تمرّد الأديب العربي على النَّسَقِ الأدبي المتعارف
عليه بات أمراً واقعاً، فالرواية لا تُكتب كما في الستينات والسبعينات من القرن العشرين
لتعبر عن الحياة في المجتمعات
العربية بل غدا الكثير من نماذجها أنماطاً من السيرة
الشخصيّة أو المتواليات القصصيّة، والمونولوجات المعبرة عن فنتاستك يقترب من الكوابيس.
وكذلك شأن القصيدة، فلم تعد قصيدة العمود أوالتفعيلة، هي المتفاعلة في المحيط الثقافي
بل صارت قصيدة النثر، والنص الحر هي البديل.
انتقل التمرّدُ بأقلام القصاصين والشعراء والروائيين
إلى حيثيات كتابة المقال الأدبي. وأخذ قسم منهم يميل إلى كتابة مغايرة، سماها الكاتب
المغربي سعيد منتسب الكتابة ببلاغة ركيكة. وبهذه الثيمة صدر كتابه الأخير ”ضد الجميع”.
ومنتسب قاص وشاعر مغربي بدأ النشر منذ تسعينات القرن
الماضي، ما يخوله أن يقدم صورة أكثر عمقا حول ما يكتب اليوم من مقالات خبر تفاصيلها
على مدى تجربته الثرية والمتنوعة في عالم الكتابة بين مختلف الأجناس الأدبية.
الأدب والركاكة
يقول سعيد منتسب لـ”العرب” متحدثا عن كتابه الأخير،
الصادر عن دار سليكي أخوين للطباعة بطنجة 2016 بدعم من وزارة الثقافة المغربية، “نحن
دائما أمام خيارين: إما أن نبتلع قرصا منوماً عن قناعة وبكامل إرادتنا لإخماد يأسنا
الكبير من كل شيء، وإما أن نمعن في إلغاء الجميع، أي ‘اللا أحد’ حتى نحقق وجودنا المعلق”.
ويرى الكاتب أن مؤلفه “ضد الجميع”، وقوف متعاكس
أمام مرآة العالم المائعة، واحتماء من ذلك الكم الهائل من التكرار الذي يجعله يترنح
بقوة ما دامت “المياه كلها بلون الغرق”، كما يقول اليائس الأكبر إميل سيوران.
وفي هذا الكتاب، الذي يضم أربعة وأربعين مقالاً
حول ثيمة الطريقة المثلى للكتابة الأدبية، حاول الكاتب أن يكون نفسه، لذا يقف في مواجهة
ساخنة مع النضج الإبداعي والاجتماعي الذي يطيب للجميع الاستغراق فيه.
ويتساءل الكاتب “ما معنى أن تكون ناضجاً، وكل شيء
يجبرك على الالتفات وإعادة النظر في كل شيء؛ في الأخلاق العامة، في التأويل الأخلاقي
المعطوب، في تاريخ التجربة المعرفية، في المتبدي والغائب، في النظام والفوضى، في الأدب
والركاكة وعدم الإتقان؟”.
يتابع سلسلة تساؤلاته “ما معنى أن تكون كاتباً ناضجاً؟
هل تضع لكتابتك ربطة عنق لتكون مثيرا للإعجاب، ومستحقاً للإطراء، أم تقول ‘الحياة جميلة
يا صاحبي’ وتنصرف إلى ارتباكك النابع من الهامشي والمؤقت والعابر؟ دائما أطرح على نفسي
السؤال ‘ما معنى أن تكتب بشكل لائق؟’ وهو ما حاولت تقديم إجابات عنه، من خلال الإيمان
بضرورة تجنب الوقوع في البراءة والإيمان بالشك في المكتوب والمقروء”.
يؤكد منتسب أنه يحاول دائما أن يرغم نفسه على ألا
يكون مجرد ناسخ، مع أن حقيقة الكتابة هي النسخ، والتنويع على الأصل، واستدعاء الحمض
النووي للنص الأول. وانتبه هنا إلى أن النصوص الفارقة في تاريخ الأدب كتبها ذلك السعي
الحارق نحو الاكتمال.
وبهذا المعنى أيضا أدرك الكاتب أن الناقص هو المطلق
واللانهائي، أما المكتمل، فهو المهمل والمتوقع. فنحن، في رأيه، نكتب الأدب الجديد بالركاكة،
وليس بالبلاغة.
والسؤال الذي يمضي إليه هنا هو: كيف يمكن للكاتب
أن يكون «بليغاً»، إذا لم يعثر على أسلوبه الخاص، وعلى الصوت غير المشوه الصاعد من
أعماقه؟ فإذا كانت البلاغة هي حسن البيان، وإدراك غاية الوصول، فإن الركاكة انحياز
للتسكع دون غايات أو وعود. إن الكاتب “الركيك” هو من يعبس في وجه الاتساق، وهو الذي
يستطيع أن يصيب “الأوزان” و”الأجناس” و”القوالب الأدبية” كلها بنوبة، كما يقول منتسب.
الكتابة تمرد
ويذكر سعيد منتسب في أحد مقالات الكتاب توصياته
لتجويد الكتابة حيث يقول “إذا أردت أن تكون كاتباً طرياً على الدوام عامل الأرض مثل
كوكب مذبوح. اُكتب دون أن تنسى بأنك كاتب ميت ميت لا محالة. لا تركض خلف المجد الأدبي
والأيادي التي تصفق والحناجر التي تهتف. حاول أن تغمض عينيك على اتساعيهما ثم اُركض
بكل قوتك (وأَزْيد قليلاً) كحصان أهوج فوق سهل فسيح أجرد”. وربما تأتي أهم توصياته
في كتابه الأخير عن شكل وطريقة الكتابة إذ يقول “لا تكتب مثل الآخرين، ولا تتعبأ بالمعجزات
وكن أنت المعجزة التي لا يؤمن بها أحد سواك”.
علاوة على نصائح للكتابة أو لنقل آراء الكاتب الخاصة
حول هذه العملية الإبداعية المعقدة، نلتمس لدى منتسب صفة التمرّد التي تميز جل مقالات
كتابه، وهو تمرّد على شكل الكتابة وتقنياتها وأساليبها اللغوية، ومعارفنا عن البلاغة
والركاكة وما تعنيان للأديب العربي. والكاتب حصل في عام 2005 على شهادة الدكتوراه في
الآداب في موضوع “التلقي والتأويل في القصة المغربية الحديثة”، وبذلك فهو يكتب من خضم
تجربة أكاديمية، لا من باب تجربته الأدبية فحسب.
تمرّد على شكل الكتابة وتقنياتها
يقدم سعيد منتسب رؤية شاملة في تتبع سياقات بنيوية
للنصوص المنقودة، ويوضح ذلك بقوله “كل رفض للتسويات الممكنة مع ما يجعلك اعتياديا كـ’أكل
الولد التفاحة’ وباردا كنائب الفاعل، يفرض هذا النوع من الانتقال. فالقصة ليست قدراً،
ولا إرغاماً. القصة، كما القصيدة والرواية والمقالة التأملية، مجرد ذريعة لإدراك المعنى
الأصلي لما يستحق أن يكون كتابا. لذا ليست كل الكتب كتباً، وليست كل الكتب جديرة بالقراءة،
وليست كل الكتب وليدة لمشي كاتبها فوق هاوية. هناك الكثير من الحبر، والكثير من الادعاء،
والكثير من الدجل وعدم احترام القراء”.
ويوضح المؤلف أن المهم هو أن نكتب ما يساعد على
التدمير والمحو والانفصال، والغاية في نهاية المطاف هي أن يكبر الكتابُ طولاً وعرضاً،
وينمو داخلياً نمواً لانهائياً دون أن يشيخ. وأن نتعلم كيف نمشي وحيدين في الزحام،
ونحفظ طريقنا عن ظهر قلب، وأن نخرقها ونمزقها أيضا حتى لا تصبح حجاً أو طريقة.
يقول الكاتب “صحيح أنني عُرِفْتُ في المغرب كقاص،
لكنني بدأت شاعراً، وما زلت مولعاً بالتجارب الشعرية الفارقة. وحتى في القصة كنت وما
زلت أتعقب الشعري والمجازي والاستعاري. غير أن اللقاء مع الكتب الكبرى، ومع المفكرين
والفلاسفة والكتاب الاستثنائيين، يجعلك تعيد النظر على نحو جذري”.
ويتابع “القصة ساعدتني على اللقاء مع قامات أدبية
عالية، ومع أشكال جديدة ومدارس متنوعة في الكتابة، كما مكنتني من الوقوف عن كثب على
العديد من التجارب والقراءات، وعلى التمييز بين معنى أن تكتب بالحكاية ومعنى أن تكتب
بالدال”.
وللكاتب إصدارات قصصية سابقة نذكر منها “تشبه رسوم
الأطفال” 2000، “جزيرة زرقاء” 2003، “صرخات لا تنتهي لامرأة تلد” 2004. وفي الشعر
“بيت العاصفة” 2013، “أشجار اللوز” 2014، “أمواج تخرج من عرينها جائعة” 2015. وفي المقال
الأدبي “حجر لصيد الأشباح” 2015.
عن العرب اللندنية