وبما أنّ هذه الجائزة، المعتبرة الأهم من حيث توزيع الرواية الفائزة وإطلاق شهرة كاتبها، صارت تشبه لعبة النرد- أو شراء بطيخة كما نقول عندنا – إذ تكون أحيانا من الروائع وأحيانا أخرى كثيرة خالية من أيّة قيمة أدبيّة، فضّلتُ التريّث. وكنتُ وجدت، في ما وصلني من انطباعات عن رواية سليماني “أغنية عذبة” أو “رندوحة” وعن رواية الإيرلندية إدنا أوبراين “الكراسي الحمراء الصغيرة”، تقاربا ما في موضوعهما. إنّه بالطبع تقارب اعتباطي. وقد أكون مخطئة في تفضيلي القيمة المؤكّدة للكاتبة الثمانينيّة إذ كنت قرأت لها رائعتها “بنت من الريف”… لكنّنا نلتقي بالكتب في حياتنا كما نلتقي بالأشخاص، بمقدار معتبر من الصدف.
والحقيقة أنّ المبالغة في الإضاءة على عمل ما قلّما يتعلّق بقيمته الأدبيّة، ولا مجال هنا لتكرار ما يعرفه الجميع من ظروف التسويق بكل معانيه.. لكنّ “المطرقة الإعلاميّة” التي حظيت بها الروائية سليماني، منذ روايتها الأولى، مدعومة من “وكيلها” القوي الطاهر بن جلّون، عضو لجنة الجائزة الشهيرة ونجم الأدب الفرانكوفوني ومرجعه عموما، جعلت الواحد يتريّث أكثر فأكثر. ثمّ إن خلفيّة دفعها إلى دائرة الضوء على أنها شابة جميلة وجريئة – أي رغم كونها مسلمة – تحمل ما تحمله من إيحاءات هي أقرب إلى الإيديولوجيا ذات الوظيفة الإجتماعيّة-السياسيّة منها إلى القيمة الأدبيّة، في مجتمع فرنسي مأزوم في علاقاته مع الفرنسيين المسلمين، وبخاصة مع ذوي الأصول المغاربيّة. حسنا. ما المشكل؟!
المشكل الذي أتمنّى التوقّف عنده ليس على صلة مباشرة بالغونكور، أو بليلى سليماني.
إن استعمالات تعبير “الجرأة” مقرونا بالإشادة بصنف كتابات النساء على الأخصّ بات مزعجا فعلا. بل رجعيا ومتخلّفا. مبخسا وظالما وفي غير محلّه. فالكاتبة “الجريئة” هي من يكشف عن “المسكوت عنه”- بحسب التعبير الرائج- في مجال الجنس فقط. كأنّه امتحان اختصاصها. فكسر التابوهات –الجنسيّة – بدخول الفظاظة البورنوغرافيّة هو الوسام، والباب إلى الإستحقاق الأدبي. مما يحمّي المبارزة في ما بين الكاتبات: من تذهب أبعد مني؟ من تكتب في الجنس بفجاجتي؟
هذه الكتابة، والنقد الملحق بها، تتعامل مع مكوّنات بقياس هو من خارج الكتابة. فالجرأة، وهي لا شكّ قيمة كبيرة، تروح تقتصر على إبراز المشهد الجنسي كأنّه الوحيد الذي يخرج بالكاتبة من حيّز القاصر إلى الحيّز الشرعي. فإذ تلج الكاتبة صفحات الجنس الجريء يعني أنها غادرت ثوب الفتاة الساذجة والخائفة المطيعة وامتطت فرس البطولة الأدبيّة لتحرير المجتمع من التابوهات. الجرأة هي في الجنس وكتابته فقط. وهو من “ميّزات” النساء الكاتبات. كأنّنا لا نقرأ. كأنّنا نخترع البارود بعد قرون من اختراعه. كأنّ الكاتبة ما زالت قاصرة عمّا يتناوله الأدب في العالم ولها مقاييس جودة خاصّة بها ككاتبة عربيّة. مقاييس وقاموس خاص بها. كأن تقول إنّ الكاتب – الذكر – الفلاني لا قيمة لكل ما كتبه لأنّه لا يحوي مشاهد جنسيّة فاقعة. كاتب غير جريء!
الرواية الأولى للحائزة غونكور هذه السنة عن روايتها الثانية كانت بعنوان “في حديقة الغول”. وهي تروي قصّة امرأة مشهورة- إعلاميّة ذات سلطة – مدمنة على العلاقات الجنسيّة المتعدّدة وعلى خيانة زوجها باستمرار… لأنّها تعاني من”مشاكل نفسيّة” (!). تقول الكاتبة إنّها استوحتها من فضيحة دومينيك ستراوس كان الشهيرة مع خادمة غرف الفندق الأميركي، لكنّها جعلت البطل امرأة. الرواية ليست سيّئة، لكنّها دون أيّة قيمة أدبيّة غير تلك “الجرأة” التي تكلّمنا عنها. وهي لها مكانها وجمهورها للأسباب وللوصفة نفسها. لم لا؟ وقد خبطت ليلى سليماني خبطتها في روايتها الأولى ككاتبة عربية مسلمة “جريئة” ومتحرّرة. و”فيمينيست” بطرح ذي جدارة.
وبين هلالين: يبدو أنّنا ننسى بعض ما سجله التاريخ الحديث لبعض فرق النسويّات العربيّات من دعم لامتناه (ومتبادل) لسلطة بن علي في تونس، أو القذافي في ليبيا…
أمّا عن الموضوع “المتشابه”- اقتران الخير وصوره بالشرّ المتربّص في القيعان البشريّة – فلنا عودة إلى رواية أوبراين. ___ *المدن