عن موقع لغتنا
انتقد المحامي النقيب عبد الرحمن بن عمرو الحكم الذي أصدرته المحكمة الإدارية في فاس، أواخر يونيو المنصرم، والقاضي بعدم وجوب استعمال اللغة العربية في قرار
لمؤسسة عمومية، واعتبره مجانبا للصواب.
وكان المكتب المحلي في فاس للنقابة الوطنية للوكالة الحضرية (التابعة للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب) رفع دعوى ضد الوكالة الحضرية وإنقاذ فاس، مطالبا بإلغاء القرار الذي أصدره مدير هذه المؤسسة، والذي يعلن فيه عن فتح باب الترشيح الداخلي لملء مناصب شاغرة للمسؤولية. وعللت الجهة صاحبة الدعوى ذلك بكون القرار المذكور مكتوبا باللغة الفرنسية، وهو ما يشكل مخالفة صريحة لمقتضيات الفصل الخامس من الدستور المغربي التي تنص على أن اللغة العربية تظل اللغة الرسمية للدولة.
غير أن المحكمة أجابت في رفضها لموضوع الطلب الدعوى بالحيثيات التالية:
ـ لئن كانت مقتضيات الفصل الخامس من الدستور المغربي تنص على أن اللغة العربية تظل اللغة الرسمية، فإن هذا لا يفيد منه استعباد باقي اللغات الأجنبية الأخرى في التعامل باعتبارها تشكل رافدا من روافد الدولة العصرية المبنية على الانفتاح، والمتشبثة بالمواثيق الدولية وفق دستور 2011 الذي لم يرتب آثارا على مخالفة ذلك، فضلا عن كون استعمال اللغة العربية يقتصر على المرافعات والأحكام دون باقي الوثائق.
ـ إن صدور الإعلان بالفرنسية للترشيح في مناصب المسؤولية المعلن عنها من طرف المطلوبة في الطعن في نازلة الحال، يندرج ضمن هذا السياق، وضمن المهارات والكفاءات المطلوبة لتقلد المسؤولية التي تفرض إتقان جميع اللغات الحية بالنظر لخصوصية المرفق، وعلاقته بالمحيطين الداخلي والخارجي، مما يكون معه النعي المثار في هذه الوسيلة مردود على مثيره.”
وكتب النقيب عبد الرحمن بن عمرو تعليقا مفصلا على حيثيات الحكم، أورده الدكتور فؤاد بوعلي في صفحته الافتراضية، وذلك على النحو التالي:
ـ 1 ـ إن جميع مقتضيات الدستور تعتبر من النظام العام، وبالتالي يترتب على مخالفتها بطلان الإجراء أو التصرف أو القرار المخالف لها وذلك بدون حاجة للنص في الدستور على ترتيب جزاء معين على مخالفتها. ومن المعلوم أن الفصل 5 من الدستور ينص على رسمية اللغة العربية، وأن ترسيم أية لغة يعني، قانونيا، وجوب استعمالها في جميع المرافق العمومية للدولة بما في ذلك المرافق الإدارية بجميع أنواعها، والحكم الذي نعلق عليه، بعدم أخذه بعين الاعتبار هذا المقتضى، يكون بذلك مخالفا للدستور الذي يعتبر أعلى درجة في القانون .
ومن المعلوم أن حيثيات الحكم المعني أجازت للإدارة المغربية، ليس فقط استعمال اللغة الفرنسية بل كل اللغات الأجنبية الحية، الأمر الذي يعني أن الحكم رسم، واقعيا، جميع اللغات الأجنبية الحية التي لم يرسمها الدستور قانونيا. وكما هو معروف، في نطاق أصول القوانين، فإن الموجود قانونا كالموجود فعلا والمعدوم قانون كالمعدوم فعلا …
ـ 2 ـ ولأنه: من ناحية: فإن اللغة ما هي إلا وسيلة من وسائل الوصول إلى المعرفة و ليس المعرفة ذاتها .ومن ناحية أخرى، فإن الفرنسية ليست اللغة الأجنبية الحية الوحيدة الموصلة للمعرفة. ومن ناحية ثالثة، فإن اللغة العربية، بدورها لغة حية قادرة على نقل المعرفة، ليست لدورها التاريخي في نقل المعرفة والفلسفة والثقافة اليونانية إليها ومن خلالها إلى الغرب المعاصر، وإنما، بالإضافة إلى ذلك وغيره لأن اللغة العربية، بسبب التنمية التي لحقتها، واتساع حجم استعمالها الدولي تأهلت لتصبح، ضمن ست (6) لغات رسمية في الأمم المتحدة، تستعمل وجوبا، دون لغات بقية الأعضاء، في جميع أجهزتها، بما في ذلك الأجهزة المختصة في كافة العلوم والمعرفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والحقوقية والصحية والزراعية والصناعية والشغلية… (مثلا: الجمعية العامة – مجلس الأمن – منظمة العمل الدولية – منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة – منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة . منظمة الصحة العالمية – المنظمة الإنمائية الدولية – المصرف الدولي للإنشاء والتعمير – مؤسسة التمويل الدولية – صندوق النقد الدولي – منظمة الطيران المدني الدولي – الاتحاد البريدي العالمي – الاتحاد الدولي للمواصلات السلكية و اللاسلكية – منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية – منظمة التجارة العالمية – المنظمة العالمية للأرصاد الجوية – المنظمة الاستشارية الحكومية الدولية للملاحة البحرية – المنظمة العالمية للملكية الفكرية – محكمة العدل الدولية – المجلس الاقتصادي والاجتماعي بكافة هيئاته و لجانه المتنوعة…)
وبمناسبة الكلام عن رسمية اللغة العربية دوليا، نرى من المناسب التذكير بقرار اعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات التخاطب في الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها الرئيسية، فقد جاء في هذا القرار الصادر في الاجتماع رقم 2206 بتاريخ 18 دجنبر 1973 ما يلي:
“إن الجمعية العامة للأمم المتحدة، إدراكا للدور المهم للغة العربية، في نشر حضارة الإنسان وثقافته، وتطويرها والمحافظة عليها؛ وتقديرا للغة العربية ، كونها لغة تسع عشرة دولة عضو في الأمم المتحدة، و إحدى اللغات المستعملة في المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، مثل منظمة التربية والعلوم والثقافة، ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية، وأيضا كونها إحدى اللغات الرسمية ولغات التخاطب في منظمة الوحدة الإفريقي؛ وتطلعًا إلى تحقيق تعاون دولي أكبر، و تناسق أعمق للمواقف بين الدول و هما من ضمن الأهداف الواردة في ميثاق الأمم المتحدة… فقد تقرر أن تصبح اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية ولغات التخاطب في الجمعية العامة ولجانها الرئيسية، على أن تعدل البنود ذات الصلة و قواعد الإجراءات المعمول بها في الجمعية.”
ومن ناحية رابعة، لأن معرفة لغة أو أكثر من اللغات الأجنبية الحية، إذا كان مفيدا من حيث التعرف على ثقافة الآخرين وعلومهم، فإن ذلك لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يؤدي إلى خرق الدستور المغربي الذي يوجب استعمال اللغة العربية باعتبارها لغة رسمية، وهو الدستور الذي ينص في فقرته السابعة من الفصل الخامس بأنه “يحدث مجلس وطني للغات و الثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية و تنمية اللغتين العربية والامازيغية.”
ومن المعلوم، ارتكازا على القاعدة العلمية التي تقول بأن العضو الذي لا يشتغل يموت، فإن استعمال اللغة العربية هو الذي يقويها وينميها، والعكس صحيح، إذ أن عدم استعمالها هو الذي يضعفها و يؤدي إلى قتلها …
ـ 3 ـ و لأنه، وعلى خلاف ما جاء في حيثيات الحكم المعني: فإذا كان دستور 2011، كسابقيه، لم ينص على جزاءات مدنية أو تأديبية أو جنائية توقع على من خرق يخرق مقتضياته، فإنه كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، فإن جميع المقتضيات الدستور تعتبر من النظام العام و بالتالي لا يجوز مخالفتها .
كما أن الدستور، يعتبر أعلى درجة، على مستوى القوانين، بما في ذلك القوانين التنظيمية، وطبقا للفصل السادس من الدستور فإن “القانون هو أسمى تعبير عن إدارة الأمة، والجميع أشخاصا ذاتيين واعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له.”
كما أن استعمال اللغة العربية هو حق من حقوق الوطنية المكفولة دستوريا، وأنه، وفقا للفصل 225 من القانون الجنائي، فإن “كل قاض، أو موظف عمومي، أو أحد رجال أو مفوض السلطة أو القوة العمومية يأمر أو يباشر بنفسه عملا تحكميا ماسا بالحقوق الوطنية… يعاقب بالتجرد من الحقوق الوطنية.”
ومفهوم الموظف، في النطاق الجنائي، واسع إذ يشمل، طبقا للفصل 224 من القانون الجنائي: “… كل شخص كيفما كانت صفته، يعهد إليه، في حدود معينة، مباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة باجر أو بدون أجر و يساهم بذلك في خدمة الدولة، أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام.”
ومن الناحية التأديبية، فإن عدم الامتثال لمقتضيات القانون، من طرف موظف، من موظفي الدولة، كيفما كانت رتبته في السلك الإداري يعرضه للمؤاخذات التأديبية، وعند الاقتضاء إلى المتابعة الجنائية وذلك تطبيقا لمقتضيات الفصل 17 من قانون الوظيفة العمومية .
ـ 4 ـ ولا يمكن الركون إلى ما ذهبت إليه حيثية الحكم: “من كون استعمال اللغة العربية يقتصر على المرافعات و الأحكام دون باقي الوثائق.” فمن جهة، فإن مفهوم كلمة “المداولات” الواردة في الفصل 5 من القانون رقم 64 . 3 المتعلق بتوحيد المحاكم لا تعني مداولة القضاة من أجل البت في النزاع، وهي المداولة التي تتم سريا، وإنما تعني المداولة العلنية أي المناقشة التي تتم بين الأطراف في الجلسة العلنية للمحكمة، فهذه المناقشة يجب أن تتم باللغة العربية وجميع المستندات المعروضة والمعتمد عليها في هذه المناقشة العلنية يجب أن تكون محررة بالعربية أو مترجمة إليها. ومن جهة أخرى، فإنه وفقا للفصل الأول من قرار من وزير العدل رقم 65 . 414 بتاريخ 29 يونيو 1965 والخاص باستعمال اللغة العربية لدى محاكم المملكة فإنه: “يجب أن تحرر باللغة العربية، ابتداء من فاتح يوليوز 1965، جميع المقالات والعرائض والمذكرات وبصفة عامة جميع الوثائق المقدمة إلى مختلف المحاكم.” ومن جهة ثالثة، فقد سبق لثلاثة رؤساء حكومات، آخرهم رئيس الحكومة الحالي أن كاتبوا، في نطاق تفعيل مقتضيات الدستور المتعلقة برسمية اللغة العربية، جميع الوزراء، ومن خلالهم جميع المؤسسات العمومية التابعة لهم، طالبين منهم استعمال اللغة العربية في جميع المرافق العمومية…
ـ 5 ـ أما ما جاء في حيثية الحكم من كون “صدور الإعلان بالفرنسية للترشيح في مناصب المسؤولية المعلن عنها من طرف المطلوبة في الطعن في نازلة الحال، يندرج ضمن هذا السياق، وضمن المهارات والكفاءات المطلوبة لتقلد المسؤولية التي تفرض إتقان جميع اللغات الحية بالنظر لخصوصية المرفق، وعلاقته بالمحيطين الداخلي و الخارجي..” فيرد على ما جاء في هذه الحيثية أنه:
من جانب: فإن المهارات و الكفاءات لا علاقة لها باللغة التي نمارس بها هذه المهارات والكفاءات، إذ ليس كل من يجيد لغة أجنبية حية يعتبر ماهرا وكفئنا في المهمة أو المسؤولية المسندة إليه ، وليس كل من يستعمل اللغة العربية غير ماهر وغير كفء في المهمة أو المسؤولية المسندة إليه .ومن جانب آخر، فإن المواطن المغربي الذي لا يعرف العربية أو لا يجيدها يجب ألا تسند إليه أية مهمة أو مسؤولية عمومية. وبهذه المناسبة يجب التذكير، بأنه طبقا للفصل 11 المتعلق بشروط التجنيس، وهو الفصل الذي ينتمي إلى الظهير رقم 250. 58. 1 من قانون الجنسية، فإن من بين شروط التجنيس “المعرفة الكافية باللغة العربية”. ومن جانب ثالث: فإن اللغة العربية قادرة ـ كما أثبتنا ذلك أعلاه ـ على استيعاب وتصريف كافة أنواع المعرفة التقنية وغير التقنية .ومن جانب رابع، فإنه إذا كانت مناصب المسؤولية المعلن عنها من طرف “الوكالة الحضرية وإنقاذ فاس” “تفرض إتقان جميع اللغات الحية بالنظر لخصوصية المرفق، وعلاقته بالمحيطين الداخلي والخارجي” إذا كان الأمر كذلك، فنحن نتساءل ونسأل ونسائل:
ـ لماذا لم يحرر القرار المطعون فيه بجميع اللغات الحية، وعددها يقدر بالعشرات، و ليس باللغة الفرنسية وحدها؟!
ـ ولماذا لم يشترط في المرشحين إتقان جميع اللغات الأجنبية الحية، وليست الفرنسية وحدها؟!
ـ وإذا كان المقصود بالمحيط الداخلي: المغاربة المقيمين في المغرب، فلغة هؤلاء الرسمية هي العربية وهي التي يجب التعامل بها .
وإذا كان المقصود بالمحيط الداخلي المؤسسات الأجنبية والأجانب المقيمين بالمغرب من أجل أغراض و مهام مختلفة، بما في ذلك المهام الدبلوماسية والقنصلية، فإن هؤلاء بدورهم، ملزمون باستعمال العربية منهم وإليهم، ليس فقط ارتكازا على مقتضيات الدستور، وإنما أيضا طبقا للمادة 41 من اتفاقية فيينا الدبلوماسية الموقعة في فيينا بتاريخ 24/ 4/1963، ووفقا للمادة 55 من اتفاقية فيينا حول العلاقات القنصلية الموقعة في فيينا في 24 /4/1963 وهي المادة التي تتعلق باحترام قوانين وأنظمة دولة الإقامة .
وإذا كان المقصود بالعلاقة بالمحيط الخارجي “الأمم المتحدة ” ومختلف الأجهزة واللجان والمنظمات المتفرعة عنها، فإنه يمكن مراسلتها بالعربية وبعث التقارير والمقررات إليها بالعربية، وذلك على اعتبار أن العربية هي إحدى اللغات الست الرسمية التي تستعملها وتتعامل بها …
أما إذا كان المقصود بالمحيط الخارجي: الدول الأجنبية ومختلف المؤسسات التابعة والشركات الموجودة بها (مثلا روسيا – الصين – ايطاليا – انجلترا – كوريا – بولونيا… إلخ )، ففي مثل هذه الحالات مكاتبتهم تتم مكاتبتهم بلغاتهم الرسمية. وبطبيعة الحال فليس من المتصور ولا المقبول والمطلوب أن يتقن مسؤولو “الوكالة الحضرية وإنقاذ فاس” اللغات الرسمية لتلك الدول وغيرها من الدول الأجنبية المتعامل معها فذلك من رابع المستحيلات “أن التعامل مع الدول الأجنبية، ذات اللغات الحية وغير الحية، يتم عبر التراجمة، وهذا هو دور التراجمة المحلفين وليس دور المسؤولين في مختلف الإدارات والمؤسسات المغربية .
ـ 6 ـ يبقى التعليق على ما جاء في حيثيات الحكم من كون خصوصية المرافق “الوكالة المعنية” تقتضي معرفة المسؤولين عن تسييرها لجميع اللغات الحية: فمن ناحية، لم يقع تحديد نوع هذه الخصوصية .ومن ناحية أخرى، فإن أية خصوصية لا يمكن أن تسمح بخرق مقتضيات الدستور .ومن ناحية ثالثة، فما يمكن استنتاجه من اسم “الوكالة الحضرية وإنقاذ فاس” هو أن مهمتها هي المحافظة والحماية لتراث فاس، و تراث فاس، من بناء وآثار ومؤلفات علمية وفقهية وأدبية وفلسفية، كلها تراث يجسم الحضارة العربية الإسلامية المحررة والمكتوبة بالعربية… ولهذا السبب أيضا فليس من المقبول والمعقول أن يعلن عن فتح باب الترشيح الداخلي لمناصب المسؤولية “بالوكالة الحضرية وإنقاذ فاس” بلغة أجنبية وليس باللغة العربية .
انتقد المحامي النقيب عبد الرحمن بن عمرو الحكم الذي أصدرته المحكمة الإدارية في فاس، أواخر يونيو المنصرم، والقاضي بعدم وجوب استعمال اللغة العربية في قرار
لمؤسسة عمومية، واعتبره مجانبا للصواب.
وكان المكتب المحلي في فاس للنقابة الوطنية للوكالة الحضرية (التابعة للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب) رفع دعوى ضد الوكالة الحضرية وإنقاذ فاس، مطالبا بإلغاء القرار الذي أصدره مدير هذه المؤسسة، والذي يعلن فيه عن فتح باب الترشيح الداخلي لملء مناصب شاغرة للمسؤولية. وعللت الجهة صاحبة الدعوى ذلك بكون القرار المذكور مكتوبا باللغة الفرنسية، وهو ما يشكل مخالفة صريحة لمقتضيات الفصل الخامس من الدستور المغربي التي تنص على أن اللغة العربية تظل اللغة الرسمية للدولة.
غير أن المحكمة أجابت في رفضها لموضوع الطلب الدعوى بالحيثيات التالية:
ـ لئن كانت مقتضيات الفصل الخامس من الدستور المغربي تنص على أن اللغة العربية تظل اللغة الرسمية، فإن هذا لا يفيد منه استعباد باقي اللغات الأجنبية الأخرى في التعامل باعتبارها تشكل رافدا من روافد الدولة العصرية المبنية على الانفتاح، والمتشبثة بالمواثيق الدولية وفق دستور 2011 الذي لم يرتب آثارا على مخالفة ذلك، فضلا عن كون استعمال اللغة العربية يقتصر على المرافعات والأحكام دون باقي الوثائق.
ـ إن صدور الإعلان بالفرنسية للترشيح في مناصب المسؤولية المعلن عنها من طرف المطلوبة في الطعن في نازلة الحال، يندرج ضمن هذا السياق، وضمن المهارات والكفاءات المطلوبة لتقلد المسؤولية التي تفرض إتقان جميع اللغات الحية بالنظر لخصوصية المرفق، وعلاقته بالمحيطين الداخلي والخارجي، مما يكون معه النعي المثار في هذه الوسيلة مردود على مثيره.”
وكتب النقيب عبد الرحمن بن عمرو تعليقا مفصلا على حيثيات الحكم، أورده الدكتور فؤاد بوعلي في صفحته الافتراضية، وذلك على النحو التالي:
ـ 1 ـ إن جميع مقتضيات الدستور تعتبر من النظام العام، وبالتالي يترتب على مخالفتها بطلان الإجراء أو التصرف أو القرار المخالف لها وذلك بدون حاجة للنص في الدستور على ترتيب جزاء معين على مخالفتها. ومن المعلوم أن الفصل 5 من الدستور ينص على رسمية اللغة العربية، وأن ترسيم أية لغة يعني، قانونيا، وجوب استعمالها في جميع المرافق العمومية للدولة بما في ذلك المرافق الإدارية بجميع أنواعها، والحكم الذي نعلق عليه، بعدم أخذه بعين الاعتبار هذا المقتضى، يكون بذلك مخالفا للدستور الذي يعتبر أعلى درجة في القانون .
ومن المعلوم أن حيثيات الحكم المعني أجازت للإدارة المغربية، ليس فقط استعمال اللغة الفرنسية بل كل اللغات الأجنبية الحية، الأمر الذي يعني أن الحكم رسم، واقعيا، جميع اللغات الأجنبية الحية التي لم يرسمها الدستور قانونيا. وكما هو معروف، في نطاق أصول القوانين، فإن الموجود قانونا كالموجود فعلا والمعدوم قانون كالمعدوم فعلا …
ـ 2 ـ ولأنه: من ناحية: فإن اللغة ما هي إلا وسيلة من وسائل الوصول إلى المعرفة و ليس المعرفة ذاتها .ومن ناحية أخرى، فإن الفرنسية ليست اللغة الأجنبية الحية الوحيدة الموصلة للمعرفة. ومن ناحية ثالثة، فإن اللغة العربية، بدورها لغة حية قادرة على نقل المعرفة، ليست لدورها التاريخي في نقل المعرفة والفلسفة والثقافة اليونانية إليها ومن خلالها إلى الغرب المعاصر، وإنما، بالإضافة إلى ذلك وغيره لأن اللغة العربية، بسبب التنمية التي لحقتها، واتساع حجم استعمالها الدولي تأهلت لتصبح، ضمن ست (6) لغات رسمية في الأمم المتحدة، تستعمل وجوبا، دون لغات بقية الأعضاء، في جميع أجهزتها، بما في ذلك الأجهزة المختصة في كافة العلوم والمعرفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والحقوقية والصحية والزراعية والصناعية والشغلية… (مثلا: الجمعية العامة – مجلس الأمن – منظمة العمل الدولية – منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة – منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة . منظمة الصحة العالمية – المنظمة الإنمائية الدولية – المصرف الدولي للإنشاء والتعمير – مؤسسة التمويل الدولية – صندوق النقد الدولي – منظمة الطيران المدني الدولي – الاتحاد البريدي العالمي – الاتحاد الدولي للمواصلات السلكية و اللاسلكية – منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية – منظمة التجارة العالمية – المنظمة العالمية للأرصاد الجوية – المنظمة الاستشارية الحكومية الدولية للملاحة البحرية – المنظمة العالمية للملكية الفكرية – محكمة العدل الدولية – المجلس الاقتصادي والاجتماعي بكافة هيئاته و لجانه المتنوعة…)
وبمناسبة الكلام عن رسمية اللغة العربية دوليا، نرى من المناسب التذكير بقرار اعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات التخاطب في الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها الرئيسية، فقد جاء في هذا القرار الصادر في الاجتماع رقم 2206 بتاريخ 18 دجنبر 1973 ما يلي:
“إن الجمعية العامة للأمم المتحدة، إدراكا للدور المهم للغة العربية، في نشر حضارة الإنسان وثقافته، وتطويرها والمحافظة عليها؛ وتقديرا للغة العربية ، كونها لغة تسع عشرة دولة عضو في الأمم المتحدة، و إحدى اللغات المستعملة في المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، مثل منظمة التربية والعلوم والثقافة، ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية، وأيضا كونها إحدى اللغات الرسمية ولغات التخاطب في منظمة الوحدة الإفريقي؛ وتطلعًا إلى تحقيق تعاون دولي أكبر، و تناسق أعمق للمواقف بين الدول و هما من ضمن الأهداف الواردة في ميثاق الأمم المتحدة… فقد تقرر أن تصبح اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية ولغات التخاطب في الجمعية العامة ولجانها الرئيسية، على أن تعدل البنود ذات الصلة و قواعد الإجراءات المعمول بها في الجمعية.”
ومن ناحية رابعة، لأن معرفة لغة أو أكثر من اللغات الأجنبية الحية، إذا كان مفيدا من حيث التعرف على ثقافة الآخرين وعلومهم، فإن ذلك لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يؤدي إلى خرق الدستور المغربي الذي يوجب استعمال اللغة العربية باعتبارها لغة رسمية، وهو الدستور الذي ينص في فقرته السابعة من الفصل الخامس بأنه “يحدث مجلس وطني للغات و الثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية و تنمية اللغتين العربية والامازيغية.”
ومن المعلوم، ارتكازا على القاعدة العلمية التي تقول بأن العضو الذي لا يشتغل يموت، فإن استعمال اللغة العربية هو الذي يقويها وينميها، والعكس صحيح، إذ أن عدم استعمالها هو الذي يضعفها و يؤدي إلى قتلها …
ـ 3 ـ و لأنه، وعلى خلاف ما جاء في حيثيات الحكم المعني: فإذا كان دستور 2011، كسابقيه، لم ينص على جزاءات مدنية أو تأديبية أو جنائية توقع على من خرق يخرق مقتضياته، فإنه كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، فإن جميع المقتضيات الدستور تعتبر من النظام العام و بالتالي لا يجوز مخالفتها .
كما أن الدستور، يعتبر أعلى درجة، على مستوى القوانين، بما في ذلك القوانين التنظيمية، وطبقا للفصل السادس من الدستور فإن “القانون هو أسمى تعبير عن إدارة الأمة، والجميع أشخاصا ذاتيين واعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له.”
كما أن استعمال اللغة العربية هو حق من حقوق الوطنية المكفولة دستوريا، وأنه، وفقا للفصل 225 من القانون الجنائي، فإن “كل قاض، أو موظف عمومي، أو أحد رجال أو مفوض السلطة أو القوة العمومية يأمر أو يباشر بنفسه عملا تحكميا ماسا بالحقوق الوطنية… يعاقب بالتجرد من الحقوق الوطنية.”
ومفهوم الموظف، في النطاق الجنائي، واسع إذ يشمل، طبقا للفصل 224 من القانون الجنائي: “… كل شخص كيفما كانت صفته، يعهد إليه، في حدود معينة، مباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة باجر أو بدون أجر و يساهم بذلك في خدمة الدولة، أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام.”
ومن الناحية التأديبية، فإن عدم الامتثال لمقتضيات القانون، من طرف موظف، من موظفي الدولة، كيفما كانت رتبته في السلك الإداري يعرضه للمؤاخذات التأديبية، وعند الاقتضاء إلى المتابعة الجنائية وذلك تطبيقا لمقتضيات الفصل 17 من قانون الوظيفة العمومية .
ـ 4 ـ ولا يمكن الركون إلى ما ذهبت إليه حيثية الحكم: “من كون استعمال اللغة العربية يقتصر على المرافعات و الأحكام دون باقي الوثائق.” فمن جهة، فإن مفهوم كلمة “المداولات” الواردة في الفصل 5 من القانون رقم 64 . 3 المتعلق بتوحيد المحاكم لا تعني مداولة القضاة من أجل البت في النزاع، وهي المداولة التي تتم سريا، وإنما تعني المداولة العلنية أي المناقشة التي تتم بين الأطراف في الجلسة العلنية للمحكمة، فهذه المناقشة يجب أن تتم باللغة العربية وجميع المستندات المعروضة والمعتمد عليها في هذه المناقشة العلنية يجب أن تكون محررة بالعربية أو مترجمة إليها. ومن جهة أخرى، فإنه وفقا للفصل الأول من قرار من وزير العدل رقم 65 . 414 بتاريخ 29 يونيو 1965 والخاص باستعمال اللغة العربية لدى محاكم المملكة فإنه: “يجب أن تحرر باللغة العربية، ابتداء من فاتح يوليوز 1965، جميع المقالات والعرائض والمذكرات وبصفة عامة جميع الوثائق المقدمة إلى مختلف المحاكم.” ومن جهة ثالثة، فقد سبق لثلاثة رؤساء حكومات، آخرهم رئيس الحكومة الحالي أن كاتبوا، في نطاق تفعيل مقتضيات الدستور المتعلقة برسمية اللغة العربية، جميع الوزراء، ومن خلالهم جميع المؤسسات العمومية التابعة لهم، طالبين منهم استعمال اللغة العربية في جميع المرافق العمومية…
ـ 5 ـ أما ما جاء في حيثية الحكم من كون “صدور الإعلان بالفرنسية للترشيح في مناصب المسؤولية المعلن عنها من طرف المطلوبة في الطعن في نازلة الحال، يندرج ضمن هذا السياق، وضمن المهارات والكفاءات المطلوبة لتقلد المسؤولية التي تفرض إتقان جميع اللغات الحية بالنظر لخصوصية المرفق، وعلاقته بالمحيطين الداخلي و الخارجي..” فيرد على ما جاء في هذه الحيثية أنه:
من جانب: فإن المهارات و الكفاءات لا علاقة لها باللغة التي نمارس بها هذه المهارات والكفاءات، إذ ليس كل من يجيد لغة أجنبية حية يعتبر ماهرا وكفئنا في المهمة أو المسؤولية المسندة إليه ، وليس كل من يستعمل اللغة العربية غير ماهر وغير كفء في المهمة أو المسؤولية المسندة إليه .ومن جانب آخر، فإن المواطن المغربي الذي لا يعرف العربية أو لا يجيدها يجب ألا تسند إليه أية مهمة أو مسؤولية عمومية. وبهذه المناسبة يجب التذكير، بأنه طبقا للفصل 11 المتعلق بشروط التجنيس، وهو الفصل الذي ينتمي إلى الظهير رقم 250. 58. 1 من قانون الجنسية، فإن من بين شروط التجنيس “المعرفة الكافية باللغة العربية”. ومن جانب ثالث: فإن اللغة العربية قادرة ـ كما أثبتنا ذلك أعلاه ـ على استيعاب وتصريف كافة أنواع المعرفة التقنية وغير التقنية .ومن جانب رابع، فإنه إذا كانت مناصب المسؤولية المعلن عنها من طرف “الوكالة الحضرية وإنقاذ فاس” “تفرض إتقان جميع اللغات الحية بالنظر لخصوصية المرفق، وعلاقته بالمحيطين الداخلي والخارجي” إذا كان الأمر كذلك، فنحن نتساءل ونسأل ونسائل:
ـ لماذا لم يحرر القرار المطعون فيه بجميع اللغات الحية، وعددها يقدر بالعشرات، و ليس باللغة الفرنسية وحدها؟!
ـ ولماذا لم يشترط في المرشحين إتقان جميع اللغات الأجنبية الحية، وليست الفرنسية وحدها؟!
ـ وإذا كان المقصود بالمحيط الداخلي: المغاربة المقيمين في المغرب، فلغة هؤلاء الرسمية هي العربية وهي التي يجب التعامل بها .
وإذا كان المقصود بالمحيط الداخلي المؤسسات الأجنبية والأجانب المقيمين بالمغرب من أجل أغراض و مهام مختلفة، بما في ذلك المهام الدبلوماسية والقنصلية، فإن هؤلاء بدورهم، ملزمون باستعمال العربية منهم وإليهم، ليس فقط ارتكازا على مقتضيات الدستور، وإنما أيضا طبقا للمادة 41 من اتفاقية فيينا الدبلوماسية الموقعة في فيينا بتاريخ 24/ 4/1963، ووفقا للمادة 55 من اتفاقية فيينا حول العلاقات القنصلية الموقعة في فيينا في 24 /4/1963 وهي المادة التي تتعلق باحترام قوانين وأنظمة دولة الإقامة .
وإذا كان المقصود بالعلاقة بالمحيط الخارجي “الأمم المتحدة ” ومختلف الأجهزة واللجان والمنظمات المتفرعة عنها، فإنه يمكن مراسلتها بالعربية وبعث التقارير والمقررات إليها بالعربية، وذلك على اعتبار أن العربية هي إحدى اللغات الست الرسمية التي تستعملها وتتعامل بها …
أما إذا كان المقصود بالمحيط الخارجي: الدول الأجنبية ومختلف المؤسسات التابعة والشركات الموجودة بها (مثلا روسيا – الصين – ايطاليا – انجلترا – كوريا – بولونيا… إلخ )، ففي مثل هذه الحالات مكاتبتهم تتم مكاتبتهم بلغاتهم الرسمية. وبطبيعة الحال فليس من المتصور ولا المقبول والمطلوب أن يتقن مسؤولو “الوكالة الحضرية وإنقاذ فاس” اللغات الرسمية لتلك الدول وغيرها من الدول الأجنبية المتعامل معها فذلك من رابع المستحيلات “أن التعامل مع الدول الأجنبية، ذات اللغات الحية وغير الحية، يتم عبر التراجمة، وهذا هو دور التراجمة المحلفين وليس دور المسؤولين في مختلف الإدارات والمؤسسات المغربية .
ـ 6 ـ يبقى التعليق على ما جاء في حيثيات الحكم من كون خصوصية المرافق “الوكالة المعنية” تقتضي معرفة المسؤولين عن تسييرها لجميع اللغات الحية: فمن ناحية، لم يقع تحديد نوع هذه الخصوصية .ومن ناحية أخرى، فإن أية خصوصية لا يمكن أن تسمح بخرق مقتضيات الدستور .ومن ناحية ثالثة، فما يمكن استنتاجه من اسم “الوكالة الحضرية وإنقاذ فاس” هو أن مهمتها هي المحافظة والحماية لتراث فاس، و تراث فاس، من بناء وآثار ومؤلفات علمية وفقهية وأدبية وفلسفية، كلها تراث يجسم الحضارة العربية الإسلامية المحررة والمكتوبة بالعربية… ولهذا السبب أيضا فليس من المقبول والمعقول أن يعلن عن فتح باب الترشيح الداخلي لمناصب المسؤولية “بالوكالة الحضرية وإنقاذ فاس” بلغة أجنبية وليس باللغة العربية .