القيم، المثل العليا، المبادئ، الخير، الحق والعدل،الإنصاف
و المساواة ،الحب والصداقة ،التسامح والحرية والواجب...مفاهيم شتى يتخذها الإنسان شعارا
له في الكثير من
الخطابات، وفي تحديد العلاقات الإنسانية، وتتباهى الذوات بالحديث عنها
، كأنها معيار للسلوك الإنساني بل قد تكون فن تدبير الحياة الاجتماعيةبكثير من الجمالية
وفي عالم ما ينبغي أن يكون. فكيف تتراقص الذات بين ما هو كائن و ما ينبغي أن يكون؟
بين الخطاب وبين الواقع؟
منذ السنوات الأولى من الطفولة المبكرة والإنسان
يتلقى الكثير من المبادئ والقيم وكأنه يطلبها لذاتها
لما تحمله من معاني، مع أن طبيعته الخيرة أسمى مما يتعلمه من الوسط الذي
يعيش فيه. فالطفل لم يعرف الكذب إلا كضرورة اجتماعية يستطيع من خلالها التملص من المسؤولية...
بالأخلاق على ما يبدو تبحث الذات عن التحرر من سلطة
الطبيعة وقوانينها لتضع لنفسها قوانين إنسانية سامية متميزة عن أي وجود آخر، وبتفرد واضعة معايير للسلوك
في صيغته المثالية، فتطير محلقة لتسقط في عالم المثل وتظهر شبه قطيعة مع الواقع. لتسكن
هذه القيم الأخلاقية في عالم اللغة، أي العالم
الرمزي بعيدة كل البعد عن الواقع الاجتماعي.
ومع ذلك تحمل كل ذات إنسانية قيما إنسانية، تسعى
لتجسيدها في علاقتها مع نفسها ومع الغير، من خلال مفهوم الواجب وممارسته بوعي داخل
المجتمع. و الحديث عن مشروعية إلزامه لا تخلو من المرغوبية على اعتبار أن الإنسان كائن
راغب بامتياز.
وتبقى الضرورة الوجودية للقيم هي الشموع التي تستعمل
عند انتشار الظلام الدامس و الخوف من الوحشية والهمجية التى قد تؤدي إلى حرب الكل ضد
الكل على حد تعبير هوبز.
هكذا يكون الحديث عن القيم فقط هو ما تبقى لكل ذات
حين تسيطر عليها الأهواء والغرائز والنرجسية.
فهو وجود يتميز بنوع من السادية، لتعذب الذات نفسها بالحديث عما ينبغي
أن يكون في مقابل ما هو كائن، كأن التفكير في هذا الاتجاه ضرورة يفرضها الوعي الإنساني
و الحيطة من كل إقصاء و تهميش عند رفع القناع عن الحقيقة الهمجية للوجود الإنساني في الكثير من الوضعيات، حين ينتشر العنف والقهر والظلم
غير المبرر سوى لكونه نوعا من التحقير و التظاهر بالقوة والإحساس بالذات على حساب ذوات أخرى...
هكذا تبدو الحقيقة المزدوجة للوجود الإنساني من
حيث إنه كائن يجب أن يتحكم في سلوكه باعتباره مخلوقا ثقافيا، يتباهى بمختلف المظاهر
الثقافية بكثير من الوعي والتحليل والنقاش.
غير أنه وهو يقاوم نزواته وسلوكاته الطبيعية ليظهر بطابع راق، يواكب طموحه
ومشروعه الإنساني يقتحم نسقا من المفاهيم تتجاوز قدراته، لتدخله في عالم المثل متلذذا
بالحديث عنه كما يتلذذ ببحثه عن الحقيقة وعن العالم الأبدي الخالد في إطار ما ينبغي
أن يكون، جاعلا لوجوده عالما من المعاني والدلالات كوجود متفرد.
ألا يمكن القول إذن أن المفاهيم الأخلاقية لها قيمة
وجودية أكثر مما لها معنى تضع الإنسان معه فوق جميع كائنات الطبيعة؟
حقيقة أنها مفاهيم يجب أن يكون وجودها محل نقاش
في إطار ما ينبغي أن يكون، و كأنها ألوان تعطي
للوجود الإنساني جمالية، ليظهر في أبهى صورة بل في لوحة فنية إنسانية رائعة.
نتحدث عن الحق ، العدل ، الحرية ،السلام والإنصاف
كأنها رسالتنا في الوجود لنطالب بها حتى للحيوان كدليل على الرقي الإنساني،
فيضعنا أمام إشكالات صارخة: أليس من خلق هذه
المفاهيم أول من خرقها؟ وهل يكتفي الوجود الإنساني بالحديث عن عالم القيم ليدخل في
تناقض مع نفسه والإحساس بنوع من الغربة عن ذاته؟ ثم أليس تمسكنا بالحديث عن الأخلاق
الحميدة سببا في ظهور أخلاق مناقضة لها؟
كثيرا ما تطالب الذات بحقائق غير ممكنة فيدخل العقل
في خلق عالم من الأوهام وبفعل تكرارها ينسى بأنها أوهام. هي أكاذيب في شكل لغة تخفي
أكثر مما تكشف. لغة تغطي عيوبنا وتحاول إظهارنا بشكل اجتماعي مقبول أمام ذوات أخرى
تفرض عليها أنساقا فكرية ونماذج سلوكية جاهزة، وندخل من جديد في الرياء والنفاق الاجتماعي
المقبول من أجل التكيف الاجتماعي كدليل على سلامة الذات وتوازنها .
هكذا يعيش الإنسان دون غيره من الكائنات نوعا من
ازدواجية الأخلاق واللاأخلاق في إطار ما هو
كائن وما ينبغي أن يكون. مأزق وقع فيه الكائن العاقل و لن يستطيع الخروج منه، إلا بالخروج
من الحياة الاجتماعية.
فالانفرادية، العزلة، الانطواء، قد تبدو في كثير
من الأحيان حلا للذات من أجل الخروج من معاناتها
ومن قلق الحضارة،لأن نزوع الإنسان الطبيعي للعدوانية لن يتحقق إلا في إطار العيش
الجماعي ، حماية للذات منه ورفضا منها لأي قانون القوة.
غير أن خروج الذات من الجماعة كحل سيطرح إشكالا
يخص المجال والفضاء و المؤسسة التي سيتعلم فيها الإنسان الأخلاق من جديد، بعيدا عن
ذوات أخرى. ثم كيف أعرف نفسي ظالما دون ارتكاب الظلم؟
فهل سيتخلى الإنسان عما راكمه عبر السنين بالكثير من الافتخار ويعود من
حيث بدأ لحالة الطبيعة والعنف والبقاء للأقوى والانتقام وقانون الغاب؟ أم أننا سنبعد
الأخلاق عن كل تفكير براغماتي نفعي لتصبح مطلوبة لذاتها؟
لا شك أن لكل منا مصلحته بل وقد تتعارض المصالح
، فيكون لكل منا أخلاقه التي تتفق مع مصلحته
و التي قد تتغير بتغير المصلحة، مما يقودنا إلى طرح السؤال: هل للأخلاق صبغة
ذاتية و بالتالي على الذات تغيير المبادئ كلما تعارضت مع مصلحتها؟ أم لها صبغة كونية
تخص الإنسان أينما حل؟
تتخبط الذات دائما بين ما هو كائن وما ينبغي أن
يكون في إطار وضع معايير أخلاقية نميز فيها الخطأ من الصواب ومع ذلك نقوم بالخطإ دون
الصواب. لذلك كان على العقل العملي الأخلاقي الكانطي أن يكون شعارا لكل تنشئة اجتماعية،
وإن كان التاريخ يتحدث عن حكاية التجمع البشري كحل لإنقاذه من
قساوة الطبيعة ومن التوحش الحيواني أمام ضعف الإنسان الجسدي وقوته العقلية...
إلا أنه اليوم يقف الوجود الإنساني، وتقف كل ذات
حائرة أمام مرآتها و حقيقة هويتها، بين كائن أخلاقي متميز وبين كائن يتحول من لحظة
و أخرى إلى لا عاقل و لا أخلاقي. في حالة من الجنون والتشرد والضياع، حين يصبح كل جوهر
لا جوهر، عندما ترتبط الذات بالتفكير البراغماتي النفعي ضاربة عرض الحائط كل المعاني
فتبحث عن وضع نهاية لها لتعلن استسلامها...
لذلك رفقا بك سأحاورك أيتها الذات وأنصت إليك وأتفهم تقلباتك ،على أمل
أن نعود معا لرشدنا وإن تهنا الطريق ننتظر حلول الصباح بشمسه ونوره . سوف نجد آثار
من سبقونا ونسير على دربهم بفطرة طفولية سليمة تقذفنا دائما في عالم الممكنات دون المستحيلات...ويستمر
الحوار مع الذات
بقلم : رشيدة الركيك