-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

المفارقة في رواية منير (الأبيض لا يليق بكم) د. بلال كمال

تخالف رواية [ منير… الأبيض لا يليق بكم ] كل الرويات بكلِّ أنواعها و أطيافها ، فلا تجنح إلى لغةٍ أدبية مجازيةٍ ولا إلى زخرفة لغوية ساحرة ، وإنما تعتمد لغة تقريرية
مباشرة لتقرر حقيقة ما ، فتستغني عن المقدمة والتقديم والاستهلال الوصفي ، وتبدأ بحوار يؤرخ بداية المرض والمعاناة ، من مرض بسيط إلى أمراض شتى تتشكل و تتنامى بفعل أخطاء طبية متعددة ، بسبب إهمال وتقصير من أطباء وممرضين يلبسون اللباس الأبيض ، لذا تبدأ الرواية بالحوار ، وتبدأ الحكاية بالتشكل والظهور تباعاً ، من زمان و مكان وشخوص و أحداث .
تتحدث الرواية عن الأخطاء الطبية التي تسود في الأوساط الطبية والمشافي العربية التي لا تؤدي إلى الشفاء بل إلى عاهة دائمة أو إلى قتل سرعان ما تموت القضية بموت صاحبها .
من هنا نجد الموضوع يشفع لهذه المباشرة والتقريرية أن تسود صفحات الرواية لتعبر عن صرخة ألم، و عن فضح المستور ،ونقل القضية إلى الرأي العام .
هكذا يتصدى الأديب الكبير طارق البكري لهذه القضية وهو أديب الطفولة و راعيها الذي يهتم بالمواهب ويُنمّيها و يتعامل مع البراءة و الطبية و الخيال والجمال، و يبذر البذور هنا و هناك ويسقيها وهو يبني المستقبل ، هنا يتصدى هذا الأديب لهذه القضية وهو يروي القصة الحقيقية لنجله منير وقد كان ضحية لهذه الأخطاء الطبية الفادحة ، يأتي ليروي الحكاية بدمع عينيه وبنبضات قلبه المكلوم ، فيوثق ويؤرخ لحالة تشابه حالات ، ويدوّن حكاية تحاكي حالات هنا وهناك في المشافي الطبية، ويجعلها صرخة مدوية ، ويجعل من قضيته قضية رأي عام و هي ما يجب أن تكون .
تمتاز الرواية رغم مباشرتها بجماليات أدبية متعددة ، ونبدأ بالعتبة الأولى حيث العنوان والذي يعد الاشتباك الأول بين القارىء و النص ، فنجد العنوان عنوانين :
[منير] عنواناً رئيساً و جملة ” الأبيض لا يليق بكم ”
ف منير : اسم فاعل وهو مصدر للنور حيث كان أو حيث أشير إليه إذ يكون اسما ويكون عاكسا على الأشياء
والأبيض : حيث كان يكون منيراً أيضاً ، وعندما نقرا العنوانين معاً فعندها تحدث المفارقة والتنافر ، كما أن جملة “الأبيض لا يليق بكم ” تعد تناصاً مع عنوان لرواية أحلام مستغانمي [الأسود يليق بك ] وهذا العنوان إذ يتناص مع ذاك العنوان و يحاكيه إلا أنه يخالفه قلباً و قالباُ فإذا كان فضاء أحلام مستغانمي رومانسياً فإن الفضاء هنا يتحدد بمكان واحد وهو المستشفى و أبطاله من الأطباء والممرضين، و إذا كان الأسود في رواية مستغانمي يحل بحلة جمالية، فإن الأبيض في هذه الرواية يحل بحلة سوداوية ، وإذا كان فضاء الرومانسية لأحلام قد فرض لغة رومانسية شاعرية ، فإن لغة البكري جاءت مباشرة تحاكي العامة لا الخاصة ، وهنا نجد المفارقة خير مفتاح للدخول إلى هذه الرواية ، ومن خلال قراءة التنويه الذي سبق النص الروائي نقرأ : [الرواية خيالية وأي تشابه بينها وبين الواقع مصادفة] ، غير أن الرواية حقيقية فاقت الخيال ، مما يجعل هذه الجملة التنويهية مقصودة بحد ذاتها ، مما يفرض تلك المفارقة بين الواقعي والخيالي ، و الواقعي و المثالي ، و القبح و الجمال .
كما نجد العنوان بألفاظه : [منير… الأبيض … لا يليق بكم ] هي أكثر الألفاظ تكراراً و توظيفاً في الرواية ، وتصبح لفظة منير ليست اسماً لمسمى فقط ، وإنما تصبح لفظة دالة لها معنى، تحاكم الأسماء الظاهرة والمستترة الأخرى، و يصبح منير هو الضمير الحي الحاضر، أو الغائب أو المغيب ، هو الذات و الموضوع ، هو المحكي عنه والحكاية التي تروى ويجب أن تروى ، حتى لا تكون هنا ضحية أو هناك .
ويكون (الأبيض) لوناً دالاً على الطهارة والنقاء و الطيبة، أو لوناً مفارقاً لهذه المعاني:
[كان يتمالك نفسه بقوة ليخفي دمعة حزن يخفق بها قلبه الأبيض ] ص 43
[ قد تحول جسده إلى كتلة من الكدمات السوداء والزرقاء والحمراء …] ص 34
[ وهو يقصد الكدمات الكثيرة من البقع السوداء والزرقاء والحمراء التي حولت جسد منير الأبيض إلى لوحة فسيفيسائية الألوان مع أشكال فنية مرعبة] ص 36
وتغدو مفردة [يليق] أو [لا يليق] مفردتين تتناوبان مدحاً أو ذماً وهي تقارب و تحاكم هذا الطبيب أو ذاك ، وتضبح مفردتين دالتين على المفارقة والسخرية و النقد و الاستهزاء حيث يستوجب المقام مقالها :
(يليق):
[لا يقبلها الطبيب المخلص الذي يليق به اللون الأبيض] ص 10
[فأي طبيب يليق به الثوب الأبيض يرضى بأن ينقلب 180 درجة من دون سابق انذار] ص20
[كيف يمكن أن نثق بعد اليوم بمثل هذا البياض المزيف للحقائق ..المنكر للوقائع]ص 21
[وهي تليق بي أكثر من لباقة ثوبك الأبيض بك] ص 22
[وهو الدكتور عبدالعظيم … فهو الطبيب الذي وضع نفسه في خدمة منير هذا الصباح … هو الطبيب الذي يليق به الثوب الأبيض بكل استحقاق وجدارة مع قبلة على الرأس ] ص26
[وفي قائمة الأسماء التي يليق بأصحابها الثوب الأبيض ] ص 27
[كان من الأطباء النخبة الذين يليق بهم الثوب الأبيض ]ص 33
[بمساعدة ممرض من المركز يليق به الأبيض ]ص 42
[رسم في عينيه كل اعتذار ممكن يليق به وله كل بياض في الكون] ص 44
[أردت أن أكون طبيباً يليق بي الثوب الأبيض ]ص 48
[حتى أصبحت هذه القصة عنواناً للصبر و الثورة على من لا يليق بهم الثوب الأبيض]ص 48
قامت هذه الرواية على عرض مشاهد متعددة من آلام هذا المريض وقد وظفت هذه المقابلة أو المفارقة بين لفظتي يليق أو لا يليق .. بين الأبيض والألوان الأخرى ، بين صوت المريض وصراخه وصمت الأطباء ،وجعلت الحكاية تُسرد على لسان راوٍ بسيط وهو الشاهد على الواقعة و القضية ، فكان عامل النظافة الذي يكنس القمامة ويخفيها عن أعين الزائرين وهو الراوي الذي يكشف ويروي أخطاء الأطباء ، ويصبح هذا الراوي الذي ليس له كلمة في عالم الطب و الأطباء ، وليس له ثوب الأطباء ، يصبح هو صاحب القلب الأبيض ، وصاحب الكلمة الفاصلة و الشاهدة ، ويكتب لكلمته الخلود بخلود الأدب الذي يحفظ القضية .
قيل قديماً إن أخطاء الأطباء مدفونة تحت الأرض وها هو طارق البكري ينشرها بلغة خالية من الاخطاء ليحاكم فيها أخطاء الأطباء ، حتى يبقى لهذه المهنة ألقها وبياضها ونورها وصدقها وان لا يكون هذا اللباس الأبيض إلا لمن يليق بهم من أصحاب العلم والأخلاق وخدمة الإنسانية ، وآخر مفارقة نقف عندها هي أن الكاتب طارق البكري الذي نذر نفسه وسخر قلمه لخدمة الطفولة، وعلّم كل الأطفال وصادقهم يفقد ابنه منيرا بسب خطأ طبي .
لقد جاءت هذه الرواية مباشرة وجنحت إلى التصريح لا إلى التلميح لتقول كلمتها دون أن تحتاج إلى تفسير أو تأويل ولتخاطب العامة والخاصة ولتصبح القضية قضية رأي عام ، وقد كانت كما نجحت في أن تكون

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا