-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

عشب الموتى : سعيد منتسب

لن أقول أين قابلتهم. كانوا يملؤون الشارع بالضحك، يستجمعون قواهم ويركضون جماعة نحو السوبر ماركت. يأكلون السكر، ويمطون أجسادهم للوصول إلى الطاقات
الزجاجية التي تعلو النوافذ، على مقربة من المكيف الهوائي الضخم.
طلبوا مني أن أغمض عيني لألا أراهم يغادرون معاطفهم. أحاطوا بي، وبدؤوا يطلقون أصواتا تشبه الزئير.. ورأيت أمي تغمسني في طست مملوء بالماء المغلي والأعشاب الطرية، وتفركني بالملح. لم نكن في البيت، كنا في تجويف شجرة عملاقة. الأغصان متكسرة ومتناثرة على الأرض.. وعلى يمين الشجرة رجل ميت ومتحلل بشكل مريع. شعرت بمغص تشنجي، فصرت أزعق وأمي تليف ظهري، وتغني بالأمازيغية.. وكانوا يصغون إليها ويتغامزون..
الموتى يحبون السكر كالجياد، يمضغون ويقفون بأقدامهم فوق العشب. لا يمكنني فعل شيء، أنظر إلى أمي وأتمنى أن تتحول إلى بومة تخترق الغيم. الموتى يخافون البوم، يتطيرون من النعيق ويهربونه كما لو كان شوكة حادة تقف بالمرصاد لضحكاتهم..
أخبروني أنهم يحبون أمي في السر، وأنهم جاؤوا من مكان بعيد لاصطياد ابتسامتها.. ولم أكن بعيدا عنها حين هاجمتني ريح باردة تخرج من عيونهم.. ورأيتها تصعد الجبل منحنية الظهر تحت الأعشاب، تتقدم بثقة نحو ضريح بقبتين متساويتين. ناولتني حارسة الضريح إناء عسل وطلبت مني أن أبتعد عن المدخل الذي كان مفروشا بالرمل والفلين ولحاء شجر الجوز. تراجعت نحو الممر الصخري، وتجمدت في مكاني بقلب خفيف. أمي ظلت صامتة، كأنها ليست أمي. لم أرها قط بضفيرتين، ولم أرها قط تزين صدرها باللوبان والقرنفل والعقيق. كانت تتلألأ في ضوء الشمس، وكنت أراقب الموتى يزينون أطقم جيادهم بأحزمة مرصعة بالفضة اللامعة، ويسخرون من المزارعين السُمْر الذين يجلسون مع أولادهم أو يضعون سلال التين والخوخ في أحضانهم..
أمي كانت تلبس جلبابا أبيض على غير عادتها، بينما النسوة الأخريات غارقات في "تشضاضين" السوداء، يختلطن مع بعضهن البعض في أنصاف الظلال..
الموتى يخرجون من جُرُبِهم آلات النفخ، وينتظرون غروب الشمس ليعزفوا. لم تغب أمي تماما. كانت تقف أمام الباب دون أن تلتفت إلي. دون أن تُلوِّح بيديها المخضبتين بالحناء والزعفران.. والموتى يتكدسون أمام امرأة تحمل توأمين على ظهرها، يتهامسون ويتسلون بتقليم أظافرهم.
الموتى يخرجون مقصا ضخما ويهددونني به ضاحكين. تواريت خلف صخرة، وانغرست في غبار أبيض كالجبس. خشيت أن تمطر. خشيت أن يقطعوا شيئي.. ورأيتي طفلا صغيرا في الخامسة، أضحك لأنني ألبس قفطانا وطربوشا وبلغة، وأبكي لأن طائرا حلق عاليا وترك جرحا بين فخذي..
الموتى يرصدون كل شيء من أعلى الجبل بانتباه كبير. تلك المرأة الزنجية التي تتجول على استحياء قرب الضريح، كأنها ضائعة. الكلب الذي يعرج من رجله اليسرى. الطفلة التي تلتهم خبز الذرة المحروق بشراهة وتضع كيسا على رأسها. الرجل المشروم الشفتين الذي يقود تيسا بحبل.. وأمي التي تقف جامدة في مكانها..
حاولت أن أغافلهم. من أين لي بقطع السكر التي تجعلهم يقفزون خارج الأرض؟ هل يحبون العسل؟.. سأنام قليلا ريثما تغيب الشمس. وضعت إبهامي في فمي وغبت..
طلبت مني أن أغطيها جيدا لأنها تشعر بأنها ليست على ما يرام. لم يكن هناك أحد بالبيت. أخواتي لم يعدن بعد، وأخي عزيز لا يعود إلا بعد منتصف الليل، مخمورا وسعيدا وممتلئا باللعنات. غطيتها كما طلبت مني، أطفأت النور، وعدت إلى غرفتي لأقرأ.. لأخلو إلى هؤلاء الذين يمضغون العلك، ويتفحصون النيام.. رأيتهم يساومون بائع طيور على قفص، ويأخذون بخناقه ليبيعه بثمن بخس.. كانوا يخرجون تباعا من مرآة كبيرة معلقة على جدار الغرفة..
كانوا يخرجون تباعا من مرآة كبيرة معلقة على جدار الغرفة. يتدفقون كنهر من منبعه، ويمتصون الضوء بعيونهم التي تتكاثر كالجراد. لم أعد أرى شيئا. تشابكوا بالأذرع وصاروا يرقصون حولي بخفة شديدة، أحدهم أمسك برأسي وجعله يتأرجح يمنة ويسارا.. كنت أشعر، ولا أرى.
إوزة بيضاء تخرج من كتاب "هياج الإوز" مغمورة بالضوء الدافئ. انفتح باب الغرفة، ودخل صديقي عبد الرزاق. مسح فمه بكمه، وطلب مني أن لا أعير اهتماما لما يجري. أمي نائمة، والموتى يقاطعون عازف الكمان الذي وضع آلته جانبا وفضل أن يغادر حفاظا على سلامته.
في الغرفة الأخرى، كان هناك ضوء يومض، بدا هادئا وهو ينعكس بارتياح على وجه أمي التي حاولت أن تقول شيئا دون أن تستطيع. هذا ما حدث، كانت تصغي إلى شيء ما. عيناها السوداوان تشعان بوحوش لا نراها.. والموتى يستمرون في الخروج من المرآة بشكل طبيعي. يثرثرون، ويلعبون الورق ويحتسون الشاي. طلبوا منها أن تدلهم على مكان السكر. ابتسمت وأشارت إلى دولاب صغير في المطبخ.
صديقي عبد الرزاق ينظر بانزعاج إلى هؤلاء المجلببين المتغطرسين الذين ينتظرون منا أن نلبي رغباتهم. كنت هادئا بعناد. أمي جامدة في مكانها، لا تقوى على تحريك جانبها الأيسر، وثمة كلب أسود يختبئ في زاوية مظلمة، يهرهر وينتظر أمرا ما..
الموتى يستلقون على ظهورهم، ويشرعون في عد مخاوفهم القديمة. أحدهم كان يجلس على الشرفة ويداعب قطة. أصغرهم تمدد على وسادة، وأمرني أن أروي له حكاية. سددت نحوه نظرة قاسية، وتركت أختي فاطمة تغير ملابس أمي التي تعرقت كثيرا. خرجت من الغرفة منحنيا كأن جبالا بعيدة تسكن رأسي، كأنني الناجي الوحيد من حطام سفينة. يحدثني عبد الرزاق، فلا أسمعه. كل العواطف الحارة تبرد بسرعة حين ألمح آلات النفخ تلتمع بين أيديهم. من أين أتى كل هؤلاء؟
خرجت أختي من الغرفة، وسلمتني عقد عقيق أسود ومنديل بني وقطعة نقدية متقادمة.. كان في وجهها شحوب، وتابعت إلحاحها في أن أذهب لأنام لأن الامتحانات على الأبواب.
اندفعت نحو أمي التي ابتسمت برفق، وطلبت مني أن أقترب. رسمت بعينها حديقة مسيجة بالأزهار، وطلبت مني أن أفتح الباب لعزيز: "إذا طرق أخوك باب البيت، إياك أن تتركه في الخارج، هذا كل ما أطلبه منك.. لا تتركه أبدا يبيت في الخارج. عدني أنك ستفعل..".. ويا أمي أعدك أن أفقد الحس، وأن أراعيه كأخ صغير، رغم أنه يكبرني بست سنوات.. ويا أمي، سأصير له عبدا، لكن عديني أن لا تذهبي مع هؤلاء العازفين المهرة الذين يخرجون من المرآة ويركبون الجياد والنوافذ والشرفات.. عديني أن تجعليهم ينتظرون وقتا طويلا.. عديني أن تتلألئي أمامهم بوميض يعميهم ويجبرهم على الانصراف مبكرا..
نظرتها المريحة والصامتة جعلتني أجفل وأتراجع إلى الخلف. فتحت النافذة. قطعان من السحب َتسرِح كيفما اتفق في السماء، تنحني وتتمدد بعمق. تذكرت ذلك الكوخ الذي احتضن أول لقاء بوجهها الفتي والمبتسم. أحببت فيها عينيها والوشم الأخضر الذي يخترق ذقنها. أحببت فيها رائحتها التي يمتزج فيها القرنفل بالورد البلدي والخزامى. أحببت فيها الكحل والحركوص والعقيق واللوبان والدمالج الفضية. أحببت فيها ثيابها البسيطة الملونة وشعرها الأسود الغزير. كنت ذلك العاشق الجديد الذي ظلت تغطيه بالصوف، وبقلبها الكبير، لمدة عامين كي لا ينطفئ. كانت كوردة في صباح شتائي، وثمة توهج غامض على وجهها الطفولي.
كنت طفلها الثامن. داعبت خدي بيديها السماويتين، وحشرتني في قماط لأدفأ..
على السقف طائر جارح، ينظر إلى وجهي ويفكر بأن الأرض لا يوجد فيها ملائكة جيدون. أمي تقيس حرارتي بقلق، وتراقب ظل القطة التي استدارت خلف الباب وقفزت مذعورة من شيء لم نره.
أختي حليمة تقف عارية على يمين الدولاب. تحمل مرآة صغيرة في يدين مبسوطتين على اتساعهما، وتحدق بعينين مفتوحتين في الرضيع الذي يبكي ولا يسمعه أحد. طلبت منها أمي أن تظل واقفة، وأن تغلق عينيها حتى تنصرف جميع الظلال التي تملأ الغرفة.. الموتى يتحولون إلى حبل طويل من السوسيس يتدلى من أعلى السقف. تتهيج القطط وتموء. تتهيج الكلاب وتعوي. تتهيج أختي وترمي المرآة على الأرض فأبكي أنا وأتطلع إلى الموتى الذين يقتربون أكثر، ويرغمونني على شرب الحليب. امرأة ميتة ألقمتني ثديها بالقوة، لم يكن حليبا. هل هو عصير الخوخ المنقوع في الخل؟ تحيرت في تمييز الطعم.. فبكيت وفركلت وانتفضت. تجمع الموتى في حشود كثيرة حول المرأة، وشرعوا في تأنيبها ووخزها بمهاميزهم. بدأت تنكمش وتنكمش إلى أن تحولت إلى قشرة رمان أهملت وتيبست ببطء تحت طاولة الطعام..
لم تصدق أمي أنني مصاب بالحمى، وأن قطع الزجاج المتناثرة على الأرض ليس بإمكانها أن تحنن قلوب الملائكة. أمي لا تعرف أن الملائكة ليست ديوكا ترتدي ريشا أبيض وأجنحة، ولا تعرف أن جارتنا "القرقورية" تطلق همهماتها الغريبة وبخورها الكثيف كي لا يجف نهرها. رأوها من شقوق الباب تتعرى وتتوهج كذئبة هاربة من الجحيم، ترش الملح والفاسوخ على المجمر وترقص بيأس. الدخان يرتفع ويرفعني معه إلى حيث أجدني أمتطي مهرا أسود بغرة بيضاء.. والموتى يغمسون أقدامهم في تل من الأحجار الكريمة، يطلبون مني أن أترجل، وأن أمشي معهم إلى حيث هم ذاهبون. طلبوا مني أن أتبخر، وأن أندفع مثلهم نحو الأعلى لأشف وأتلاشى. لويت رأسي، وقلت لهم سأكبر إذا حل الصباح..
لم تقو على الحركة. أُفلجت أمي.. كأنني نائم في مقصورة قطار يسير بسرعة جنونية. أغمض عيني، فأرى الموتى يسخرون من الطبيب الفلسطيني (أبو الزبن) الذي عادها. أخبرنا أنها مفلوجة لأنها تعاني من نزيف في المخ، وأنه من الأفضل أن لا نحملها إلى أي مستشفى. كان يتحدث، وكنت أشعر بأنني أجر عربة مملوءة عن آخرها بالحجر.
هز عازف الكمان كفه وأغمض عينيه. انتظر أن أخرج ليبدأ العزف. هل أتركه يعزف وأختفي في نفسي من هذا الذي نتوقعه، أم أتابع موسيقاه بعينين كئيبتين وقلب مذبوح؟
صديقي عبد الرزاق يأخذني إلى الخارج، يحدثني عن جان بول بيلموندو وميكي رورك وآل باتشينو وروبير دينيرو ومايكل دوغلاس.. وأنا أصلي للذي أنجب المروج بأعشابها وأزهارها ليترك لي زهرتي التي تسقي جداول قلبي، ولينفخ على هؤلاء الموتى الذين جاؤوا لرفع البحيرة إلى السماء.. لم أكن شيئا بدونها، ولست أي شيء على الإطلاق إذا تركتهم يرفعونها بسهولة.
على نحو مفاجئ شعرت بأنني أقوى، وأنه يكفي أن أوجه ضربة قاصمة لزعيمهم لأفرق شملهم. لكن من هو زعيمهم؟


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا