من النادر جدا، في وقتنا الراهن، أن تعْثُرَ على مثقف أو أديب موسوعي وشامل، أو حتى أن تفكر في هذا الأمر، في ظل التطورات المتسارعة والدقيقة، التي أصبح العلم
والمعرفة معا، يتخبطان فيها، على عكس ما كان في الماضي.لذلك، فإن فكرة أن تكون متعددا في اهتماماتك وانشغالاتك الأدبية والمعرفية، أصبحت صعبة للغاية، إن لم نقل مستحيلة. ومع ذلك، تجد أحيانا، هنا أو هناك، بعض الفلتات من هذا النوع، إذ نلفي الكاتب يختار، عن وعي، هذا التعدد المعرفي (قراءة وإنتاجا)، على الرُّغم من خطورة ما يذهب إليه. إلا أن هذا لا يعني أن كل من اختار هذا الطريق الصعب يُوفَّقُ فيه بالضرورة. فقليلة هي الأسماء التي نجحت في الجمع بين هذه المسارات المتعددة، في جسد سردي واحد. من بين هؤلاء، أذكرُ الأديب المغربي جمال بوطيب، إذ يصعب علي في هذا الحيز، أن أقف عند هذا الكاتب في تعدُّد أرخبيلاته. فهو الروائي المتميز (فاز بجائزة في هذا الصنف)، والشاعر صاحب جائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر 2003، وهو الفنان التشكيلي (إبداعا ونقدا)، والكاتب والأكاديمي المهتم بقضايا المناهج النقدية الحديثة (تدريسا وتأليفا)، أيضا وعطفا هو المسرحي (كتابة وتمثيلا)، والمهتم بأغنية الطفل، وهو صاحب مشروع « مقاربات للنشر»، ومدير مجلتها، و رئيس «حلقة الفكر المغربي» والمشرف على منشوراتها، إلى غير ذلك من الانشغالات والميول، بفائض من الرصانة والنجاحات.
والحق إن جمال بوطيب، شخصية موسوعية، استطاعت أن تسرد لنا حكاية حوار أدبي، بكثير من الإدهاش والتشويق. وليس كتابه «الجسد السردي/ أحادية الدال وتعدد المرجعية»، وقد طبع مرتين (2006 و 2011)، إلا مرآة عاكسة لجِدِّية المشروع الأدبي المتعدد الأضلع لهذا الرجل، الذي أبى إلا أن يسرد لنا حكايته مع الأدب، بطرائق سردية متعددة ومتنوعة.
بوطيب، في هذا الكتاب، ينطلق من فكرة أساسية، ترى أن السرد هو أساس الفنون، وكل الأنواع والأجناس الأدبية، إن لم يكن هو الكينونة/ الوجود نفسه. ويمكن اعتبار هذا الكتاب الصغير، من حيث حجمُه، الكبير من حيث قيمته، كتابا نقديا مؤسِّسا ومختلفا، على شاكلة كتابات الناقد المغربي عبد الفتاح كليطو؛ ذلك أن جمال بوطيب، في هذا العمل، يتقاطع بشكل فني مائز وماكر، من حيث استراتيجية الكتابة، مع كتاب «الأدب والغرابة» لكليطو، الذي حاول فيه هذا الأخير إعادة قراءة الأدب العربي القديم، وفق منظور نقدي / منهاجي جديد، الذي ليس إلا المنهج البنيوي، انطلاقا من سؤال إشكالي: ما الأدب؟ وما علاقته بالغرابة؟
يتساءل بوطيب سؤالا إشكاليا، في جوهره، حول شجرة النسب، في الأدب والفن عموما، ليخلص إلى أن السرد هو أم الفنون. يقول «ألا يحق بعد كل هذا أن نراجع كل مقولات الأبوة والنسب التي تجعل كل الفنون لقيطة، حين تجعل من المسرح أحيانا ومن الشعر أحيانا أخرى أبا للفنون، وتصمت عن ذكر الأم وهما معا قد خرجا من صلب السرد؟».
ولئن كان عبد الفتاح كليطو، في كتابه السالف الذكر، قد حاول دراسة بعض المتون لأنماط سردية عربية قديمة، وبعض أنساقها، وفق منظور نقدي بنيوي، فإن جمال بوطيب، سيعود إلى معظم هذه الأنماط السردية في كتابه هذا، مركزا على الحضور الجسدي، هذه المرة، وكذا على مرجعيات هذا الحضور، في نصوص «كليلة ودمنة»، و«ألف ليلة وليلة»، و«أدب المقامة»، و«السير الشخصية»، و«أدب الرحلات»، و«التراث الشعبي». ولقد لاحظ صاحبنا، أن المسرودات أو المرويات الأولى عند العرب، قد تأسست، في جوهرها، على الشفاهية، مع العلم أنها، قد طرحت إشكالا أجناسيا حقيقيا عند النقاد، إذ كثيراً ما يشوب اهتمامات الدارسين بالموروث السردي العربي القديم، نوعٌ من الخلط البيّن في الاصطلاح والتسمية «فيُدرجون تحت اسم الخرافة: قصص ألف ليلة وليلة، وأخبار السعالي، والجن، والمعتقدات القديمة، وحتى الأساطير».
وينتهي جمال بوطيب، في الطبقات السفلى لهذا البحث، إلى أن مرجعية الجسد في المسرودات العربية القديمة، مرجعية متعددة ومتنوعة، تراوحت بين «أربعة أشكال هي الرمزية، والعجائبية، والواقعية، والخيالية». إلا أن ما يمكن اعتباره إضافة حقيقية ونوعية، في إطار مقارن مع ما قام به عبد الفتاح كليطو في «الأدب والغرابة»، بالإضافة إلى زاوية وموضوع المقاربة أو المعالجة، هو اهتمامه في هذا الكتاب بـ«التمظهرات الجسدية»، في التراث الشعبي (المثل والأساطير)؛ وهي إضافة، نحسبها مهمة ورائدة، لمدى خروجها عما هو مألوف من الإقامات / الأجناس الأدبية العالِمة، أي المعترف بها في مملكة الأدب، إلى «الهامش الأدبي» الذي لم يكن، إلى حدود الأمس القريب، معترفا به كأدب. أقصد التراث الشعبي. وهذا لعمري بدعة مستحبة، وسُنّة محمودة ومطلوبة في الأدب، ينبغي اقترافها بدون تردد، في مجال السرد الأدبي (نقدا)، على غرار ما قام به الكاتب بوطيب في كتابه «الجسد السردي»، وفي غيره من الكتب الأخرى.
٭ شاعر وكاتب مغربي