فبأي معنى يمكن أن نتحدث عن أمة جديدة بدون فكر جديد؟، ومالعمل من أجل الوصول إلى هذا الفكر بدون وعي الذات؟، ولماذا أن بعض الأشخاص يتحكمون في مصير الأمة؟ وماهي غايتهم من هذا الحصار للعقلانية ومجتمع المعرفة؟
من العبث أن نجد أمة الخميرة العقلانية تضطهد العقل، وتقاوم التنوير وتهمش الفلاسفة تحت الفكر التيولوجي الجامد. ولذلك فإن الصراع مع هذا التوجه لن يكون سهلا، وبخاصة إذا كان صراعاً ثقافياً، وبما أن هذا العصر أصبح يتكلم لغة الصراع والحروب الايديولوجية، فإن لغة الحوار الفلسفي لم تعد ممكنة. لأنها فقدت قوتها، بل ووجودها، مما حكم على عقل الأنوار بالسجن، وترك مكانه للتيولوجيا، التي تحولت إلى مصنع لصناعة الأرواح، هكذا فقدنا الأمل في التغيير، ونالت منا سلطة العدمية.والحال أن لحظات الزمان تفر كل منها من الأخرى في هوة العدم الذي يمثله الماضي، باعتباره سالبا مطلقا لتلك اللحظات الجميلة التي يقضيها الإنسان في الوجود، فبواسطة حركة الزمان يلقى به في العدم، ولكن طالما أن الميتافيزيقا تحميه من الضياع، فإنه ينبغي أن يضع نفسه رهن إشارتها، لذلك يتحول هو نفسه إلى سؤال ميتافيزقي، يمكن صياغته هكذا، ما الإنسان؟ وبعبارة أخرى، مالذي يجعل من الإنسان إنساناً؟. ومامعنى الإنسان حيوان ناطق؟
إنه يخضع لمقولة الكيف، والكيف نقيض الحركة، فالطريقة التي يعرض بها الكيف نفسه علينا لا تبدو واضحة إلا من خلال التقابل بين ضدين، الجسد والعقل، الجسم والروح :» فمن المعروف تماماً أن الضدين الكيفين لا يكون لأحدهما معنى إلا من خلال الآخر، وينتج عن ذلك أن أحدهما لا يكون على ماهو عليه إلا بالنسبة لما يكون عليه الآخر، وأن هذين الضدين في استطاعتهما أن يحل الواحد محل الآخر.. الإيجاب والسلب «1.
بإمكان هذا التجريد الغامض أن يقرب إلى الفهم غموض الإنسان ميتافيزيقياً، وبواسطة العقل يحمل التناعم بين الإنسان كفكر والوجود، ولذلك ينبغي على المعرفة أن تهتم ببناء الروح، عن طريق الوعي الذاتي، كلما يحدده هيغل، لأنه عندما تسير الروح بطريقه جدلية من اللاأنا إلى الأنا تبدع نفسها من جديد في المعرفة : « إذ تعتقد أن الروح البشري تستطيع أن تتعرف على نفسها في مقولات المعرفة التي تنتهي بمقولة الشخص أعني بمركب الأنا واللاأنا .. لأن الروح هي أيضا المطلق الذي يجمع في جوفه جميع المقولات «1. هكذا نجد أنفسنا وقد اكتشفنا قارة جدل الإنسان بحوار علاقة الفكر بالوجود، وبما أن هذه الرحلة الاستكشافية لم تكن سهلة، والمعرفة نفسها ليست سهلة، فإنه من الطبيعي أن يربي الإنسان ذاته على الطبائع العقل، من أجل أن يحاصر رغبات الجسد، فالعقل مهذب وناعم، والجسد فوضوي وشرس.
وفي أعماق التضاد بينهما يتعين على الإنسان بما هو إنسان أن يحقق وجوده في مملكة الوعي بالذات، وإلا سيتيه في سراب الذات الحسية، ويحكم على نفسه بالطبيعة الحيوانية.
هكذا سيقضي حياته في المرعى المشترك. يتهدده فقدان الفرح بالكينونة، باعتباره الوجه الحقيقي للسعادة، والروح لا تجد ماهيتها خارج هذا الفرح بالكينونة الذي يجعلها في قلب الوجود، تلبي نداء الحقيقة، وربما يكون هذا التناغم مع الكينونة هو الغائب الأكبر عندنا، ولذلك تجد الروح تتجه بشغف نحو العقيدة، وتمنح لوجودها معنى تيولوجياً، ولعل هذا الإيمان الساذج قد حكم على الأمة بالخلود في القرون الوسطى.
وبما أن الصراع بين التيار الديني والتيار الرشدي قد تحول إلى صراع بين براديغم القرون الوسطى، وبراديغم الحداثة، فإن الخاسر الأكبر هو الوعي التاريخي حيث ظل ينتظر انتهاء هذا الصراع ومن المؤسف أن يكون ابن رشد هو الضحية، ولذلك تم نفيه حيا وميتاً، فمن أجل التيار التناغم مع الروح الوسطوية، كان لابد للتيار الديني من تدمير رمز العقلانية، غير أن هذا التدمير ساهم في فقدان الأمة لهويتها. وحكم عليها بالتأخر التاريخي، حيث أن الوعي التاريخي لم يعد هو اللحظة الأكثر سمواً للواقع، مادامت المعرفة العلمية تخلت عن أصلها، أي العقلانية، فكيف يمكن تحقيق عظمة هذه الأمة بدون العودة إلى النهضة العقلانية؟ وهل يمكن استعمال العقل في غياب المدرسة العقلانية؟ ولم أصبح ابن رشد عدواً للتيار المحافظ؟.
يكمن خطر التيار الديني المحافظ في تقديم نفسه كمدافع عن هوية الأمة، من خلال تحصين العقيدة والأخلاق، والرد على العقلانين بالخطابة والسفسطة. ولعل هذا بالذات : «ما يثير في الروح ضجراً يائساً تتعلم من خلاله أن تطمح إلى تسليات الكسل». ولذلك فإن الإنسان لا يسعى إلى القيام بما هو أفضل كأن يصبح مفكراً او مبدعاً، بل يريد أن يكرر تعاليم العقل التراثي بانتظام. هكذا نجد العقل الأخلاقي يهيمن على إنسان مفرط في العبادة، إذ يسهل عليه التمزين على أخلاق العبيد.
إذا استثنينا أعمال ابن رشد والرشدية، فماذا يبقى من العقلانية المغربية الذي يستحق أن نفتخر به، إذ ليس من العيب أن يكون عندنا فلاسفة، بل العيب كل العيب أن تكون هذه الأرض جرداء، تمتلئ بالأعشاب الضارة، التي تقول الخطأ بأسلوب رائع، تجتذب القراء البلداء الذين يقعون أرضاَ كما اصطدموا بشيء ما، يتألمون، يتوجهون نحو العذب بشغف، يشبهون رواد الأسبوع المقدس الذين يمتعهم الجلاد، وكلما زاد في جلدهم، شعروا بالابتهاج.
ما لم تصبح الرداءة أسعد قناع يمكن أن يرتديه معلم العدميه، فإن الأغبياء الذين يفكرون في القناع كأصل للوجود، سيظلون هم سادة هذا العالم، يتحكمون في مصيره نحو العدم، بدلا من الوجود : «ينظرون إلى المستقبل بسوداوية تمطر الأذى بوابل من الوصايا الأخلاقية.. يصفون للمرضى تسلية تخفف الآلام «2. فأين يمكن حل هذا اللغز؟ بعبارة أخرى، ما لذي يجعل الناس يصدقون هؤلاء الخطباء؟ ألا تكون العدمية هي ما ينتج العدمية؟ ألا يكون العقل الكلي الذي يهيمن الآن هو نفسه الذي كان مهيمناً في زمن ابن رشد؟، ألا يكون من أمروا بنكبة ابن رشد هم أنفسهم من يأمر بنكبة الفلاسفة في زمننا؟
لا يتنازل الفكر عن الحق في الجدل، إلا إذا كان محروماً من الحرية، وفكرنا لم يتذوق متعة الحرية منذ خروجه من القوة إلى الفعل، ولذلك صار خارج مجال جدلية العبد والسيد، ينام في نعمة التراث. تابث في الزمان، على الرغم من أن الزمان يتحرك نحو غايته.
فخلال كل هذه القرون والفكر الدوغمائي يتكلم عن مدى شرعية محبة الحكمة في الإسلام، وينطلق من مقدمات كلامية أشعرية كما تركها الغزالي، وإلى حد الآن لم يحسم في هذه الشرعية، مما حكم على النهضة العقلانية بالضياع في شاعرية الكسل الروحي. ولذلك لا يمكن لهذه الأمة أن ترى نفسها في مرآة العقل، بل ستظل مندهشة امام مرآة الوجدان، والعواطف المشتعلة. تشعر باغترابها أمام ابن رشد، تردد حكمة ابن عربي، الذي يصف موكب جنازة ابن رشد بأسلوب تراجيدي ساخر : « ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على البداية جعلت تواليفه تعادل من الجانب الآخر، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال :» ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام، وهذه أعماله “1. ينبغي لهذه الصورة أن تؤثر في حاضرنا، أكثر من تأثيرها في روح ابن عربي، على الرغم من أنه اعتبرها من أنعم الصور التي شاهدها في حياته.
بيد أنها لم تصل إلى أعماق هذه الأمة، وخاصة وأنها القت بابن رشد في جحيم النسيان. فنسيان ابن رشد هو نسيان لأفقها الانطولوجي والميتافيزيقي. هكذا أضحت الرشدية شيء غريب في هذه الأرض، والغريب هو الذي لا يكلمه أحد، يقلق بحضوره ولذلك يجد نفسه عند الآخر، وبما أنه وجد الإقامة الشعرية هناك، فإن النسيان قد أخذ مكانه.
إبن رشد في النسيان، والرشدية في الميزان، لعبة انطولوجية تتوجه نحو ذلك القدر الحزين، لأن قدر المفكرين حزين فقط، بل كان درامياً، أعظم من قدر ابن باجة، ومن الحكمة أن لا نتيه في عتمة هذا التاريخ، الذي يدير ظهره للحقيقة. يحكم علينا بالتأمل في المنسي، ومن خلاله يبزع المقدس ويختفي .
فالشمس التي رافقت ابن رشد إلى أن تجاوز الوادي الكبير تركته في المغيب يعرق في الراحة، ويتمتع بإقامته الناعمة في مدينة قرطبة، ومهما يكن عشقه لهذا البلد الذي رفضه فإن الاغتراب قد علمه كيف يحول سكينة الليل والقمر الصامت إلى أحباء، عندما تحاورهم الروح بلغة الوجود. ولذلك يتعين علينا استعادة هذه اللغة ومنحها الكلمة، من أجل الشهادة على جرائم التيار الظلامي، الذي قام بتخريب روح الأمة.
من هذا نستطيع أن نستخلص الحكمة التالية: لا ينبغي أن نثق في من خدعنا ولو مرة واحدة، ولا أعتقد أن هنالك خدعة أكبر من ترحيل الفيلسوف ميتا في شفق الأصيل. لأن أرواحهم تلتهم ضوء النهار حتى يصبح رماداً. ومع ذلك يظل سؤال الرشدية مقلوباً رأساً على عقب. لأن العدمية مزقت كينونتهم، ولم يعد الوجود سوى مصدر للفزع والوهم، وابن رشد كان يبحث في الوجود بما هو موجود، ولذلك تم إلحاقه بالعدم بما هو عدم.
كاتب مغربي