في كل مرةٍ كنت ارسم فيها قوس قزح كنت أمده على كل الصفحة بمقدار كل الواني الخشبية والزيتية كلها مجتمعة معاً، وفي وسط الورقة كنت اخترع خطوطاً لشكل امرأة
عارية تبتسم ودموعها تسيل على خدها انهاراً من اللؤلؤ..
لم يكن أي شيء قد يجمع بين صورةٍ لقوس قزح وامرأة تبكي وتبتسم معاً إلا شيئاً واحداً: فرحٌ لا يشبه الفرح!
وعلى قارعة الطريق اتمدد بصمتٍ هكذا.. بصمت قوس قزح الذي ينبض بصوت التفاؤل والفرح، على قارعة الطريق اتمدد كما تمتد مساحة الكلام.. كما اتمدد بهدوء وحذر على حافة الحياة!
قذفت على قارعة الطريق من حيث لا ادري، دفعني احدهم وألقى بي من الطابق العاشر للحلم بعد إن صفعني صفعتين: الأولى كي توقظني من عالمي المعقم والثانية كي تجبرني على كسر الصمت والخجل والبراءة.
أتمدد.. أمعن النظر في الفراغ، أروض النبض والكلام وحين بدأت اعجز عن ذلك قررت ان انهمر على الورق مطراً مترعاً بالنقاء والأسرار معاً..
أتساءل بيني وبين نفسي لماذا نظل نلعب ادوراً لا نريدها معظم الوقت فربما نستطيع برمجة انفسنا بحسب ساعات وأزمنة قد صنعناها بأنفسنا لنخلق نظاماً وهمياً كاملاً نرتب به عقولنا وأيامنا وحياتنا لكننا نتناسى تنظيم عوالم الفوضى في داخلنا.. أترانا غير قادرين على ذلك؟
ربما لهذا السبب لا زالت المرأة في مجتمعنا تلعب دور البريئة الساذجة غير المجربة أمام من تريده زوجاً للمستقبل، فحين يسألها مثلاً عن علاقاتها السابقة تفضل ان ترسم ابتسامة خجولة مدعيةً انه حبها الاول والأخير وان “ما حدا باس تمها غير امها”، او مثلا ترانا نجد ازواجاً يعودون إلى بيوتهم على رؤؤس اصابعهم بعد منتصف الليل وحين تصطادهم الزوجة يدعون بأنهم مرهقون من العمل رغم ان الواحد منهم قد كان يسرح ويمرح في حضن عشيقته، او حتى بمجرد مقابلة عمل بسيطة ترانا نهلل ونمدح بهذا العمل بالذات واننا اخترناه وفضلناه على غيره لحبنا فيه رغم أننا نعرف بيننا وبين انفسنا ان كل هذا غير صحيح وأننا ذهبنا مجبرين بعد ان بعثنا بعشرات الرسائل الى مكاتب اخرى ولم نستدعى اليها!
نلعب ادواراً كل الوقت وحتى دون ان نشعر وغالباً وفي كثير من الاحيان بطيب نية، لكن هل الحياة طويلة الى هذا الحد حتى نضيع جهودنا في هذه التفاصيل؟
أجلس على قارعة الطريق وعلى هامش الرصيف امزق دفتر الذكريات صفحة صفحة، انظر الى حقائبي المتخمة بالجراح ورزم الخيبات، انظر اليها وأشفق عليها فأنا اعرف بأنها مهما امتلأت ستظل غير كافية، فمن الصعب جمع تفاصيل حياتي في حقيبة سفر.. !
أمد يدي، اسحب شفرةً من احدى الحقائب وضعتها ولا اعرف لماذا.. لكنني اتناولها بحذر، اقطع بها كل الرزم المرتبة، كل الأحزمة التي تكبح جماح تهوري واقطع معها أزرار قميصي ايضاً، امسح الالوان من فوق عيوني، أمحو احمر الشفاه بغضبٍ وأسب حماقاتي، امسك برموشي وأحاول تفتيها، انثر شعري على كتفي، ارميه فوق ظهري كذيلِ حصانٍ هائجٍ اعتاد العدو دون توقفٍ ابداً!
يتناثر عقد دمعي.. لا أقوى على تبريد هذا البركان.. فأخلع القميص من على جسدي، انزع أقراطي اللؤلؤية وودتُ لو كنت قادرةً على التجرد من كل ملابسي حتى..
السيارات تمر مسرعةً كما وقتي المتسرب كرمل البحر بين يدي ايامي،هذا يمر ويلقي علي نظرة اعجاب وتصفيرة، ذاك يتوقف ليسبني ويلعن ساعة البنات وولادة البنات، وذاك يمر بحذر متفحصاً لتفاصيل هذا البركان المنفجر على قارعة الطريق، وتلك تمر من امامي لا بد متسائلةً بينها وبين نفسها كيف لهذه المرأة ان تتجرد من قميصها هكذا “دون احم ودستور” في الشارع العام؟وتلك وذاك وتلك..
محاولاتي بالصمت باءت بالفشل كالعادة ومحاولات الكلام لدي انتهت بالهزيمة ولذا قررت ان اكون وليدة النص والورق.. وما هي الجريمة في ان نكتب؟ وعراة..؟ وعلى الطريق العام؟
ماذا لو جلسنا يوماً عراة تحت ضوء القمر؟ ماذا يعني ان تكون عارياً؟ لماذا نخشى العري الى هذا الحد؟ الأننا نخاف الوضوح والحقيقة؟وماذا لو كانت الحقيقة هي ان الإنسان لا يكون محرراً من كل قيوده تماماً الا بعد ان ينزع اطنان الأقمشة والألوان والماكياج من فوقه؟
هي معادلة بسيطة جداً.. ان تكون عارياً معناه ان تكون مرتاحاً وعندما ستكون مرتاحاً ستكون لا بد متحرراً وعندما تتحرر ستغدو سعيداً، وعندما تكون سعيداً لا بد ستكون قادراً على التفكير بنقاءٍ وسلالة و هذا ما يخشاه الشرق!!(وبدكم الصراحة؟ هذا ما تخشاه انظمتنا العربية كي لا ننقلب ضدها)!
على قارعة الطريق اجلس كما اجلس على حافة الحياة تماماً كما اجلس عند كل طقس كتابة جديدة، وجهي رمادي يتمنى ولادة المطر في كل لحظة، مكشوفة الصدر والساقين، افرك كفتي وأصابعي كل ثانية، عيناي تتجول في كل الزوايا من حولي،شموعٌ تبكي في كل منطقةٍ في خيالي وفانيل يعبق برائحة الورق، أما الحبر فيرسم طريقه على رسغي دون ان يتوه ولو بسنتمتر واحد، ألعب بخصل شعري المتناثرة، ابحث عن شيء لا اعرفه ولكني اظل ابحث وابحث..
احضن حقائبي، أسير حتى “الثيستل هايد بارك”، احجز لعدة ايام، اصعد الغرفة متعبة، ارمي بالأغراض كلها دفعة واحدة وأهرول لإعداد القهوة..
أجلس في الشرفة كما اجلس عند كل طقس كتابة، عارية من كل قطع القماش التي ارهقت نفسي وجسدي.. عارية من كل ما هو واقعي ومتوقع، من كل الوان البديهية والمنطق، عارية حتى من غيوم قلقي..
ارتشف القهوة على مهل، أدير مذياعي الصغير:
“وهوى الوديان زكرني بهواكم..
هوى الوديان
قلبي الولهان شعلان بهواكم..
قلبي الولهان“
الله عليك.. الله يا صافي!