياسي في المغارب .
إن مشروع المهدي غير مرتبط –حصريا-بسيرته ،الواقعية (كما كتبها البيذق ) وليس في حاجة إلى سيرة  مفترضة ( السر المرقوم في خبر المعصوم  )؛فهو مرتبط ،على الحقيقة ، بمجمل أفكاره وتقرايراته وأفعاله وبممكنات المتخيل الديني  والاجتماعي في زمانه.
اعتقد المرابطون ،أن إغلاق باب الجدال والمناظرة والانقياد للإتباع ،سيذهب الشقاق ويقضي على الاختلاف والانقسامات ؛إلا أنهم تناسوا ضرورة التناظر ،وحتمية امتلاك آليات الجدل والحجاج ، في وسط متأثر ،بشكل مباشر أو غير مباشر ، بالمشهد الفكري الكلامي والسياسي  بالمشرق.أضعف التورع النظري والتورع العملي (عدم تجاوب علي بن يوسف مع رأي مالك بن وهيب)،أسس الدولة  المرابطية وحرمها من وسائل الدفاع عن النفس ،والتصدي لداعية متوثب ومقتنع ،جوهريا ،برسالته النجاتية وشوقه المهدوي.
لقد حفلت التومرتية كما لا يخفى بالتأويل والاختلاف،وذهبت بصراع القوة والمعنى شوطا أبعد ،فيما رام فقهاء المرابطين ،الاكتفاء بصيغ فكرية أدائية وتفريعية ، تتجاهل كليا  التأويل، أي بناء معنى النص ودلالة الاعتقاد بناء جديدا ،مستضمرا مجمل المعارف والأفكار والآليات المكتسبة في خضم التثاقف مع الفكر الإغريقي والفارسي.
(وكان جل ما يدعو إليه علم الاعتقاد على طريق الأشعرية .وكان أهل المغرب –على ما ذكرنا –ينافرون هذه العلوم ، ويعادون من ظهرت عليه ، شديدا أمرهم في ذلك ؛فجمع والي المدينة الفقهاء وأحضره معهم ، فجرت له مناظرة كان له الشفوف فيها والظهور ؛لأنه وجد جوا خاليا ،وألفى قوما صياما عن جميع العلوم النظرية خلا علم الفروع .) -2
فقد أدرك مالك بن وهيب ،الخلفية المعرفية والمنهجية للمهدي ،والمفاعيل السياسية والاجتماعية الممكنة لتلك الخلفية المرجعية   في محيط ينهض على المقدس وعلى السلطة القبلية ويتفاعل ،بحماسة بالغة ،مع الأشخاص الكريزميين.
أدرك مالك بن وهيب ،إذا ،دهاء المهدي وقدرته على تحريك المتخيل الجماعي ؛وأدرك بجلاء ،استعداد المصامدة ،للتجاوب مع خطاب نقيض لخطاب فقهاء المرابطين وسياسة مخالفة لسياسة الصنهاجيين .
الكلام ولا سيما الأشعري  أقدر على تحريك المتخيل الديني من الفقه والأصول ، بحكم انطوائه على التردد والتناظر والتجادل والتصارع والانحياز الوجداني والفكري.
لقد استطاع المهدي استثمار ممكنات المتخيل القبلي  وممكنات المتخيل العقدي وحاول إقامة الروابط بينهما دون إفقاد أي منهما استقلاله الظاهر في المغارب .
الحقيقة أن استجلاء البعد الآخر للتجربة ،لا يحتاج إلى افتراضات نظرية (كتاب آخر للبيذق على غرار كتاب ارسطو حول الضحك في اسم الوردة لأمبرتو ايكو) ،بل إلى قليل من التأمل في بنية فكر المهدي ( أعز ما يطلب ) و بنية الفكر الأشعري والمتخيل المهدوي بالمغارب والمشرق وفي واقع ومصير الدولة الموحدية.ومن الضروري استحضار النقد الرشدي  المباشر وغير المباشر لفكر المهدي(نقد الأشعرية والغزالي ) وللتجربة السياسية للدولة الموحدية  رغم انسلاكه ضمن نخبتها ( الضروري في السياسة – مختصر كتاب السياسة لأفلاطون ).
فالمهدي منقاد  للمتخيل الديني ،وللطوبى الدينية ؛وليس" المذهب " والدهاء  الفكري والسياسي إلا وسائل في خدمة الطوبى .ليس من الحصافة ،غض الطرف عن الطوبى المحركة والمجيشة للمهدي ومبايعيه ،والتركيز فقط على الدهاء السياسي والبراعة التنظيمية والتكتيكات والمناورات  .فقد أدمج الجماعة (النواة الصلبة للمشروع الموحدي ولا سيما أهل العشرة) في  استغراق طوباوي شبه صوفي ،وحملها على التضحية بكل شيء من أجل إنجاز الطوبى المتخيلة.لا ننسى أن  عبد الله الونشريسي المسمى بالبشير المتلون والمحتال كما قدم في الرواية ، قتل في معركة البحيرة.
(يريد امتلاك القوى جميعها  .سلطة العلم ،سلطة الحكم ، بل و يتيه عشقا  في استكناه سر الغد والتمكن من علم الرمل.طلب الجفر حتى وجده .فيه أخبار الغد وما بعد الغد ،كل ما سيكون إلى آخر الزمان .عالم ، ماكر ،سفاك.ينتقل بين العوالم والأطوار كلها ...يقتحم غير الممكن ، يتخفى في أطمار الفقير وسمة المجنون الذي رفع عنه القلم وصورة المعصوم يتبرك به وتكون طاعته فوزا وشفاء ...) -3
لقد استطاع المهدي ،بدون شك ، استثمار ممكنات المتخيل القبلي ؛إلا أنه برع أكثر في استثمار المتخيل العقدي ،وتأجيج الترقبات والمنتظرات والتطلعات المهدوية  المبثوثة في المغارب منذ قرون.
لقد استطاع استمالة الجموع ،بخطابه المختلف  ومسلكيته شبه الصوفية ،وقدرته على الربط بين العلم والعمل من خلال الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.ولولا قدرته على استثمار الرمزي ،لما تمكن من تعبئة الجموع رغم قساوته المفرطة وجنوحه الرهيب إلى القتل الفردي والجماعي كما في "التمييز"وتصفية بعض القبائل.
(فأقاموا (يقصد قبيلة هزميرة)على ترك عدتهم زمانا ، وقد  كان الإمام رضي الله تعالى عنه خاف من جهتهم لكثرتهم ومنعتهم ، وكوشف من حالهم بما اقتضى له تدقيق النظر في أمرهم ،فوصلوا في بعض الأيام إلى الوعظ دون العدة ، فما شعروا إلا و أصحابه الموحدون أعزهم الله تعالى ورضي عنهم معهم العدة قد أحاطوا بهم ، فقتل منهم في ذلك اليوم نحو من خمسة عشر ألفا ،وقتل من ذلك القبيل كل من حضر في ذلك اليوم بتينملل ،وسبى حرمهم ، وغنمت أموالهم ، فقسم أرضهم وكرومهم بين الموحدين من أصحابه ،وأصفى ديارها جوائز جوائز :لكل جائزة قبيلة . ) -4
تأويل تجربة المهدي جنسيا في الرواية  ،بتفسير الحصر بالعنة أمر لا تقره اللغة ولا غايات  المؤرخين الموالين للفكرية الموحدية (ابن القطان وعبد الواحد المراكشي ... الخ).
(والحصور : الذي لا يقرب النساء حصرا لنفسه أي منعا لها من الشهوات .) -5
فإفادة ابن القطان ،تأتي في مقام تعداد الفضائل والمزايا والقدرات الاستثنائية ، لا في مقام التشنيع أو الذم .ولذلك ،فتأويل تجربة المهدي تأويلا جنسانيا ،ينافي منطوق ومقصود الروايات التاريخية المعتمدة من جهة ،ومسار تجربة المهدي الفكرية والسياسية من جهة أخرى.ويتجاهل دور التعفف الجنسي ،في السيرورة المسارية للأشخاص الاستثنائيين كما ترسخت في التقاليد السامية بتأثير غير مباشر من الروحيات الهندية .
(ربعة ،مفلج الثنايا ،قليل اللحية ، في خنصر إحدى يديه شبه الخاتم من اللحم ،حصور لا يأتي النساء .)6-
ولذلك لا يمكن اعتبار تشدده في رفض الاختلاط بين الجنسين ،أمارة دالة  على صحة التفسير الجنساني لسلوك المهدي.يكفي قليل من التأمل في الروحيات السامية ،لإدراك حساسية قضايا الجسد والجنسانية وجسامة العقوبات المترتبة على انتهاكها وخرقها في شرائعها.
(ذاك هو المهدي ،سجين العجز التام .ليس له ولد ، فهو يجد الولد في عبد المومن بن علي ، وليست له زوجة حيث إنه كان عاجزا عن إتيان النساء فقد كان يكرههن .) 7-
تسم الرواية ابن تومرت بالاحتيال والعنة والتآمر ،بالاعتماد على روايات تاريخية منتقاة بعناية ،ومفارقة لمعنى وروح التومرتية ولشروط إمكانها.فبدلا من إضاءة الروايات التاريخية ،المساندة والمعارضة ،وفحصها في ضوء مقاصد التومرتية ومتخيلها ،مالت الرواية إلى تبني بعضها ،وتأويلها تأويلا بعيدا ،منافيا لمقتضيات وملابسات تشكل التومرتية وتعضيها فكرا وممارسة.ففرضية الاحتيال ،تعتم ولا تنير،تبسط ولا تلم بدعوة إشكالية يكتنفها الغموض ،وتستثير العواطف والأهواء.
(....هو بحالة من التقشف والحصر والصبر على المكاره والتقلل من الدنيا حتى قبضه الله  وليس على شئ من الحظ والمتاع في دنياه ، حتى الولد الذي ربما تجنح إليه النفوس ،وتخادع عن تمنيه.فليت شعري ما الذي قصد بذلك إن لم يكن وجه الله ،!وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله.) -8
لقد جمع ابن تومرت بين المعنى والقوة ،وطالب الجموع المبايعة بالطاعة غير المشروطة .إن الجدال والتناظر والاختلاف ،ذات جدوى كبيرة في مصاولة ومصارعة الخصم الفكري والسياسي ، ،لا في بناء الذات وتقوية صفوفها.ولذلك ، أسرف في ترهيب الحلفاء ،وأفرط في تعنيف المخالفين والمتشككين في شرعية قراراته واختياراته واصطفافاته.ما كان المهدي قادرا على فرض مسلكيته وشروطه الاجتماعية الصارمة ،لولا اقتناع الجموع بصدقه وشرعية مشروعه المندرج  ضمن مشروع نجاتي أكبر.يرجع الافتتان بالمهدي ،بالتحديد ،إلى قدرته على استثارة المتخيل الديني والمتخيل القيامي لدى الجموع ،وإلى كبر رأسماله الرمزي لدى فئات اجتماعية وقبلية باحثة عن المعنى الأكبر وعن التسيد على الأغيار والمخالفين ،قبليا وعقديا ومذهبيا.
(ولم تزل طاعة المصامدة لابن تومرت تكثر ، وفتنتهم به تشتد ،وتعظيمهم له يتأكد ، إلى أن بلغوا في ذلك  إلى  حد لو أمر أحدهم بقتل أبيه أو أخيه أو ابنه لبادر إلى ذلك من غير إبطاء . وأعانهم على ذك وهونه عليهم ما في طباعهم من خفة سفك الدماء عليهم.وهذا أمر جبلت عليهم فطرهم واقتضاه ميل إقليمهم  .) -9
خصصت الرواية فسحات متسعة ،لانشغال المهدي بالجفر و أسرار المكتبات البغدادية ؛ويكاد يخيل للقارئ أن المهدي ما انشغل ،أثناء ترحاله المشرقي ،واحتكاكه برجالات الفكر والعلم والسياسة (أبو بكر الشاشي والكيا الهراسي  والطرطوشي.... إلخ )،واصطدامه بالصراع السني –الشيعي هناك  ،إلا بأسرار الجفور وألغاز الأسفار المخفية في سراديب الأمراء السلجوقيين.تغيب  مجالس ومناظرات وآثار الصراع بين الفرق والمذاهب  في الرواية ، ليحضر البحث عن الأسرار والجفور وتبادل "الوثائق" السرية والسحرية.
لا تلقي الرواية أي ضوء على ،تأثر المهدي بالزخم والتطاحنات الفكرية بين الفرق والمذاهب والتيارات في المشرق ؛ومن المعلوم أن تلك الاختلافات تنصب في جزء كبير منها على قضايا معرفية ومنهجية وسياسية .لا يمكن فهم انفتاحه على اللامعقول خارج مقتضيات المتخيل المشترك  بين كل الفرق الإسلامية ،والنظائم المعيارية المحال عليها .فالخارق واللامعقول ،جزء من النسيج الفكري للتومرتية ، لا حجر الزاوية في بنائها ونظيمتها .
تصطدم كتابة رواية تاريخية حول المهدي ،بعقبات مرتبطة بالروايات الرائجة عنه ،وهي إما تقديسية أم تنبخيسية ،منافحة تقريظية أم ذمية تشنيعية ،وبعقبات مرتبطة بممكنات وحدود التأويل والتحيين والترهين.ولعل العائق الأكبر ،هو عقد المقارنات والبحث عن المتشابهات  بين الماضي والحاضر ،لمجرد اتفاق الفاعلين على استعمال  بعض المفاهيم والمصطلحات والآليات. وما أبعد التومرتية ،بوصفها عقيدة وطرق عمل ، على الحقيقة ،عن أفكار ومتخيل شباب ميدان التحرير! .
ينهض الاحتساب في العقيدة التومرتية على بناء فكري ،مختلف ،عن البناء الفكري لجماعات الإسلام السياسي .إن جوهر العقيدة التومرتية هو التوحيد ،أي التأويل الأشعري –الاعتزالي للذات والصفات.ولا ننسى أن عقيدته ،تشربت رغم سنيتها البارزة ،بعض النزوعات العرفانية ،الشيعية والصوفية.لا تفهم الأفكار والتوجهات (الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) خارج نظيمتها أي خارج ممكنات النسق الفكري الذي تندرج فيه .
والحقيقة أن رواية "ثورة المريدين "،غاصت في أجواء الإغراب القديمة ،ولم تفلح في عقلنة الروايات واستخلاص المعقولية التاريخية الثاوية فيها .فالمهدي- في الرواية - مهووس بالجفر المنسوب لجعفر الصادق وبخط الرمل  ،واختياره لعبد المؤمن الكومي يتم استنادا إلى تأويل ألغاز ذلك  الجفر ،وتواطؤه مع عبد الله البشير تكريس للخرافة والأسطرة في وعي الجموع .والحال أنه لا يمكن استمالة ناس عارفين بالقضايا الكلامية والفقهية مثل الونشريسي ،وإقناعهم بمشروع  آخر للتجديد،باصطناع أساليب خداعية وحيل لا تنطلي إلا على الأغمار.
(حرب الملثمين المجسمين ليست لعبة ولا نزهة .الحرب خدعة .نحن موحدون ،ولا ننجح أن نكون كذلك إلا بالقدر الذي نعرف فيه كيف نأخذ بأطراف العلم ، والصلاح ، والخديعة أيضا يا عبد الله . ) -10
لم يختر المهدي تنمل ،لاعتبارات سحرية ،كما توحي الرواية بذلك ،بل لاعتبارات استراتيجية وقبلية.تتحكم في اختيارات المهدي ،المعرفة والخبرة بالأشياء والأشخاص  والتوازنات القبلية والعاطفة الدينية والدهاء السياسي ،لا ألغاز الجفور والمنامات والرؤى.
(ماذا فعل المهدي إذا انتظمت الحروف الخمسة التي طالعها في الجفر ؟ تاء، نون، ميم ، لام ، ياء.انتظمت لتغدو :تينمل –قاعدة الحكم ،القرية المعلقة في قرون الجبال . ) -11
تقود مسايرة طرائف المرويات إلى الاستطراف ؛والحال أن منجز المهدي ،الفكري والسياسي ،بعيد عن ذلك بمسافات.إن المهدي ،نتاج الأشعرية والغزالية والروح الصوفية،ومشروعه مرتبط بشكل وثيق بإيحاءات وإملاءات هذه المرجعيات.ولذلك كان من الضروري ،استكشاف  بنية فكر المهدي ،واتصالها وانفصالها عن المرجعيات السائدة ،في المشرق والمغرب الإسلاميين.
فكما يمكن فهم مسار المهدي بما قبله وهو أساسي وجوهري (بروز الأشعرية والصراع السني –الشيعي وآثار إحراق المرابطين لكتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي وحضور المتخيل المهدوي في المغارب  ) ،يمكن فهمها بما بعدها ،أي بمجمل التحولات الحالة بالدولة الموحدية منذ لحظة المؤسس الفعلي عبد المؤمن إلى المأمون الرافض لعقيدة العصمة.
ليس المهدي مهووسا بالسلطة والحكم ،بل باستعادة الطوبى والمثال الدينيين.كان طوباويا أكثر من اللازم ،ولذلك كان قاسيا وجذريا في اختياراته ،وفي مسلكه ،ومتطلبا حتى في التعامل مع نفسه وجسده.كان يروم تعميم الطوبى ،فأحدث المآسي ،ووضع لبنات دولة لم تدم طويلا ،وبدأ إصلاحا فكريا ،لم يستمر بعده .
ألا يكمن ضعف مشروع المهدي في كريزماه وفرادته كقائد فكري وميداني؟يمكن للشخصية الاستثنائية ،أن تحفز وتستميل ،إلا أنها غير قادرة على بناء تاريخ جديد على أسس جديدة في غياب فكر جديد يعيد النظر في النظائم السائدة ويبني إبدالات جديدة بروح متوثبة وعقول متحفزة للاستكشاف لا للاستعادة .
كان من الممكن نقد التومرتية في بنائها الفكري وإجراءاتها السياسية وتدبيرها للفعل ،لا الإشاحة  عن الجوهري ،للاهتمام بجوانب عرضية ومقارنات غير مسوغة واستطراف قد يفيد المخيلة الجامحة  لكنه لا يفيد العقل ولا الوجدان .

الإحالات :
1-(عبد الواحد المراكشي ،المعجب في تلخيص أخبار المغرب ،اعتنى به :صلاح الدين الهواري ،المكتبة العصرية ،صيدا-بيروت ،الطبعة الأولى 2006،ص.141).
2-(عبد الواحد المراكشي ،المعجب في تلخيص أخبار المغرب ، ،ص.139).
3-(سعيد ينسعيد العلوي ،ثورة المريدين ،المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، الطبعة الأولى 2015،ص.184-185).
4-(ابن القطان المراكشي ،نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان ، تحقيق :محمود علي مكي ، دار الغرب الإسلامي ، تونس ، الطبعة الأولى 1990،ص.139،140) .
5-(الزمخشري ،تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، رتبه وصححه :محمد عبد السلام شاهين ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان،الطبعة الأولى 1995،ج1،ص.354)
6- (ابن القطان المراكشي ،نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان ،ص.90) .
7-(سعيد ينسعيد العلوي ،ثورة المريدين ، ،ص.184-).
8-(ابن خلدون ،المقدمة ، تحقيق : درويش الجويدي ، المكتبة العصرية ، صيدا –بيروت ، 2002،ص.33-34).
9-(عبد الواحد المراكشي ،المعجب في تلخيص أخبار المغرب ،ص.143).
10-(سعيد ينسعيد العلوي ،ثورة المريدين ص.142).
11-(سعيد ينسعيد العلوي ،ثورة المريدين ، ص.206).

إبراهيم أزروال










عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا