ثلاثية فوزي كريم النقدية : شاعرُ المتاهةِ وشاعرُ الراية، الشعرُ وجذورُ الكراهية القلبُ المفكر، الشعرُ يُغنّي، ولكنه يُفكّر أيضاً ثيابُ الامبراطور، الشعرُ ومرايا الحداثة الخادعة
صدر حديثاً عن منشورات المتوسط – إيطاليا، ثلاثة كتب للشاعر والناقد الكبير فوزي كريم. وتأتي هذه الكتب في حقلِ نشاطِه النقدي، الذي بدأه مع مطلعِ نشاطِه الشعري في الستينيات، وهذه الكتب هي كتاب (شاعرُ المتاهةِ وشاعرُ الراية، الشعرُ وجذورُ الكراهية)، وكتاب (القلبُ المفكر، الشعرُ يُغنّي، ولكنه يُفكّر أيضاً)، إضافة إلى طبعة ثانية، مزيدة ومنقحة، من كتابه الشهير (ثيابُ الامبراطور، الشعرُ ومرايا الحداثة الخادعة)؛ لتشكل مع كتبٍ مقاربة سبقتها، ومئاتِ المقالات النقدية موقفاً نقدياً يتبلور ويتسع، ولا يكتمل. ثمة قناعة في هذا الموقف النقدي ترى أن هناك نقطةَ ضعفٍ بالغة الخطورة في الشعر العربي، من مطلعه الجاهلي حتى اليوم. في هذه الكتب الثلاثة، التي تنأى عن رطانة اللغة النظرية المترجمة برداءة والشائعة منذ عقود، عددٌ من المحاورِ الإشكالية، تسعى إلى تَحفيزِ الشاعرِ والقارئ على معاودةِ النظر، وعلى المحاججةِ، وعلى الاختلاف. إنها كتب يجب أن تُقرأ ككتاب من ثلاث حلقات.
كلمة غلاف كتاب: شاعرُ المتاهةِ وشاعرُ الراية، الشعرُ وجذورُ الكراهية
كانت القصيدة قبل مرحلة التجديد على يد الرواد قصيدةَ إجابةٍ، فأصبحت قصيدةَ تساؤل وحيرة. يبدأ الشاعر الجديد بيتها الأول، ولكنه يجهل كيف ستتحرك أبياتها التالية، وبأي اتجاه. ما يعرفه أنه، هو الشاعر، ينطوي على لغم من التساؤلات، كم ظلّ جائعاً لها على امتداد قرون. تجد هذه الفضيلة لدى السياب، نازك، بلند الحيدري، البريكان، حسين مردان. إلى أن جاء عبد الوهاب البياتي، الذي «زلزل الأرض تحت أقدامهم»، على حدّ تعبيره. جاء بالراية «الأممية»، التي لم تكن تشغل أحداً. هذا البعد «الأممي» يتوافق بالتأكيد مع طغيان قبضة اليسار السياسي على خناق الثقافة في العراق، والثقافة العربية، وربما على الثقافة في الكثير من بقاع الأرض.
في منتصف الستينيات، وبعد نكسة حزيران مباشرة، بدأ هذا البعد «الأممي» يخفت ويتلاشى، وتصاعد مدُّ الشاغل العربي، فوجدنا «بعداً قومياً» بدل «البعد الأممي». ومع هذا الشاغل برز سعدي يوسف مؤثراً بموهبة تامة النضج. ولعله بدأ شاغله هذا في مطلع الخمسينيات، وبعد البياتي بقليل.
استلم سعدي رايةَ «الأممية» الحمراء من البياتي، ليبدلها في قبضته بالراية «القومية» الخضراء. في هذه المرحلة كان شعر الرواد قد وُضع جانباً في الظلّ، الذي يُشبه العتمة، من قبل الجيل الستيني ذي النزعة العقائدية في الأغلب.
كلمة غلاف كتاب: القلبُ المفكر، الشعرُ يُغنّي، ولكنه يُفكّر أيضاً
إن أية مقارنة بين نصوص الشعر العالمي في مراحله المبكرة (من شعر يوناني وروماني، وهندي، وصيني) والشعر العربي الجاهلي، وأية مقارنة بين الشعر العالمي في مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية (شيرازي، ورومي وعمر الخيام) والشعر العربي المجايل سيكشف عن الفارق بين المسعى العالمي إلى القصيدة المفكرة ومسعى القصيدة العربية إلى المهارة، والنزعة البلاغية والعناية بالشكل. وسيكشف عن استحالة تأثرها بإضاءة الطرف العالمي، حتى لو اطلعت عليه.
في «ملحمة جلجامش»، للشاعر السومري، نقع على أول قصيدة مفكرة، تمنح زبدة أفكارها الكلية إلى قارئها عبر المخيلة، العاطفة والموسيقى. لا تقول ما تريد عبر الفكرة المجردة، لأن عنايتها بالانسان ومصيره لا تسمح لها بذلك.
كان «لوكريتيوس»، الذي ولد قبل قرن من ميلاد المسيح، أبيقورياً. وكتب قصيدته الطويلة «في طبيعة الأشياء» (7400 بيت من الشعر) من وحي الفلسفة الأبيقورية: كان يرى الأشياء في الكون ذراتٍ لا حصر لها، تتحركُ عشوائياً عبر الفضاء. تصطدم ببعض، تترابط معاً، تشكل هياكل معقدة، ثم تنفرط، في عملية لا تنتهي من الخلق والتدمير. عبر خوض الطبيعة في تجاربها يولد الانسان ويموت، شأن الأشياء: «عندما تنفصل الكتلة الهامدة عن العقل،/ وتتحرر من مشاعر الحزن والألم،/ لن نشعر بالموت، لأننا لن نكون.»
مع لوكريتيوس «في طبيعة الأشياء»، دانتي «الكوميديا الإلهية»، وﮔوته «فاوست»، ومع شعر أبي العلاء، عمر الخيام، جلال الدين الرومي، ريلكة، ييتسن ريتسوس، أليوت وميووش، يقطع هذا الكتاب شوطاً بالغ العمق مع القصيدة المفكرة، والقلب المفكر. ويبني قاعدة إسمنتية لفهم هذا المدى الذي أغناه أهم شعراء العالم الكبار.
كلمة غلاف كتاب: ثيابُ الامبراطور، الشعرُ ومرايا الحداثة الخادعة
إنه كتاب ضد المتنبي، تَخيّل! وضد أدونيس، وحداثة الشعراء الطليعيين ونقادهم! يقول الكاتب: «حين نشرتُ، قبل هذا الكتاب، مقالة بالعنوان ذاته، والموضوع ذاته، في جريدة «الحياة» عام 1992، ثم أعدتُ نشرها كافتتاحية لمجلة «اللحظة الشعرية»، هوجمتْ من أكثر من طرف، لأنها نُشرت في صحافة واسعة الانتشار هذه المرة، ويتوجب دحضَها. أما نشر كتاب نقدي موسع بالموضوع ذاته، فما أيسر التعتيم عليه إعلامياً». وهذا ما حدث لهذا الكتاب الذي نشر عام 2000 للمرة الأولى.
في هذه السنوات قطع الوطن العربي شوطاً أسود، دامياً، خرائبياً بصورة تدعو إلى الروع. فقدانُ الأمل، والألمُ المميت أوضح لكثيرين أن الشعرَ الطليعي، الحرون، المتمرد، الحارق، لم يكن في حقيقته غير خطى بائسة تخوض في وحل إيهامها، المتعدد الأوجه، للنفس. ومعها خطى النقد الأكثر مسعىً في الإيهام. واتضح لهم أيضاً أن التكاثرَ العددي لكتاب الشعر يتناسب طردياً مع ازدياد عمق الوحل. فكلما انحط النص ازداد عدد كتابه. ثم جاء الانترنيت، ووسائل الاعلام الثقافي المعزَّزة من قبل المؤسسات الباذخة الصرف، ليعرّضا هذه الظاهرة المرضية للضوء، عن غير مسعى مقصود منهما، أكثر، وأكثر.
توقف كثيرون من أبطال تلك المرحلة الصاخبة عن الهتاف، وانصرفوا إلى أرزاقهم. البعضُ انصرف لمراجعة النفس، والآخر للانتفاعِ من حكمة اليأس. وعبر هذه الزحمة الهالكة ظل أفراد، تفيض أصابعُ اليد الواحدة على عددهم، منطوين على إنضاج رؤاهم بمعزل عن الخطى الموحلة، يغذون حكمتهم بنسغ المرحلة المرير. وإلى هؤلاء ينتمي هذا الكتاب.
فوزي كريم:
كلمة غلاف كتاب: شاعرُ المتاهةِ وشاعرُ الراية، الشعرُ وجذورُ الكراهية
كانت القصيدة قبل مرحلة التجديد على يد الرواد قصيدةَ إجابةٍ، فأصبحت قصيدةَ تساؤل وحيرة. يبدأ الشاعر الجديد بيتها الأول، ولكنه يجهل كيف ستتحرك أبياتها التالية، وبأي اتجاه. ما يعرفه أنه، هو الشاعر، ينطوي على لغم من التساؤلات، كم ظلّ جائعاً لها على امتداد قرون. تجد هذه الفضيلة لدى السياب، نازك، بلند الحيدري، البريكان، حسين مردان. إلى أن جاء عبد الوهاب البياتي، الذي «زلزل الأرض تحت أقدامهم»، على حدّ تعبيره. جاء بالراية «الأممية»، التي لم تكن تشغل أحداً. هذا البعد «الأممي» يتوافق بالتأكيد مع طغيان قبضة اليسار السياسي على خناق الثقافة في العراق، والثقافة العربية، وربما على الثقافة في الكثير من بقاع الأرض.
في منتصف الستينيات، وبعد نكسة حزيران مباشرة، بدأ هذا البعد «الأممي» يخفت ويتلاشى، وتصاعد مدُّ الشاغل العربي، فوجدنا «بعداً قومياً» بدل «البعد الأممي». ومع هذا الشاغل برز سعدي يوسف مؤثراً بموهبة تامة النضج. ولعله بدأ شاغله هذا في مطلع الخمسينيات، وبعد البياتي بقليل.
استلم سعدي رايةَ «الأممية» الحمراء من البياتي، ليبدلها في قبضته بالراية «القومية» الخضراء. في هذه المرحلة كان شعر الرواد قد وُضع جانباً في الظلّ، الذي يُشبه العتمة، من قبل الجيل الستيني ذي النزعة العقائدية في الأغلب.
كلمة غلاف كتاب: القلبُ المفكر، الشعرُ يُغنّي، ولكنه يُفكّر أيضاً
إن أية مقارنة بين نصوص الشعر العالمي في مراحله المبكرة (من شعر يوناني وروماني، وهندي، وصيني) والشعر العربي الجاهلي، وأية مقارنة بين الشعر العالمي في مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية (شيرازي، ورومي وعمر الخيام) والشعر العربي المجايل سيكشف عن الفارق بين المسعى العالمي إلى القصيدة المفكرة ومسعى القصيدة العربية إلى المهارة، والنزعة البلاغية والعناية بالشكل. وسيكشف عن استحالة تأثرها بإضاءة الطرف العالمي، حتى لو اطلعت عليه.
في «ملحمة جلجامش»، للشاعر السومري، نقع على أول قصيدة مفكرة، تمنح زبدة أفكارها الكلية إلى قارئها عبر المخيلة، العاطفة والموسيقى. لا تقول ما تريد عبر الفكرة المجردة، لأن عنايتها بالانسان ومصيره لا تسمح لها بذلك.
كان «لوكريتيوس»، الذي ولد قبل قرن من ميلاد المسيح، أبيقورياً. وكتب قصيدته الطويلة «في طبيعة الأشياء» (7400 بيت من الشعر) من وحي الفلسفة الأبيقورية: كان يرى الأشياء في الكون ذراتٍ لا حصر لها، تتحركُ عشوائياً عبر الفضاء. تصطدم ببعض، تترابط معاً، تشكل هياكل معقدة، ثم تنفرط، في عملية لا تنتهي من الخلق والتدمير. عبر خوض الطبيعة في تجاربها يولد الانسان ويموت، شأن الأشياء: «عندما تنفصل الكتلة الهامدة عن العقل،/ وتتحرر من مشاعر الحزن والألم،/ لن نشعر بالموت، لأننا لن نكون.»
مع لوكريتيوس «في طبيعة الأشياء»، دانتي «الكوميديا الإلهية»، وﮔوته «فاوست»، ومع شعر أبي العلاء، عمر الخيام، جلال الدين الرومي، ريلكة، ييتسن ريتسوس، أليوت وميووش، يقطع هذا الكتاب شوطاً بالغ العمق مع القصيدة المفكرة، والقلب المفكر. ويبني قاعدة إسمنتية لفهم هذا المدى الذي أغناه أهم شعراء العالم الكبار.
كلمة غلاف كتاب: ثيابُ الامبراطور، الشعرُ ومرايا الحداثة الخادعة
إنه كتاب ضد المتنبي، تَخيّل! وضد أدونيس، وحداثة الشعراء الطليعيين ونقادهم! يقول الكاتب: «حين نشرتُ، قبل هذا الكتاب، مقالة بالعنوان ذاته، والموضوع ذاته، في جريدة «الحياة» عام 1992، ثم أعدتُ نشرها كافتتاحية لمجلة «اللحظة الشعرية»، هوجمتْ من أكثر من طرف، لأنها نُشرت في صحافة واسعة الانتشار هذه المرة، ويتوجب دحضَها. أما نشر كتاب نقدي موسع بالموضوع ذاته، فما أيسر التعتيم عليه إعلامياً». وهذا ما حدث لهذا الكتاب الذي نشر عام 2000 للمرة الأولى.
في هذه السنوات قطع الوطن العربي شوطاً أسود، دامياً، خرائبياً بصورة تدعو إلى الروع. فقدانُ الأمل، والألمُ المميت أوضح لكثيرين أن الشعرَ الطليعي، الحرون، المتمرد، الحارق، لم يكن في حقيقته غير خطى بائسة تخوض في وحل إيهامها، المتعدد الأوجه، للنفس. ومعها خطى النقد الأكثر مسعىً في الإيهام. واتضح لهم أيضاً أن التكاثرَ العددي لكتاب الشعر يتناسب طردياً مع ازدياد عمق الوحل. فكلما انحط النص ازداد عدد كتابه. ثم جاء الانترنيت، ووسائل الاعلام الثقافي المعزَّزة من قبل المؤسسات الباذخة الصرف، ليعرّضا هذه الظاهرة المرضية للضوء، عن غير مسعى مقصود منهما، أكثر، وأكثر.
توقف كثيرون من أبطال تلك المرحلة الصاخبة عن الهتاف، وانصرفوا إلى أرزاقهم. البعضُ انصرف لمراجعة النفس، والآخر للانتفاعِ من حكمة اليأس. وعبر هذه الزحمة الهالكة ظل أفراد، تفيض أصابعُ اليد الواحدة على عددهم، منطوين على إنضاج رؤاهم بمعزل عن الخطى الموحلة، يغذون حكمتهم بنسغ المرحلة المرير. وإلى هؤلاء ينتمي هذا الكتاب.
فوزي كريم:
أحدُ أبرز الشعراء والكتاب العرب من الجيلِ الستيني. ولدَ في بغداد 1945، وتخرّج من جامعتها، وانصرفَ بعد عامٍ في التدريس إلى العملِ الحرّ ككاتب. هاجر إلى بيروت وأقامَ فيها 69 ـــــ 1972، ثم إلى لندن، منفاه الثاني، منذُ عام 1979 حتى اليوم. أصدر مجلةَ «اللحظة الشعرية» لبضعة سنوات، وواصل كتابةَ عموده الأسبوعي في الصحافة الثقافية طوالَ حياته، في الشأن الشعري، الموسيقي والفني. له أكثر من 22 مجموعة شعرية، منها مختاراتٌ صدرت في الإنكليزية، الفرنسية، السويدية، والإيطالية. إلى جانب الشعر له أكثر من 18 كتاباً في حقل النقد الشعري، الموسيقي والقصة. وله معارض عدة كفنان تشكيلي. تجد ثبتاً بمؤلفاته آخر هذا الكتاب.