بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء، ارتأت اختصاصية التجميل التي تقدم فقرة ضمن برنامج صباحي يعرض على "القناة الثانية المغربية"، أن تساهم على طريقتها في مناهضة العنف المنزلي. لم لا؟ فالمناسبة حاضرة، والمنبر موجود، والفكر مغيب، وغسل الدماغ مستمر جيلاً بعد جيل...
السيدة التي لا شك في حسن نواياها، ولا شك في شديد أسفها على الأمر الواقع، أرادت أن تساهم في هذا اليوم التاريخي، بتقديم نصائح تجميلية لبنات جنسها المعنَّفات، لمساعدتهن على إخفاء آثار الكدمات والرضوض، آملة أن يشكل ما "ابتدعته" حلاً يمكّنهن من إكمال حياتهن.
لا خلاف طبعاً على ضرورة إكمال المعنَّفة حياتها. لكن الإشكالية تكمن في نوعية تلك الحياة، وما إذا كانت تسمية "حياة" تصلح أصلاً لوصف ما تعيشه المعنَّفة. هذه الإشكالية طبعاً ليست شأن الاختصاصية ولا داعي لتشغل بالها بها، فهي متخصصة في التجميل وإخفاء العيوب، ولديها في هذه الفقرة، مهمة واضحة ومحددة، ألا وهي تعليم المرضوض وجهها كيف تمرغه بمهرجان ألوان لتخفي العار!
ما إن إذيعت الفقرة حتى أمطر المعلقون، في وسائل التواصل الإجتماعي، الإختصاصية والبرنامج بالتنديد والنقد الساخر واللاذع والمرير، ما اضطر القناة إلى تقديم اعتذارها ووصف الفقرة بأنها غير ملائمة ولا مناسبة لحساسية الموضوع.
التعليقات، في معظمها، تمكنت من وضع الإصبع على الجرح، فشخّصت مشكلة الفقرة وحددت أطرها، ونسبتها إلى منظومة القيم المُنتظَرة من المرأة المعنَّفة، وهي أن تخفي الجريمة التي تُرتكب في حقها، كما لو كانت الفاعلة لا المفعول بها.
تلك المنظومة التي تدعو المعنَّفات الى الصبر والحكمة، وغيرها من "الفضائل" التي تزج بها في غير موقعها، مجردةً إياها من أي قيمة عبر تحويلها إلى دعوات للانهزام أمام هذا الواقع، والاستسلام لحتميّته... بذلك، يصبح من مستلزمات إكمال "الحياة"، تدجين المعنَّفات وتعليمهن طرق التأقلم والتكيف والتعايش مع "القيم" التي تُحمِّلهن، كضحايا، عار العنف اللاحق بهن، والذي تُتَّهمهن بأنهن سببّنه وأنهن يستأهلنه. أو "القيم" التي تسخر منهن وتعيّرهن بأنهن معنَّفات، ناقصات، معطوبات، معيوبات...
في الحالتين، هن مُطلَبات بالمعاناة الصامتة، تحت طائلة تحميلِهن مسؤولية الفضيحة وخراب البيوت. أما البيوت، فلا يمكن أن يستمر القبول بقيامها على جثث المعنَّفات. فالفضيحة هنا، هي فضيحة محاولة طمس هذه الجرائم، والتستر على فاعليها.
أما العار، فليس عار المرأة المعنفة لتخجل منه، هو عار معنِّفها... وفي كل مرة تخفي ضحيةٌ آثار العنف الممارس عليها، ينجو المعنِّف من عواقب فعلته... وتستمر هذه الظاهرة بالتفاقم.
المحزن في الأمر هو أن الجميع يعرف أن التبرج لا ينجح في إخفاء الآثار تماماً. فيبقى بمقدور الناظرين، إن شاؤوا، رؤية التعنيف تحت الألوان. لكنهم لا يفعلون، لأن ثمة تواطؤاً على ضرورة طمس هذه الآفة. يتظاهرون بأنها غير مرئية، يغضّون الأنظار ويتعامون عنها ويكملون حيواتهم واضعين رؤوسهم في الرمال.
إذا سلّمنا جدلاً بأن لدى المنظومة القيمية الحاكمة مصلحة في استقرار الأوضاع على علاتها، وعلى حساب المعنَّفات، فكيف نفهم رضوخ الأخيرات المتضررات من هذا الوضع؟ وكيف نجحت المنظومة في قلب عبء الذنب من المعتَدِي إلى المعتدَى عليهن؟
حتماً ما كانت المرأة لتخجل من آثار العنف على جسدها ووجهها، وما كان ليخطر في بال اختصاصية التجميل أن تعرض حلها، لو لم تكن منظومة القيم التي تربت النساء على طاعتها ومهابتها، تتسامح مع العنف، ولو ضمنياً، وتعتبره حقاً للرجل يمارسه على "نسائه"، سواء كنّ زوجات أو بنات أو أخوات... لتأديبهن حين يلزم الأمر، وفقط حين يلزم الأمر، ما يعني أنه في كل مرة تتعرض فيها امرأة للتعنيف، يجري التساؤل عما اقترفته من ذنب لتستأهل هذا العقاب.
كأنما العصمة دائماً حليفة الرجال، فيما الخطيئة اختصاص النساء. وكأنما لم يكن ينقصهن إلا توسيع مفهوم "العورة" ليشمل، إلى جانب أجسادهن، الرضوض التي تغطيه.
قبل البدء برؤية المرأة والرجل بعين المساواة والنديّة، ستظل المرأة مطالَبة بالدفاع عن معنِّفها، وإخفاء جرمه عن العيون، وارتداء قناع الرضا والرضوخ لحكمه.
هنا بيت الداء الذي لا شفاء منه قبل إعادة النظر في مسلّمات المنظومة القيمية الحاكمة والمتحكمة.. المسلَّمات التي تجعل من البديهي أن تبادر مجتمعات عربية إلى مناهضة العنف بالتبرج!