لماذا أحبّ بوب ديلان الذي فاز أمس بجائزة نوبل
للآداب؟ أحبّه، ليس فحسب لأنه المغنّي الشعبي، والشاعر الشعبي، والمناضل الشعبي الذي
سحر الحركات المدنية في
أميركا والعالم، وألهم الحركات المناهضة للعنصريةوالحرب والقتل
والبغض والحقد. بل أحبّه خصوصاً لأنه هو دائماً، ذلك المغنّي والشاعر والإنسان، الذي
كأنه على وشك أن يولد، والذي كأنه يولد للتوّ، وفي كل آن، كما لو أنه لم يولد من قبل.
هذا الإحساس اللامتناهي بلزوم الولادات المتدفقة،
المتجددة، هو الذي يجعله شاعراً ومغنياً، بل يجعله شخصاً فائق الحضور في الضمير الأدبي
والفني والإنساني العالمي، ويجعله فائق التفجر، وفائق الاستيقاظ، كشمسٍ لا تتعب من
الإشراق عند كل فجر.
"كل من ليس على وشك أن يولد هو حتماً في
طور أن يموت"، قال بوب ديلان يوماً، وأنا أحبّه لهذا السبب، لأن توقه هذا يكسر
كل الحدود وكل المحرّمات وكل التابوات، ويختصر كل ما هو مدهش ومفاجئ وجديد.
وأحبّه خصوصاً لأنه، في كلّ ما يفعله، إنّما غايته
القصوى، أن يكون نفسه، أن يكون بوب ديلان بالذات، مهما كان هذا الـ"بوب ديلان".
أليس هو الذي قال: "جلّ ما يمكنني فعله هو أن أكون نفسي، مهما كانت تلك النفس"؟!
لكنّي أحبّه أيضاً وخصوصاً بسبب الحرية التي يختزنها
في شخصه وكيانه، وبسبب إيمانه بهذه الحرية، الذي لا حدود له، وبسبب كفاحه من أجل أن
يكون، هو بالذات، أكثر حريةً من ذي قبل، وبسبب عذابه لأنه لا يستطيع أن يكون كامل الحرية:
"لا أحد حرّ حقاً، حتى العصافير مكبّلة بالسماء".
هذا الذي لا يريد لحريته أن تتشبّه بالعصافير، هذا
الذي لا تتسع له السماء، ولا الخيال، ولا الأحلام، وجد في القصيدة ذلك الجسد الحر بامتياز،
لأنها "إنسانٌ عارٍ"، من أثقاله وأحماله.
أن تكون القصيدة على هذا المنوال، يعني أنها تتحرر
من كل شيء، لتعانق المطلق.
وأنا أحبّه لأنه تماهى بالقصيدة العارية، ولأنه
جعل من نفسه، من ذاته، من جسده، من حضوره، ذلك "الإنسان العاري"، الخفيف،
الطلق، الذاهب صوب الضوء والفجر والحرية.
ولد بوب ديلان في 24 أيار 1941 في إحدى بلدات ولاية
مينيسوتا، واسمه الحقيقي روبرت زيمرمان. تعلّم العزف على الغيتار منذ طفولته. كان خلال
المراهقة يمضي وقته بين العزف والمطالعة. انتقل إلى مدينة مينيابوليس في العام
1959، حيث بدأ شغفه بالموسيقى الشعبية الأميركية أو "موسيقى الفولك". في
العام 1961 وصل الى نيويورك حاملاً معه قيثارته وحقيبة ثياب صغيرة. هناك تقرّب من كتّاب
حركة الـ"بيتنيكس"، وخصوصاً من الشاعر ألن غينسبرغ الذي رأى فيه منذ اللقاء
الأول بذور عبقرية موسيقية جديدة، فشجّعه على كتابة نصوص أغانيه وتطعيمها بحمولة ثورية
احتجاجية كانت غائبة تماماً عند مغني الـ"فولك" التقليديين. غيّر اسمه من
روبرت زيمرمان الي بوب ديلان، تيمناً بالشاعر ديلان توماس. لاحقاً استخدم بعض أغانيه
كأناشيد لحركة الحقوق المدنية للأفارقة الأميركيين والحركة المناهضة لحرب فيتنام، وتضمنت
كلماته مروحة متنوعة من التأثيرات السياسية والاجتماعية والفلسفية والأدبية. باع ديلان
أكثر من 100 مليون أسطوانة في جميع أنحاء العالم، مما يجعله واحداً من الفنانين الأكثر
مبيعاً في كل الازمنة. تلقى العديد من الجوائز بما فيها 11 جائزة "غرامي"
وجائزة "أوسكار" وجائزة "غولدن غلوب"، كما قلّده الرئيس باراك
أوباما وسام الحرية الرئاسي في العام 2012. قالت الاكاديمية الأسوجية في حيثيات قرارها
إن بوب ديلان (75 عاماً) كوفئ "لأنه ابتكر تعابير شاعرية جديدة داخل التقليد الغنائي
الاميركي العظيم".
أجل، أنا أحبّ بوب ديلان. أحبّه، خصوصاً، لأنه ملتزمٌ
الإنسانَ في كل ما يكتب، ويغني، ويعيش.
Joumana.haddad@annahar.com.lb
Twitter: @joumana333