حمص – الأدب الرقمي حالة تطورية لمسار الأدب، وتغيِّر علاقته بالوسيط التكنولوجي مادتَه اللغوية، فإذا كانت المادة المعجمية هي الأساس في تجربة النص الأدبي فإن موقعها في النص الرقمي يتغير، وتصبح اللغة المعلوماتية ذات وجود جوهري في
إنجاز النص الرقمي؛ إذ تتمثل الاختلافات بدءاً بشاشة الكمبيوتر إلى البرامج المعلوماتية إلى مكونات الإنتاج التي تثير أسئلة؛ لأن الشكل الأدبي يتغير تبعاً لطبيعة المادة الجديدة، فلغة المعلوماتية تنجز مساحة مفتوحة للنص يمتلك القارئ فيها سلطة تدبير النص من خلال خياراته في تشغيل الروابط أو تركها، أو التعامل مع بعضها فقط.
ولا يغادر الأدب الرقمي الكمبيوتر إنتاجاً، وقراءة، ونشراً، والكمبيوتر ليس مجرد وسيط للنشر. إنه يتجاوز ذلك إلى إلحاق تعديلات جوهرية على النص، فيتحول إلى غير ما سيكون عليه لو صدر عبر الوسيط الورقي.
والسؤال البديهي هل سيحل الأدب الرقمي محل الأدب الورقي؟ أو أننا على عتبة مرحلة سيختفي فيها الأدب نفسه؟ فالرقمية تجلٍّ لقطيعة مع الأدب السابق، وهي آخر مرحلة من مراحل تطور الأدب التي يمكن أن نمثلها بالشكل الآتي:
أدب شفهي- أدب ورقي-أدب رقمي.
لا يزال الأدب الرقمي في الساحة العربية ناشئاً، وخاضعاً لمنطق الخطأ والتجريب، والأعمال الرقمية العربية قليلة، بخاصة الرواية، فقد صدرت الرواية الرقمية الرابعة للروائي محمد سناجلة: “ظلال العاشق-التاريخ السري لكموش” ونُشرت على موقع اتحاد كتاب الانترنت العرب عام 2016.
ويتجاوز الهدف من هذه الرواية السرد التاريخي إلى إثارة الأسئلة حول التاريخ الإنساني الدموي بعامة؛ إذ تبدأ بحصار ملك إسرائيل آخاب بن عمري ملكَ مؤاب ميشع بن كموشيت عام 750 ق.م فقد هزموه، وقتلوا فرسانه، وسبوا نساءه، وأحرقوا قراه، ونهبوا أمواله.
ثم تتسلسل الأحداث تسلسلاً سردياً تعاقبياً حين هرب الملك وجنده، وتحصّنوا في القلعة، ورماهم الطرف المعادي بالمنجنيقات والنيران.
وحين تصل الرواية إلى الذروة الدرامية يقول الكاهن لميشع بن كموشيت: “إن رب الأرباب كموش المتعالي قد غضب على مؤاب لخطاياها ورزاياها، وما عملته من معصية الرب حين لم تخلص في عبادته، وجحدت وصاياه، وأنكرت واجباته، فأحلّت ما حُرِّم، وحرّمت ما حُلّل”.
ويرى الملك رؤيا تحرف السرد عن مساره، فقد رأى الرب كموش بلباس الحرب، وقد رفعه إليه مرات حتى أشرف على الموت، ثم صاح به عماد الدم، فإذا ببسيطة حمراء فُرشت تحته، وحملته إلى الكاهن، ففسر الكاهن الرؤيا بأنه كُتب على الملك تقديم قربان عظيم محرقة خالصة لوجه الرب، وهو ابنه البكر.
ويَحدث استرسال سردي، ويتجاور الوصف والسرد في مواضع متعددة، وتتسلسل الأحداث، ويلجأ صانع النص الرقمي إلى المشاهد الحية والحقيقية في بعض مفاصل الرواية، كمشهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة على يد داعش في الرقة السورية عام 2015، كما يوظّف مشاهد من أفلام سينمائية، وأغاني لمطرب أردني، يرافق ذلك موسيقى، ومؤثرات صوتية، ورسوم متحركة، وإخراج سينمائي، وبرمجة الكترونية باستخدام برنامج فلاش مايكروميديا.
والجديد في هذه الرواية توظيف الحواشي؛ لجعلها نصاً موازياً، فثمة حواشٍ ترتبط بالمتن، تشرح، وتفسّر، وتحيل على مصادر، فيتوازى النص العجائبي والغرائبي، ويُحكَم المتن بمبدأ التعاقب والسببية الموجود في السرد، والمحقق مع المتوازيات الزمنية، فترتبط الوقائع الفانتازية بالواقع ارتباط السبب بالنتيجة، وهذا ما يجعل للحدث الماضوي قيمة حداثية بإسقاطه على الحاضر، فالماضي هو الحاضر في صورة ما.
ويؤدي الخطاب العجائبي والغرائبي والأسطوري إلى قراءة إسقاطية، لا تركز على نصّ الرواية بجانبيه اللغوي والتكنولوجي، بل تمرّ به إلى الآخر/المجتمع؛ ليغدو النص الرقمي دليلاً على صحة الرؤيا التي تبناها سناجلة، والمتعلقة بالتاريخ السري لكموش، والذي أراد له الظهور.
إن كموشاً إله قديم لدى الأردنيين، لكنه أراد من وراء سرد قصته معالجة فكرة العنف في الأديان، ولا يقف المبحِر متفرجاً، بل تؤدي لغة الرواية، ورقميتها بإحالتها على هوامش لها صحة تاريخية، ودينية، وشعرية إلى إثبات الفكرة الجوهرية المستترة وراء قصة ابن الملك.
فثمة تناص مع القرآن الكريم حين قدّم الملك ولده قرباناً “وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون” وحين همّ بقتل ابنه ظهر كموش بلباس الحرب، يقود عربة ومعه كبش عظيم، فأمر الملكَ بذبحه، ونثر دمه على أعدائه، فينهزمون، فهرب الأعداء، وتبعهم الملك وجنوده يقتلون، ويسبون من فلولهم!
ثم أمر ابنه بالهجوم على العبرانيين، وتحيل الجمل باللون الأزرق على مشاهد متحركة، فقد فوجئوا بالفيلة تظهر، فقُتل منهم عدد، وهرب عدد، لكن ابن الملك ثبت، فعاد مَن هرب، وارتجز أبياتاً، ونحال هنا على أبيات عبد الله بن رواحة:
يا نفسُ إلا تُقتَلي تموتي
هذا حِمامُ الموت قد صليتِ
وما تمنّيتِ قد أُعطيتِ
إن تفعلي فعلهما هُديتِ
لقد خلع الإسقاط ما في داخل صانع النص على شيء في العالم الخارجي، فكان ذلك الشيء هو التاريخ السري لكموش، فأفرغ ما في ذهنه في حكاية أخذت صبغة تاريخية، وهي شديدة البعد عن التاريخ.
وهدفه تعديل ما هو مُدرَك، ونبذ العنف، وإحلال السلام والمحبة؛ لأن الرب رب محبة وسلام، لا يقبل بالعنف الذي يتم باسم الدين.
وبدأ الإسقاط من الخارج النصي، وانتهى في الداخل النصيّ، فقدّمه بمتعاليات نصية، وغدا النص الرقميّ في ظلال العاشق وسيلة لعرض آراء صانع النص السياسية، والفلسفية، والدينية.
وإذا كانت الرواية العادية تخاطب المتلقي فإن الرواية الرقمية تخاطبه، وتجعله مشاركاً في التعليق. ففي يمين الشاشة عبارة: اضغط هنا للتفاعل مع الرواية. لكن هذا الخيار لا يجعل المبحِر مشاركاً، ولا يتم التفاعل معها دائماً؛ لإمكان قراءتها بعيداً عن الشبكة العنكبوتية، فلا تتحقق التفاعلية في الرواية بالطريقة التي يُفتَرض وجودها فيها.
وإذا كانت الشعرية تتحقق في مسافة التوتر، وابتعاد الدال عن المدلول فإن كلمات الرواية قد حُمّلت قدراً كبيراً من الدلالات؛ لنقد الإنسان الذي تسيطر عليه فكرة القتل، وهو يظن أنه يؤدي عبادة، وليدرك موقعه الصحيح في الكون والتاريخ. إنه يحاول أن يبعد المبحِر عن الأفكار المترسبة منذ القديم، فقد تلقى الملك نبوءة بتقديم ولده قرباناً للرب كموش؛ لكي يخرج من الحصار المفروض عليه، فاستفاد من القصة الدينية، ووظفها؛ لتغدو نصاً مضاداً لطبيعته الأصلية، ومفارقاً دلالته على مستوى الرؤيا. فقد أطلع المبحِرَ على العالم الداخلي للمؤمنين بكموش الذي لا يرضى بغير سفك الدماء، والسبي، والقتل، فغدت الروابط محيلة على العنف الذي يظن فاعلوه أنهم يرضون الرب في إشارة إلى داعش، وما يفعله باسم الإله في حين أن الدين الحقيقي حرية وسلام.
لقد انتصر ابن الملك، وحقق ما طلبه كموش منه، لكنه شعر أن الساعة قد قامت، وساد صمت، وهو صمت يقول كلاماً كثيراً كالتاريخ السري الذي أفصح عن العنف الموجود لدى البشر. ففي الصمت بلاغة، وهي تقود إلى نسق مضمر، إنها بلاغة تتخذ موقعاً وسطاً بين البلاغة التقليدية، والبلاغة الرقمية.
تفارق ظلال العاشق الرواية الرقمية في مواضع، وتلتقيها في مواضع، فثمة دلالة إيحائية رمزية عالية في الاستطراد في الوصف والسرد، ويحمل الخطاب بعداً صوفياً واضحاً:
“قبل الوجد كان الواجد.. اعترته الوحشة وعماء الوحدة، فاض به العشق، فأوجد.. فكان الموجود.. فنظرته، فما قدّرته حقّه.. المعشوق صدّ العاشق.. قال: انظر: فنظرت، فإذا بي في عالم الفناء”.
وقد احتل السرد مساحة واسعة في الرواية، فقد سرد النظرة إلى بدء التكوين بدءاً بالشخص الذي قدّس الشجرة، ثم قدّس المرأة، لكن السردية طاغية على الرواية، وتجاور السرد والوصف، وفي هذا الجانب مفارقة للنص الرقمي الذي يجب أن تكون الكلمة فيه جزءاً من كل، ويجب أن تكون الكلمات قليلة، والجمل قصيرة. فالأمر لم يتحقق في ظلال العاشق؛ لسيطرة السرد والوصف، وقد أدى هذا الأمر إلى إمكان قراءة الرواية قراءة خطية خلاف الرواية الرقمية بغض النظر عن الروابط، والهوامش. وقد ولّد هذا الأمر بعداً درامياً شائقاً، لكنه أبعد الرواية عن خصوصية النص الرقمي. فقد رفد الجانبُ التقني الجانب الأدبي ولم يكن جزءاً عضوياً تفقد الرواية جزءاً من معناها من غيره.
أما الإحالات والتعليقات فهي جانب جديد في ظلال العاشق، فقد بدا صانع النص باحثاً، وهو يوثق الآيات القرآنية، ويحيل على الأسماء الحالية للمدن كأورسالم/القدس، وبرية فاران/صحراء النقب، وعصيون جابر/ميناء ومدينة العقبة الأردنية حالياً، وهو جانب جديد يغني النص الرقمي، ويسهم في تقديم رؤية سناجلة، ورؤياه.
والعنصر البصري مهم في ظلال العاشق، يجعل المتلقي مبحراً في تأملات فلسفية وجودية، وقد وظّف العنصرين السمعي والبصري؛ لتقديم لحظة تاريخية تبدأ كما تنتهي، وتجتمع فيها الأزمنة، والروافد، والحضارات، فيغدو النص الرقمي حامل معرفة من نوع خاص باللجوء إلى العناصر التكنولوجية، فيوظف المبحِر حواسه كلها وهو يتابع حركة التاريخ المستمرة، وينشغل ذهنه في النقر على الروابط، وتتابع عيناه الحركة المشهدية، وتستمتع أذناه بالموسيقى، ويربط فكرُه بين الأحداث والوقائع.
وقد لجأ سناجلة إلى تقنية الهايبر تكست/ النص الفائق ، وتعدّ العقد والروابط من جوهر العمل الرقمي، وليست شيئاً مضافاً عليه. لكن هذه الرواية تفارق البلاغة الرقمية في هذه الزاوية، فتنشيط “شعرت بأني إله ذاتي” في فصل عتيق الرب ينقلنا إلى فصل زمن الشجر، ثم نعود إلى فصل عتيق الرب، وفي فصل الزمن العماء نعود إلى عتيق الرب الفصل المحوري بتنشيط جملة “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟” وفي فصل العاشق الوحيد نعود إلى عتيق الرب بتنشيط جملة عالم الفناء. فثمة مركزية في فصل عتيق الرب، وفروع في الفصول الأخرى، والهدف ألا يبقى العمل خطياً. فتعددت المسارات، وجُمعت في رابط واحد، وفكرة مركزية واحدة، وفي هذا الأمر إرهاق للمبحِر في الرواية.
وتغدو الفصول التي يعدّ كلٌّ منها رواية مستقلة رواية واحدة عضوياً، تُرتّب خطياً، فتبدأ بالعاشق الوحيد، ثم زمن العماء، ثم زمن الشجر، ثم عتيق الرب. ويعني هذا الأمر أن هذه الرواية يمكن أن تتحول إلى رواية خطية، فيستطيع المبحِر أن يقرأ ما يريد منها، لكنه يرتب الأفكار في ذهنه خطياً، ويحيل هذا الأمر على الروابط، فهي تؤكد ما جاء في السرد، وبحذفها لا يختل النص السردي.
ولجأت الرواية إلى الخطاب العجائبي والغرائبي، وإلى الأسطرة في بعض المواضع، وهو سرد غني بالدلالات الإيحائية، لكنه يجعل الرواية مختلفة عن الرواية الرقمية التي نظّر لها سناجلة، وقال عنها إنها تعبر عن العصر الرقمي، والإنسان الرقمي الافتراضي الذي يعيش في المجتمع الافتراضي، فقد حملت خطاباً رمزياً، واستلهمت أساطير التكوين، وتقاطعت مع الخلفيات الدينية وصولاً إلى فكرة أن الدين حرية، واتحاد صوفي بالخالق لكيلا يتحول الإنسان إلى ظل لكموش دموي. وقد وظّف هذه الفكرة بالمتوازيات الزمنية، فدعا إلى النظر إلى التاريخ بعيداً عن التمجيد والأسطرة، وكأنه يجدد دعوة المعري إلى أن يكون العقل إمامنا، وأن نرفض ما لا يقبله العقل. فالتاريخ القائم على الحرب والدم يجب أن يُساءَل لكي نبني مستقبلاً برؤيا صحيحة.
من سمات النص الرقمي أن المبحِر يمكن أن ينتقل فيه بحرية، ويتجاوز بعض المشاهد والروابط. لكن الغلاف الرقمي في ظلال العاشق مختلف، فقد بدأ غلاف الرواية الرقمي المتحرك بمشهد حرب قديم حيث المقاتلون يعتلون أحصنتهم، والسيوف والرماح في أيديهم، يتجهون إلى الهدف، فيقتلون ويُقتَلون، ويرمون بالسهام، فتعود إلى الخلف، وتطير الطيور السود فوق جثث قتلاهم في النهاية.
وتظهر العتبة النصية “ظلال العاشق” باللون الأحمر الذي يقطر دماً، والعتبة الفرعية “التاريخ السري لكموش” باللون الأزرق.
والمدة الزمنية للغلاف الرقمي طويلة نسبياً، لا يمكن اختصارها، والدخول مباشرة في العمل، ولا بد من المرور بها كاملة قبل الإبحار في ظلال العاشق. ويبدو هذا الأمر مقصوداً من قبل سناجلة، فقد وظّف الغلاف الرقمي لخدمة هدفه الحجاجي، فتهيئ المقدمة المتلقي للدخول في العمل، وتستميله، وتؤثر فيه، وتثير اهتمامه، فلها وظيفة حجاجية، وهو حجاج بلاغي قائم على بلاغة رقمية تلجأ إلى الرسوم المتحركة، والصوت، والحركة الصاخبة، والموسيقى المرافقة، والألوان المثيرة للاهتمام. فالعتبة النصية تقطر دماً، والعتبة الفرعية بلون أزرق يلفت المبحِر. ويعدّ الغلاف الرقمي نصاً موازياً مختلفاً عن الغلاف الورقي، فالعاشق عاشق للدم والعنف؛ لظنه أنه يتقرب إلى الإله.
إنه يريد أن يقول من وراء بلاغة الغلاف الرقمي إن هذا الرعب القادم من التاريخ يزهر، ويثمر في حياتنا المعاصرة، ولا يمكن أن يدع العاشق عاشقاً بوجد صوفي للذات الخالقة، ولا يمكن أن يكون حراً في أن يمارس فعله خارج طقوس العنف المستتر بالدين، وهذا ما يفسر تعلق هذه الرواية الرقمية بالذاكرة التاريخية المغرقة في القدم، والملامِسة أساطير التكوين والرموز؛ ليعبر عن تحول الإنسان عن سلوك الخير والمحبة والسلام بلغة بالغة العنف، وبنصّ متمرد على الكتابة الورقية بلجوئه إلى الوسيط التكنولوجي من جهة، ومتحول عن النص الرقمي الذي ألفناه في الروايات السابقة له من جهة اللجوء إلى التعليقات، والحواشي، والاستطراد في الوصف والسرد، وهذا ما تحتمله الرواية الرقمية.
ويوحي الغلاف الرقمي بجو العنف، وتحيل عتبته النصية “ظلال العاشق” على حال عشقية خاصة تحيل على جرح وألم، فالدماء تتقاطر من هاتين الكلمتين، وتوحي بصورة عاشق عنيف. والعتبة الفرعية “التاريخ السري لكموش” تعني أن ثمة نسقاً مضمراً يختلف عن التاريخ الظاهر، وترتبط العتبة الفرعية بالعتبة الأصلية بعلاقة تضاد. فلا يمكن إخفاء العشق، وهذا التاريخ سريّ. وتشكل عتبة الغلاف الرقمي بوابة تفتح النص على عوالم خيالية، أو حقيقية، فتوهم العتبة الفرعية أنه سيسرد التاريخ السري لكموش، ويعني ذلك أن هذه العتبة ترتبط بنوع خاص تاريخي سِيَريّ، وتحيل على التشاكل السيميائي بين السيرة التاريخية، والرواية الرقمية.
ويستمر التاريخ المتخيَّل حاضراً في عالم الرواية الذي يلتقي الواقع بخاصة ما يحدث في سوريا في ظل وجود داعش.
إن ثمة طابعاً بصرياً، وطابعاً سمعياً في الغلاف الرقمي؛ لذا يمكن عدّه نصاً موازياً يوازي النصوص في ظلال العاشق برمتها. إنه هوية للمتن، وغلاف يندرج في حقل التناص الأجناسي، ويمثل حوارية بين حقلين مختلفين أجناسياً: الأدب/ التاريخ.
ومما لا شك فيه أن توظيف جنس في جنس أدبي آخر يحمل قصداً من قبل سناجلة، ويتعين على ذلك أن التناصّ الأجناسي، وحوارية الأنواع عملية اختيارية قصدية لدى صانع النص الرقمي.
تمثل هذه الرواية نصاً مضاداً، فهي تأخذ من السرد التاريخي من جهة، ومن الروايات الحربية من جهة أخرى، ومن ألعاب الفيديو والمقاطع الفيلمية، ومن الأدب العجائبي والغرائبي والأسطوري، وتوظّف التكنولوجيا، وتطوّعها لخدمة النص الأدبي، فيتماهى العلم بالأدب. ومن شأن هذا الامر أن يجعل المتلقي مختلفاً، فهو مبحِر يندمج في النص المقروء الحركيّ المسموع، منحاز في اللا شعور إلى أحد الطرفين المتحاربين، يوظف طاقته العقلية؛ لاستنطاق التاريخ السري لكموش، فيتحول إلى كائن افتراضي مشارك في شخصيات الرواية.
إنها نص مضاد؛ لأنه نصّ منفتح على السرد، والشعر، والخبر، ومقاطع الفيديو، والموسيقى، والمشاهد المتحركة، فيقرأ المبحِر، ويسمع، ويرى، وتوسِّع الروابط النص، وتفرّعه، ويتمكن صانع النص من التفسير والتعقيب والتعليق، فثمة تعالقات نصية مع خطب وأشعار عربية قديمة، وثمة روابط مشجّرة تؤدي وظيفة الهوامش في فصل عتيق الرب، وثمة روابط تصويرية مشهديّة ننتقل إليها بالضغط على الزرّ، وروابط ناقلة إلى نصوص حركية، وروابط تجاور نص المتن. وهنالك مركز يشدّ هذه الروابط جميعاً، ويُخرج من المتاهة التي يمكن أن نقع بها ونحن نبحر في الرواية.
لقد أتى رسول إلى ابن الملك من حليفه ملك رماثا يطلب نجدته من العربان الذين غزوا بلاده، هم اليوم عند ملك رماثا، وغداً عندهم. وقد حاصر العربان المدينة كالسراب، ونحال هنا على أبيات للشاعر الدوقراني عام 1919 م ويهاجم العربانَ من الخلف، ويمسك بقائدهم، ويحرقه حياً أضحية للرب، وعبرة لن يعتبر، ونحال هنا على مقطع فيديو يتضمن مشهد حرق الكساسبة على يد داعش في الرقة عام 2015.
ندخل بعد ذلك بتنشيط رابط إلى كموش في زمن الشجر، ونعود إلى بدء الخلق، فقد نظر شخص إلى شجرة، وشعر أنها تعطيه الأمان والحماية، فطالب بالسجود لها، ثم شعر أن في بطن المرأة حياة، فقدّم لها ثمار الشجرة المقدسة قرباناً. ثم سجدا للشجرة، وتركا ابنتهما الطفلة تحت جذوعها المقدسة، فالتهمها النمر، فقال لزوجه: لن نسجد بعد اليوم للشجرة، ونحال هنا على جملة: من عرف الله تحرر.
وفي رحلة بحث ابن الملك نحال على خطب متعددة كخطبة البابا أوربان في الحض على الحروب الصليبية عام 1095م وكلام بوذا في يقظة البودهيساتفا: “إن الدين الحق يجب أن يُبحث عنه منذ الساعة، وهو بينكم، والفرصة لن تعود”، ثم يتكلم على مجازر الحرب باسم الإله كموش، ويشير إلى تدمير بغداد من قبل المغول عام 1258 م وعزمهم على نشر راية كموش في أنحاء الأرض، ثم تحدث زلزلة السماء. إنه غضب الرب، فطاروا جميعاً إلى السماء وسط سحب الدخان، فطار معهم، وفجأة جاء الصوت، فنحال على جملة: GAME OUTوتنتهي الرواية.
تغدو ظلال العاشق بهذه الصورة ملتقى علامات، وحوار خطابات مهاجرة من النصوص الفلسفية والشعرية والتاريخية والدينية، فثمة استدعاء من أزمنة تاريخية أسطورية، وبخطاب يجمع بين بلاغة المتن، وبلاغة الهامش؛ ليغدو الهامش “التعليقات” أهم من المتن فيها.
إن ثمة تقاطعاً أجناسياً يجمع بين السرد والشعر، والسرد والتاريخ، والأسطرة والترميز، وهو يدرك أن حكاية الملك وابنه لإرضاء الرب كموش لن تصل إلى غايتها إن لم يكن هنالك إحالات على أمور متعاقد عليها، فيوغل في التاريخ والفلسفة والدين، ويقدّم امتداد التاريخ في الواقع بخطابات حوارية، ويقدم سردية جديدة للتاريخ والأسطورة والإيديولوجيا بوساطة العقد والروابط التي يعيد تمثيلها رمزياً؛ لنبذ العنف في الواقع.
وتندرج هذه الأفكار في بلاغة مضادة للبلاغة التقليدية، قوامها حوار الخطابات، وتعالق النصوص، وإسقاط الرمز والأسطورة على الواقع، وصهر المتن اللغوي بالروابط المحيلة على مقاطع حركية لمشاهد الحرب، ومقاطع فيديو، وأغان. إنه نصّ ذو بلاغة مضادة للبلاغة التقليدية، نص أدبي تكنولوجي مضاد للعنف في الحاضر والماضي، تحدّ رمزي تخيلي للعنف، فتتعدد عوالم الرواية من الرجل الأول الذي قدّس الشجرة والمرأة إلى الذين قدسوا الرب كموش، وتغدو هذه الرواية التخيلية ذات الخطاب النوعي التاريخي، والعجائبي، والغرائبي، والأسطوري، والفلسفي، والشعري مؤدية تغذية ارتجاعية تغذي زمن الحاضر الرهيب، وتغدو كذلك حاضنة خطابات، وملتقى حوارية من نوع خاص بين الأنواع الأدبية، وغير الأدبية.
إن ثمة حواراً مع الأنواع، وحواراً مع الأشكال بوصفها الطريقة الجديدة في التواصل، وثمة حوارية قائمة على اللغة، وحوارية شبكية معلوماتية، فأصبحت في المركز المتصدّر بعد تراجع الحوارية التقليدية القائمة على الكلمة، وتتوحد الكلمة بالصورة والصوت والكلمة، وتصبح الصورة حدثاً له هوية فكرية وفنية.
وحين انفتحت الكلمة على مفردات الصورة السينمائية اكتسبت أبعاداً فنية ودلالية أعمق بفضل المؤثرات التكنولوجية المرفقة، فامتزجت الصورة بالإيقاع، وأضحت كلمة ذات شكل فني تتفاعل فيه العناصر المكتوبة، والمرئية، والمسموعة؛ للوصول إلى معادلة جديدة قوامها الكلمة، والصوت، والصورة. فلا يرى السردي مانعاً من حضور الشعري، والتكنولوجي في النص الرقمي مع أن السردي طاغ على هذه الرواية، وقد فسّرت الإحالةُ على مقاطع الفيديو الجملَ، وصوّرتها، ولم تضف جديداً إليها؛ لذا يمكن حذفها من غير أن يختل المعنى.
إن ثمة تفاعلاً أجناسياً في الغلاف الرقمي، وفي الروابط المحيلة على مشاهد الحرب المتخيّلة. فيحدث تلاؤم بين فنّين: مكاني أيقوني هو فنّ الرسم، وزماني تتابعي ذي تشكيل لغوي هو الأدب.
وأخيراً: اختار سناجلة الإطار التاريخي لروايته الرقمية؛ لقناعته أن التميز، وتحقيق الأثر المراد لا يكون إلا بالغوص في أعماق الهوية الثقافية، واكتشاف ثغرات الماضي؛ لإصلاح الحاضر.
والهدف من المرور باللحظات التاريخية والمفاصل الأساسية والمشاهد الحية إيقاظ الهاجع في الفكر العربي، ودعوة إلى التبصر لا البصر، فالتاريخ الحقيقي سريّ، لا معلن، والله إله محبة وسلام، فظلال العاشق لحظة تأمل عميق في الثقافة والفكر والفلسفة.
وتظل هذه الرواية الصادرة حديثاً ميداناً للنقاش حول وظيفة التكنولوجيا في الأدب الرقمي، وموقعها في حياتنا -نحن العرب-وفي أدبنا. ومع مآخذنا على الاستطالة في السرد، وإمكان حذف المقاطع المتحركة والفيديو من غير أن تتأثر الرواية، وإمكان تحويلها إلى رواية خطية، وابتعادها عن التعبير عن العصر الرقمي والإنسان الرقمي الافتراضي تظل رواية لها الريادة على الساحة العربية، تمثل المرحلة التأسيسية الخاضعة لمبدئي الخطأ والتجريب الرياضيين.
باحثة وأكاديمية سورية وأستاذة الأدب العربي في جامعة البعث في سوريا.