ديمة ونوس: الكتابة في ظل الثورة السورية لماذا نكتب؟...فعل التمرد على الزمان والمكان
أن أكتب، هو بالضبط، أن أعثر على فسحة للعيش. الكتابة
تحوّل تلك الفسحة إلى واقع
مشتهى، بينما يكون الواقع خيالا أو كابوسا تساعدنا الكتابة
على الصحوة منه. الكتابة هرب. بناء الشخصيات يجعلنا نعيش معها لأن في الحياة نلتقي
بمن يستحق أن يكون شخصية روائية. في سورية، لم تكن الكتابة موجّهة إلى جمهور عريض بل
نخبوي. لذلك يصعب أن تكون لها وظيفة معينة خارج نطاق المتعة الشخصية ومحاولة الوجود
في مكان لا وجود فيه لمواطن أو إنسان. لا انتماء يحمي الشخص ولا إحساس بالكينونة.
لم أكتب يوما لجمهور ما. لم أكتب لأصدقاء أو قرّاء.
كنت أكتب قبل الثورة لنفسي، بمعنى أنني أكتب لأعثر في فسحة الخيال تلك على امتداد لوجودي.
هو فعل ذاتي وأناني ربما، لكنه أيضا فعل متمرّد على المكان والزمان والمحيط والبلد
الذي ولدت فيه ولم أغادره سوى نادرا.
وإن حدث وتخيلت أشخاصا أكتب لهم، لم أكن أتخيل سوى
أشخاص ينتمون إلى النظام السوري أو مقرّبين منه أو يعملون في مؤسّساته باستسلام مغيظ،
فيتحوّلون إلى نسخ تشبه بعضها البعض وتصبح واحدا عامّا يمتلك الصفات ذاتها والسلوك
ذاته وحركة الجسد المحدودة نفسها. أتخيلهم يقرأون ما سأكتب وما سيكتبه غيري. أتخيلهم
غاضبين مما سيقرأون وأستمتع بفكرة إغضابهم، والعبث بطمأنينتهم المخادعة. أيضا، هناك
الرغبة في القول لهم إن الكائن السوري يعيش بينكم ومعكم مجبرا، صحيح. لكنه ليس مثلكم
بالضرورة. إنه يعيش معكم من دون أن يتماهى مع منظومتكم الأخلاقية والسلوكية والسياسية.
وإن هو أرغم على اللقاء بكم، فليعرف عنكم، وليكتب عن حيواتكم وفسادكم.
ليستفزّ وجودكم المرتبط بعدم وجوده. نعم، إنهم موجودون
لأن معظم السوريين مهمّشين ومغيّبين عن الحياة العامة ومقموعين ومسلوبي الإرادة وحرية
التعبير. وبذلك تصبح الكتابة، تفريدا للذات في محاولة لإعادتها إلى مكانها الطبيعي
ككيان منفصل ومختلف في التعبير والأهواء والمزاج والحلم. إضافة إلى فكرة مكرّرة، التذكير
بها مفيد في هذا السياق. لطالما شكّلت الكتابة في بلدان العالم الثالث التي تعيش في
ظلّ أنظمة شمولية ديكتاتورية عسكرية أو دينية، تاريخا حقيقيا لم تمسّه الرقابة ولم
تعبث به تشوّهات يضفيها المنقّحون، الذين يخترعون لـ «المواطن» ذاكرة أخرى على مزاجهم
وبحسب مصالحهم.
لطالما كانت كتب التاريخ المدرسية في تلك البلدان
أو كتب القومية العربية وحتى كتب الجغرافيا، مفصّلة بحسب رغبات تلك الأنظمة وليس بحسب
الوقائع الحقيقة. إنهم يخترعون التاريخ ويقسّمون البلدان بجغرافيتهم هم. لذلك كانت
الرواية واليوميات الأدبية أو السياسية، ردّا منصفا وضروريا على تلك الاختراعات الجاهزة.
ذلك يكسبها أهمية من جهة كقيمة إبداعية وفكرية وتأريخية وتوثيقية، لكنه يفقدها من جهة
أخرى قدرتها على التطوّر في نواح أخرى، كاللغة والتعبير والخيال الذي يصبح محدودا بالسياسة
المباشرة والإيديولوجية في كثير من الأحيان.
الثورة و"فقدان" القدرة على الكتابة الأدبية
بالنسبة لي، فقدت قدرتي على الكتابة الأدبية بعد
الثورة. ذلك العجز مرهق إلا أنه صحي. أولا، الأشخاص الذين كنتم أتخيلهم يقرأون ما أكتب
ويغتاظون، نالوا قسطا من العقاب لا يزال محدودا لكن جيلا من السوريين الشباب، خرجوا
من بيوتهم، غير مسلّحين بالأدب ولا بالرواية، بل بالشجاعة والتمرّد والرفض.
خرجوا عراة الصدور، غير مبالين بمصير أرواحهم. خرجوا
عنّا وعنهم وعن كل سوري مقموع يحلم بالحرية والديمقراطية والتعدّدية السياسية والكرامة.
في خروجهم من البيوت إلى الشارع، وفي صرختهم الموجعة، ثمة إحباط للأدب ولمهمّته المفترضة
كأداة تغيير. ثمة نسف لكل تلك الأوهام، التي حكى عنها أدباء سوريون ومبدعون عن أهمية
الأدب كقائد فعلي للجمهور وكمنظّر له وكحامل لهمومه وهواجسه.
في الحقيقة، لم يكن للأدب كل تلك الأهمية برأيي.
لأن من خرج من بيته لم يكن على الأغلب يقرأ تلك الكتب ولم يسمع قبل الثورة ولا بعدها
بأسماء النخبة الثقافية ولا بأسماء من اعتقل وعذّب أو لجأ إلى المنفى في زمن الأسد
الأب والإبن. وأيضا، لم يكن المثقف ولا الكاتب ولا المبدع ولا المعارض أو الناشط السوري،
هو قائد تلك المظاهرات المنادية بالحرية والكرامة ثم بإسقاط النظام.
النخبة كانت في الخلف، تخرج وراء الناس وتلحق بهم
وتحاول الانخراط بتجمّعاتهم. الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم العشرين، كانوا القادة
في تلك المظاهرات، والمنظمين والمنظّرين والفاعلين والمجهولين أيضا الذين يتحولون في
حال الموت إلى مجرد أرقام.
هؤلاء الذين لم يخرجوا بحثا عن الشهرة أو العالمية
كما فعل كثير من الكتّاب والنشطاء الذين استخدموا الثورة لتحقيق حلمهم بالهرب من السجن
السوري والوصول إلى العالم الآخر.