مع المزيد من الضوضاء، نتألم في صمت، نتألم لأننا لا نسمع أصواتنا الداخلية، نتألم لأننا لا ننصت بحب وروية، نتألم لأننا نتسابق مع الزمن والظروف والفرص بدعوى
أنها قليلة.
مع المزيد من الضوضاء، نكتم أنفاسنا ونصارع الألم والخوف من الفشل، هو خوف من الخوف، وكأنه خوف مرضي. و نرجو دائما النجاح بإلحاح، غير أن ما نقدمه ونفعله لا يرقى إلى مستوى هذا النجاح. وما دمنا نهتم بالنجاح وبالفشل فإن السؤال الخفي: ما المطلوب النجاح أم غياب الفشل؟
لا شك أن النفس البشرية ترفض وتستنكر النعوت الجاهزة، ترفض وجود عيب لصيق بشخصها، لا تقبل نعت الفاشل كونه مرضا مزمنا قد يصيبها فتخاف منه، ومحاولة منا الوعي بالذات في علاقتها بالآخر، ومن شدة الخوف كثيرا ما نتكلم مع أنفسنا دون غيرنا من الناس بنوع من الكتمان و التحفظ:
هل أنا فاشل؟ وفي ذلك بحث ضمني عن نجاحي وبشغف، لا ندري لماذا لم يطرح السؤال: هل أنا ناجح؟
ويبقى دائما الجزء الفارغ من الكأس حاضرا في تفكيرنا وثقافتنا. وفي الحقيقة ليس هناك من هو ناجح بالمطلق ولا من هو فاشل بالمطلق، بل هناك عقبات وعراقيل تواجهنا في حياتنا، وبالعمل والكد نتغلب عليها. لكن ما السر وراء العبقرية؟هل هي معطاة أم مبناة؟هل العبقرية هبة إلهية؟أم أن المسألة تتعلق بصفات الشخص وبالتنشئة الاجتماعية التي تفتح المجال لبناء الذات؟
هي أسئلة طرحتها الدول العظمى، دول تبحث كيف تدعم الفاشل ليصبح ناجحا، دول تبحث في التنمية الذاتية بعدما حققت تطورا كبيرا في العلوم الحقة من رياضيات وفيزياء و العلوم الطبيعية. لكن لا زال الإنسان في العلوم الإنسانية لم يواكب هذا التطور، لا بد إذن من فتح المجال لبناء الذات من قدرات ومهارات، والبحث في مفاتيح النجاح من صبر و التزام وانضباط ومعرفة وتخطيط وفعل وتوقع ودوافع...
تتبعت سيرة أينشتاين وفرو يد وإديسون....و اللائحة طويلة، هناك شخصيات غيرت الفكر الإنساني بأفكارها ولم تستطع أن تغير من ظروفها وقد كان الفشل واردا دائما، و لكن بنوع من القبول والإصرار على المواصلة: هناك من أحرقت كتبهم، ومن أحرقت مختبراتهم ومع ذلك كانت هناك استمرارية.
لقد انشغل الكثير بسر عبقرية أينشتاين، ولقد سئل الرجل فقال:"كنت أبقى مع الأشياء لوقت طويل" وقال أيضا "الخيال أهم من المعرفة" و يضيف ليتمم وصفة النجاح مبرزا أهمية السؤال "كنت أطرح أسئلة الأطفال الصغار" لقد انطلق من الصبر إلى تجاوز الواقع وعالم المستحيلات ثم الدخول في عالم الممكنات بخياله كقدرة يمتلكها الإنسان دون غيره، فيعيش في عالم من الإستيهامات كبداية تحفيزية للانطلاق في اتجاه الواقع
لقد أجريت الكثير من التجارب على أينشتاين في حياته ولم يفهم سر عبقريته، الشيء الذي يفسر سرقة دماغه قبل دفنه مباشرة بعد وفاته. والحقيقة أنها كانت أعظم سرقة في التاريخ، وقسم إلى قطع من أجل خدمة الإنسان وفك اللغز- وإن كان ذلك وصية منه في حياته كما يقال- ، ليتوصلوا في النهاية إلى أنه يتوفر على خلايا غروية أكثر من الخلايا العصبية، وهي خلايا تتقوى بفعل التدريب، لا مفر إذن من الإصرار على النجاح و التحدي.
وأعود لأحاور النفس البشرية: هل نحن نتيجة لظروفنا أم أن الظروف نتيجة لأفعالنا وتركيبتنا النفسية؟
ما الذي يجعل من المعاق بطلا؟ هل هي قدرته الجسدية أم أن الأمر يتعلق بذلك الجزء المظلم في تكويننا؟
و لكن لم الانشغال وأنا أعرف وصفة سحرية رائعة وفي غاية السهولة للنجاح، أعرف شخصا لم يفشل في حياته، معرفة جيدة وكلنا يعرفه جيدا، شخص لم يعرف لا النجاح ولا الفشل، لقد أقصى نفسه من اللعبة واعتبرها غير مجدية ومع أننا يكفينا دائما كما نقول شرف المحاولة. إن المسألة مسألة قرارات،
والوصفة السحرية لتفادي الفشل هو ألا تفعل شيئا. إن الشخص الوحيد الذي لم يفشل لم يعمل قط.
قرر إذن؟
هل يحق أن أعيش بدون هدف أخطط من أجله و أتوقع و أفعل ما يمكن فعله بنوع من التجاوز؟.فهل سيكون للحياة معنى دون الدخول في معركة النجاح والفشل ؟ هل أقبل على نفسي أن أكون دائما متفرجا مكتفيا بهذا الدور؟ تذكر أن المتفرج يمل ويشعر بطول الوقت الذي قد يخنقه، والاجتهاد الوحيد الذي يعرفه هو تضييع الوقت، حياته كلها وقت ثالث. علي أن أقرر...
لقد قرأت الكثير عن سلسلة من العباقرة وعن السر في عبقريتهم فوجدت للمعاناة معاني كثيرة وبصيغ أكثر، ومع ذلك أصبحت لبنات أساسية وضعها هؤلاء ليصعدوا من خلالها إلى القمة دون كلل أو ملل.
غير أن البعض الآخر يقدم مبررات واعية في حقيقتها تعبر عن الجانب المظلم في شخصيته، حينما يبرر الفشل باجتهاد من العقل كآلية شعورية للدفاع، تخفي في الحقيقة حالة نفسية مركبة تحتاج بالتأكيد إلى القدرة على التواصل مع الذات بشكل فعال. وتبقى تلك المبررات سنفونية جميلة تتلذذ الذات بسماعها بنوع من الاجتهاد....
من واضح إذن أن النجاح مثل جبل من جليد: ما يظهر هو بريق النجاح المبهر الجذاب، لكن الجزء الباطن الخفي عن الأعين هو العمل والكد والكفاح وقوة اتخاذ القرارات.
عموما مثلما نرى النجاح بشكله المكتمل نرى اللوحات الفنية الجميلة ا في صيغتها المكتملة، ولا نقف عند المراحل التي مرت منها لتنتج هذا الجمال، لذلك لا نرى في الأعمال الفنية كد وتعب.
يظهر النجاح في صورته المكتملة والجميلة والمبهرة ، والحقيقة أنه يخفي الكثير من الإخفاقات والإحباطات مع الكثير من الإصرار والاستمرارية ، وطلب الاختلاف يلح على التحدي و لا يقبل بالمقارنة ، لا بد إذن من بناء الذات باستمرار والتزام وانضباط وقدرة على التحكم فيها .
لقد استوقفتني لقطة رائعة ومعبرة في حياة الفنان العالمي بيكاسو عندما كان في السوق استوقفته امرأة، وأبدت إعجابها بلوحاته، فطلبت منه أن يرسمها، أعطته الورقة والقلم، فرسمها ثم أبدت إعجابها من جديد باللوحة، فهمت بالانصراف. ناداها بيكاسو :" عذرا سيدتي لم تدفعي ثمن اللوحة ". فطلب منها ثمنا مبهرا. قالت معقبة على الموقف: " رسمت لوحة في ثلاث دقائق وتطلب هذا المبلغ". رد عليها موضحا:
" عذرا سيدتي لقد استغرقت ثلاثون سنة لرسم لوحة في ثلاثة دقائق "
كان عليها أن تدفع ثمن ثلاثون سنة من العمل لم تراها ولكنها حاضرة في العمل، والحاصل أنها رأيت فقط ثلاث دقائق كنتيجة حتمية لها ما يفسرها.
وخلاصة القول ليس النجاح وليد الساعة بل سنوات من العمل والصبر على الألم مع الإحساس بالمتعة ليكون زاخرا بالعطاء بل وبسخاء وحب. وعند الخطأ علينا أن نقوي مهارة الاتصال مع الذات باحترام وتقدير، وبتصالح مع الماضي ومع الذات دون لوم وسخط على الظروف و الزمن.
دعنا نكون مثل الفاصلة إذا رأينا موقفا يحزننا نضعها ونكمل طريقنا، ونرفض أن نكون مثل النقطة تنتهي آمالنا عند موقف صادفنا لا بد من المرونة، على اعتبار أننا كائنات التغيير و التغير، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ويستمر الحوار مع الذات الإنسانية بشكل أبدي ولا شك أن هذا ما يميزالإنسان ، بالحوار نستطيع أن ننعم بكثير من الاستقرار النفسي وبمراجعة الذات والوقوف عندها بكثير من التأمل والإصغاء...........
2 ـــ
ويستمر الحوار مع الذات بنوع من الخشوع والإصغاء، بنوع من التصالح مع الذات، بنوع من الرقي في البحث عن الجانب المظلم فينا ، مع محاولة الفهم، على اعتبار أن
الإنسان يفهم ولا يفسر كما هو الشأن بالنسبة للظواهر الطبيعية التي يتم الكشف عن أسبابها الحتمية.ويستمر الحوار مع الذات بنوع من الخشوع والإصغاء، بنوع من التصالح مع الذات، بنوع من الرقي في البحث عن الجانب المظلم فينا ، مع محاولة الفهم، على اعتبار أن
والحقيقة أن السلوك الإنساني بالغ التعقيد لا نملك سوى تقديم محاولات للفهم والتأويل بنوع من النسبية والذاتية على اعتبار أن الغير كما يقول سارتر هو "أنا ليس أنا" أنا يشبهني ويختلف عني : فما يعتبر بالنسبة لي مِؤلما مأساويا ليس بالضرورة كذلك عند الآخر، من هنا تعلمت أن الألم نسبي وأن السعادة هي مجال لنقاش طويل ، وإن كان الألم مشتركا فليس بالضرورة بنفس الدرجة والكيفية :فما يجعلني أنهار من أجله قد لا يحدث سوى ألما بالنسبة للآخر، نقس الشيء بالنسبة للسعادة فقد تكون سعادة العاطل في العمل وسعادة الفقير في المال وسعادة العاقر في البنون... لتبقى السعادة هي ما نفتقده و ما نصبو بشغف لوجوده...
الاختلاف وارد إذن فلماذا نريد أن يشبهنا الناس حين نحكم عليهم من معتقداتنا وأفكارنا؟
لماذا نحكم عليهم ونحاكمهم من منظورنا الخاص؟ أليس الاختلاف مطلوبا، بل إن من الاختلاف يأتي أجمل الإئتلاف.
لا غرو إذن أن الاختلاف يعني رغبة في التكامل بينما في التشابه تكرار واستنساخ لنماذج مجتمعية عقيمة لن تضيف للإنسانية أي شيء سوى الملل بعد كل محاكمة فيعاود الاستئناف من جديد لتستمر الحياة بنوع من التكرار الممل، بينما نحن نؤمن بالاختلاف كضرورة إنسانية فيها ألفة وانسجام وانفتاح وقبول للآخر حبا في نفسي وفيه ليسود الوئام ونستنشق الأكسجين بدون تلوث...
علمت أن التوتر يتلف الخلايا العصبية ويفقدها صوابها فتؤثر على أعضاء الجسم ثم تصاب وظائفه بالتعثر أو الشلل
فكيف يعيش إذن الفرد ويضمن بقاءه ؟
ومن تم كيف لمجتمع أن يستمر في جو مشحون بالغضب والكره والسخط بدون انسجام ؟
هل يمكن للكراهية أن تعطي معنى للحياة؟ وهل الاختلاف يعني الكراهية؟
إن حب الذات لن يتناقض مع حب الآخر، وأن كره الآخر يعكس كره الذات، لسبب واحد معقول هو أننا كلنا في مركب واحد : إما أن نغرق جميعا أو ننقد جميعا فننجو عندما يعم التفكير الجماعي في المصلحة الجماعية ، عندما تذوب الذات بنوع من الطواعية وبالقدرة على القراءة النقدية الدائمة لها .
أكيد بالتأمل والنظر إلى الماضي نسير إلى الأمام، لذلك نرى في كل أداة تنقل ونقل (كالسيارة مثلا) ثلاث مرآة كلها تنظر إلى الخلف من أجل الانتقال إلى الأمام. لاحظ أيضا أن السهم لكي يقذف إلى الأمام لابد من جره بقوة إلى الخلف ...
لابد إذن من أجل حياة جماعية بنوع من التعاقد الاجتماعي أن تستمر في جو من الحرية المقننة لا المطلقة السائبة.
ولأن الصداقة أهم من العدل فيجد ر بنا أن تعم القوانين الإنسانية الصادرة عن الذات وعن الطبيعة الخيرة فينا، عندها سيعم العدل وسوف ينعم به الجميع بنوع من المساواة والتكافل حينها ستسود قوة الحق ويذوب حق القوة.، ثم سيستشعرها الإنسان بنوع من الرضا على اعتبار أن الضرر إن لحق بالإنسان سيكون دائما غير مقصود مما يؤدي إلى نوع من التصالح مع الآخر ومن تم التصالح مع الذات.
تذوب الذات دائما وسط ذوات أخرى وتستطعم كل أحاسيسها فقط بنوع من الاختلاف والإيمان بالقدرات والكفاءات حينها ستنطلق معبرة عن نفسها بشكل إيجابي يستفيد منه الكل على اعتبار أنها جزء من الكل وعلى اعتبار أن رغبة الإنسان- النابعة من طبيعته الخيرة ومن الجانب الطفو لي في كل واحد منا-
لن تتناقض مع رغبات بعضنا البعض ، وإن اختلفت وجهات النظر ، يبقى الحل دائما في الإيمان بالاختلاف كشرط أساسي للوجود الإنساني كذات واعية مفكرة مريدة، تنبث وتنفي ، تقبل وترفض ، وتتخيل واقعا بإمكانها الوصول إليه ما دام يوجد كصورة ذهنية في عقله الشيء الذي لا نجده عند الحيوان لأنه لا يمتلك صورة قبلية لواقع يختاره ويريده ويتحمل مسؤولية قراراته فيه.
عموما يستمر الحوار مع الذات بنوع من القراءة التأملية لهذا الكهف الذي نسكنه والذي يحوي الكنز الذي نريده ، وإن أخطأنا يكفينا دائما شرف المحاولة.
3 ــــ
حين تشكو الذات من قسوة الظروف، حين تلعب دور الضحية،
فتتلذذ بتعذيب نفسها، حين تنصت لصوت الألم وتستكين بغباء، تفيض الدموع، وتحصر نفسها
في الشكوى، لتجعل من اللغة وسيلة للتلذذ بالعذاب
لتفصلها عن واقعها و عن حقيقتها، كونها تجسيدا ماديا لعالم الفكر من خلال التواصل ...
عندها تصبح اللغة تحت سيطرة العواطف والأحاسيس السلبية
القاتلة لمفاهيم إنسانية جميلة كالحرية والمسؤولية و الاختيار والإرادة والقدرة ، ماذا
سيبقى للإنسان إذن بعد سلب كل صفات الذات؟
شكله؟ جسده؟ مظهره الخارجي الفاني والمتغير؟ أين هو الجوهر إذن كمكون
حقيقي للذات ...........؟
هكذا ستستعمل اللغة كوسيلة لتدمير الذات عند إدخالها
في قفص العواطف ، عندما يحاصر العقل التحليلي لينطلق العقل العاطفي معبرا عن نفسه ،
وليقوم بوظيفته للدفاع عن الذات سواء بالهجوم
أو الهروب. آنذاك تصبح اللغة وسيلة للهروب من الظروف والواقع و الهجوم على الآخر بنوع من الفصاحة والتحليل الإستكاني.
هكذا تزيغ اللغة عن الطريق متخلية عن الفكر مرتبطة
بالعواطف تسبح بنا في عالم المستحيلات عوض الانطلاق إلى عالم الممكنات بتكوين صورة
ذهنية قبلية عن الفعل بوضع خطة إستراتيجية لتترجم في برنامج عملي من أجل تغيير مجريات
الأحداث...
لقد أصبحت لغة تعجيزية تدخل الإنسان في عالم المستحيلات فتحد من كل قدراته
وتشلها تحث شعار الظروف والظرفية الراهنة.
إن حكاية الإنسان عبر التاريخ تؤكد أنه حين يرتبط
الفكر بالخيال كمجال للممكنات اللامحدود يصنع
المعجزات، و أن تفوق الإنسان في قدرته عليه،والعكس كلما وضعنا اللجام على الخيال إلا
ووضعنا حدودا خيالية لقدراته معتقدا أنه محدود
الطاقة وأن القدر لم ينصفه و أن سوء الحظ يراوده على الدوام.......تبدو إذن أن صفات
الفردهي من تحدد مصيره، وأن الذات من تصنع من صاحبها بطلا أو جبانا أمام أشباه الأشباح
التي قد نراها......
لماذا طرح إينشتاين سؤالا طفوليا: هل يمكن أن نسافر
عبر الزمن؟
ولم يستحي من طرح سؤال مستحيل كهذا و من مواجهة
ذوي الفكر والعقول المحدودة. ولكن كانت مساحة الممكنات في فكره أكبر من مساحة المستحيلات،
والنتيجة لا زال العلم يشتغل في المسألة مبحرا في خياله المعرفي ، ولأن فضول الإنسان
المعرفي انشغل بالكيفية ومن تم البحث عن اختراع اسمه آلة السفر عبر الزمن......فانطلقت الأعمال
الفنية في السينما تعبر عن هذا الانشغال العلمي الكبير، وفتح الباب بمصراعيه في الفن فأبدعوا في تناول الموضوع من زوايا شتى ثم بادروا
بالتساؤل عن ممكنات أخرى: ما الذي سيحصل لو سافر الإنسان عبر الزمن هل سيغير في ماضيه
ويصلح زلاته؟...؟...؟
وتستمر الحياة في عالم الممكنات لتعطي للحياة معنى،
والذي من دونه تقف الحياة على وجه الأرض وعندما يتكلم التاريخ عن حكاية هذه الأرض وكيف أن
الطبيعة في بدايتها كانت مصدر قهر، و أمام قسوتها
و جبروتها قرر الإنسان أن يصبح سيدا عليها بعدما كان يضطر للتر حال خوفا من
الجوع وقسوة الظروف، استطاع أن يصبح مالكا لها وملكا عليها، لقد أخطأ كثيرا وأخل بتوازنها.
ومع ذلك يستمر ويناشد العقل بالحلول لا العواطف والبكاء، فكم من نظرية علمية عمرت طويلا
وتم تجاوزها، بل و إن من صفات النظرية العلمية هو قابليتها للتكذيب.
وأعود لأقول عندما يتعلم العقل كيف يتكلم عن الأحداث
عوض الخروج منها، يبدع فيما برمج عليه وتصبح التلقائية هي الغالبة على سلوكا ته لأنها
نتيجة طبيعية للعقل الباطن الخاضع للبرمجة كوضع مريح مألوف، عندها يبدو بطلا في الشكوى
فيما حصر نفسه فيه ، والحقيقة أنه يخاف التغيير ويخاف أكثر توقعاته....
لقد برمجت الذات على أساس أن الظروف تلعب دورا كبيرا
في توجيهها و توجهها وأن المستحيل له نسبة أكبر في مساحة الفكر، وكأن المنطق دائما
يفسر واقعنا...
فهل سيقذف الإنسان في الفعل بهذه البرمجة؟ من هو البطل؟ هل من يصارع الظروف
أو من يصارع نفسه ويعيد برمجة المعاني في العقل الباطن؟
لقد تعلمت الذات من الحياة أن الدمع يخدعها ويرمي بها في بحر الألم و الاستسلام وفي عالم الهزيمة. وأن عليها أن تمسح
دموع الخسارة حين تسقط فترفع عيناها للأعلى لتنظر إلى السماء و تعرف أن للكون رب يدبره
وأن الامتحان حامل لمعنى وجودنا، وأن التفاؤل شمعة تنير درب المعاناة، ليعود الأمل من جديد فتنهض محاولة بنوع من التحدي
والاستمرار والصبر.
و في همس تقول: فالمسألة تتلخص، في إما أكون أولا
أكون.
4 ـــ ممتع جدا أن أشعر بنوع من التميز على المستوى الوجودي
مقارنة مع باقي الموجودات، فأردد بفخر واعتزاز: أنا الذات المفكرة التي أثبت وجودها
ديكارت، أنا الذات القادرة على الشك والفهم والنفي والإثبات، أنا الذات التي تستطيع
تصور الأشياء في غيابها وتتخيل وتريد وتستطيع الإحساس بكل هذه الأشياء كذات حاسة....
أنا الذات التي لا تعرف في قراراتها سوى أريد أو
لا أريد، أنا ذات مريدة إذن كما أكد شوبنهاور
وأن الإرادة هي الجوهر الثابت في كل الإنسان. ينتابني نوع من الغرور كلما قرأت لسارتر وأجده يعتز
بحريتي وبقدرتي على الاختيار، بل وقدرتي على تجاوز الأوضاع و أن حياتي مشروع بيدي إنجاحه
أو إفشاله، ثم إنني أنا من يجعل من نفسه جبانا أو قويا... ومع ذلك، أتمتم باستحياء عندما تجتاحني دبدبات الإحساس بالخوف في جل محطات
حياتي، فيخترقني بقوة بدون استئذان، هو خوف يتجاوز عالم المعقولات ليرمي بي في سلة المهملات...
والغريب أنه خوف يجمع بين المتناقضات و لا يترك
لي فرصة الاختيار: فمن غير المعقول أن أخاف النجاح كما أخاف الفشل، أريد القناعة وأخاف
الطموح أريد التميز وأخاف الاختلاف، أريد إثبات الذات و أخاف الاصطدام ... أنا الذات
إذن التي تريد وتخاف مما تريد. يعجبني كثيرا الحديث عن أحلامي وأتلذذ بوجودها، فأجتر
الحديث عنها كلما سمحت لي الفرصة بذلك. ولكن كل الذوات لديها أحلام تجد لها مكانا في
عالمها الإستيهامي وتبقى دائما إنتاجا استيهاميا
واقعه الخيال يتحقق باسمرار داخل الذات، دون أن يعترف به الآخر، والحقيقة يجب أن يكون
إنتاجا اجتماعيا خارج الذات يعترف به المجتمع وينتقده أو يرفضه، المهم أنه واقع اجتماعي... ألا نستحق أن نجري وراء أحلامنا دون خوف وكثم لأنفاسنا وتمزيق لحريتنا
؟
ألم يحن الوقت لاستخدام جهاز الإستشعارالذاتي الذي
نمتلكه ؟ أم أننا سنبقى حبيسي أفكار ثابتة ترفض التغيير بشدة، وهي حقيقة أفكار لا تواكب
التغير السريع الحاصل اليوم؟
لقد ارتاحت الذات لبرنامج الجمود لأنها تخشى التغيير،
تخشى كل مبادرة، تخشى اتخاذ قرار التنقيب عن قدراتها من أجل البحث عن نسختها الأفضل
لوجودها.
إن كان الخوف المبرر صفة كل الكائنات الحية، فقد
اختنقت ذواتنا من شدة الخوف الغير المبرر ليستنزف كل طاقتها ويحرمها من وجودها الطبيعي،
حين تبالغ في التفكير وتخاف العواقب وتمنطق الفعل بسخاء.
أليست المخاوف صوتا داخل كل واحد منا يتكرر ويعلو
كلما سمحنا له بذلك، فيكبر فينا متخذا حيزا ليقمع كل إرادة وكل قدرة وكل اختيار، ويجعل
منا أبطالا في عالم المخاوف ونتسابق من أجل جوائز في مباراة الخوف من القدر، أو مباراة
الخوف من الخوف أو من المجهول، و من سيفلح في التوقعات السلبية باستفاضة وبراعة و إتقان
...؟
لقد أصبحت ذواتنا اليوم فريسة القلق والإحساس بالنقص،
لتصاب في مناعتها النفسية بسبب مخاوفها وحتى الكلام عن الخوف استغرق منها وقتا لتتطاول
عليه وتحطه في دائرة الحوار...
فعذرا لديكارت خيبت آمالك، فأسقط الخوف بفلسفتك
العقلانية والتي بسببها سميت أب الفلسفة الحديثة، لم يعد العقل يكتفي بالتمييز بين
الخطأ والصواب بل عليه أن يتخذ قرار التغيير. لم يعد الشك المنهجي يِؤدي إلي اليقين
إلا يقينا واحدا هو ضياع صفات الذات لتتخبط
في الإدمان وتختار لنفسها نوعا من التخدير الذاتي بالتظاهر و الرياء وإظهار
جبروتها وفنطزتها وكأنها الفارس المغوار ...
عذرا سارتر ولفلسفة عودة الإنسان ولتيارك الوجودي
معتبرا أن الوجود سابق على الماهية، وأن الإنسان من يحدد ماهيته ويختارها. فهل اخترت
الخوف أم هو من اختارني؟
وهل للإرادة يا شوبهاور مكان في عالم الأشباح، اليوم
تعطلت الصفات المثيرة عن العمل و نحن في انتظار استئنافها عندما تنطلق المحفزات وتفرض
نفسها على الإنسان على شكل التزامات و العمل الطويل بتحد وحماس وإيجابية والخروج من
المألوف وتجاوز الروتين اليومي.
عندما تتعاقد الذات مع نفسها وتؤمن حتى النخاع بضرورة
الخروج والتخلص من البرمجة السابقة وتعيد البرمجة
الإيجابية من أجل التطوير الذاتي والدفع بالإنسان إلى التفوق والعيش بنوع من الاطمئنان
و الهدوء عوض دبدبات الخوف على المستقبل والانشغال
بلحظة انتهاء العالم ، والنظر إلى الكون بنوع من التأمل وإلا سوف نطرح سؤال الحكيم
اليوناني القديم : ماذا لو سقطت السماء؟ ونتوه في بحر المآسي.
لا زالت الذات تبحث عن كينونتها في هذا الوجود وكأنه
وجود متشرد وضائع.
ومع ذلك يستمر الحوار معها بنوع من الصحبة بطرح
السؤال، بل إنها تدرك معنى الحياة بدوام الاشتغال
بالسؤال، خصوصا وأن الضياع يطاردها و التاريخ يشهد لها بذلك في مختلف محطاته.
أكيد إذن أن معنى الحياة هو ما تبحث عنه كل الذوات وتستشف معنى وجودها منه، وتطاردها في
بعض لحظاتها مخاوف قرار الخروج، من أجل دفعة لتطوير الذات والرقي بها والعيش بشكل أفضل .
لذلك فهل أستطيع التوقف عن محاورة الذات كمادة دسمة وضعت على مائدة نقاش طويل قديما و حديثا
ولا زال اليوم في الساحة يجلب كل رواد التنمية الذاتية بنوع من الإصرار ؟
بقلم: رشيدة الركيك