تتصفح
ديوانها، تلامس عناوينه بنبضها الخافق بجناحيه الحمراوين، بين الفينة والأخرى يجتذبها
هذا الجبل الشامخ المكسو ببياض الثلج أمامها، يحاول أن يستلها
كشعرة من عتمات حرف يتنفسها دخانا خانقا،
يلملمها شظايا من لهيب تحترق، يوقظ فيها صورا تسكبها حقيقة لا مجازا على بياض تعشقه،
وحده يستطيع احتواءها في امتداد بلا ضفاف. تستجيب له لحظات، تمد يدها الباردة إليه،
تتحسس كفه البيضاء الدافئة تجرها بعيدا عن السفح ورشفات قهوتها، تستسلم له لعله يقذف
في أحشائها الخصبة ولادة جديدة.
بخطى ثابتة تجنبها سقطة على الصقيع، تستجيب
لنداء ابنتها، تساعدها على النهوض :
- تماسكي جيدا حتى لا تسقطي ثانية حبيبتي
تعود
إلى مكانها تتأمل فلذة كبدها وهي تصنع فرح اللعب، تراها بين أحضان أبيها يهدهدها، يناغيها،
يمطر يدها هسيس قبلات...
- شادية... انتبهي إلى خطوك، قد تسقطين ثانية
يضع
شادية في مهدها، يتجه نحوها، يطبع قبلة على خدها ثم يطير إلى العمل.
تعود
إلى ديوانها... ينادي عليها:
- يجب أن نبدأ البناء، غير معقول أن تبقى
البقعة مرتعا للأغنام
تمتطي
قدميها على وجه السرعة، تحصل على قرض من البنك، تحوّل حسابها إلى حسابه...
- قد لا يكفينا هذا القدر، لا نزال في حاجة
إلى...
يمنحها
كرم أبيها ضعف ما طلبت، لا تبخل كفه عليهما...
- رشا، رشا، لا تتزحلقي في ذاك المكان، توجهي
نحو اليمين...
تستلقي
نظراتها من جديد على الجبل، تلامس بياضه، تتحسس برودته، تشتهى الصعود إلى القمة، لكنها
تهاب السقوط قبل الوصول، أو انقلاب هذه الابتسامة المشرقة على ثغر السماء إلى سواد
وصراخ وعويل. يتلقفها في غفلة منها سواد الحبر على البياض، هو يشتهيها على الدوام،
يعشقها ملكة تتربع على عرش قلعته النائية البعيدة عن مصدر النور، هو يكره النور، خيط
واحد منه قد يدمره ويفنيه إلى الأبد.
تجد
نفسها في قصيدة تحتويها، يرتج قلبها في عز الفجر بطرق غريب، بركة من الدم تلطخ عينيها،
تغتال الرؤية إليه إلى الأبد، وعلى سرير أبيض تجد نفسها تصرخ، مدرجة في نزيف دمُه من
دم بركة الفجر...
تجيب
على هاتفها:
- نعم سأشارك في الندوة طبعا، وفي حفل توقيع
ديوان صديقتي... لا تنسي حضور حفل جمعية الأيتام يوم...
- تقرأ العنوان " يترشفني... من أقداح
الوجع" وكأنها تقرؤه للمرة الأولى، تمرر عليه أناملها، يقرأ أبوها الفاتحة، تزفها
إليه الزغاريد، تقرأ سيل رسائله يفوح منها عطر عشيقاته، تقرأ ملامحه، أحضانه، وروده،
تقرأ في نفسها... لم تعد تعرف القراءة، تضيع منها الحروف والكلمات والمعاني والأحاسيس...
- انتبهي رشا، لا تنظري إلى الخلف، قد تصطدمين
به، هل تسمعينني؟
بين
يديه أوراق مبعثرة يحاول ترتيبها من جديد:
- المنزل مسجل باسمه وحده
- لكن أبي...
- التأمين أيضا، لا أرى اسمك ولا البنتين...
تفتح
هاتفها، تطل من نافذته على العالم الأزرق، تتابع قصيدتها الأخيرة... هو عالمها تتنفس
منه استمرارية البقاء وهي تنشر وجعها حروفا. تتصفح صورها، تنصت إلى بعض قصائدها، لكن
تخنقها حد الموت تلك الرسائل التي تتقرب منها، تتودد إليها... هي جميلة، بشرتها ناصعة
نصاعة الثلج أمامها، عيناها شهدتان، قدها ممشوق وابتسامتها ليلكية تخفي جبال الألم
والكلم... في الأمسيات الشعرية، في الأنشطة الثقافية، كما في العالم الافتراضي، باسم
الحرف يهرولون إليها، يمسحون سيول لعاب يتدفق، يتربص بها صيدا ثمينا. يحلمون بها قبل
كل لقاء أو مناسبة، تزيدها الصورة وجعا على وجع الدم في الفجر ونزيف السقوط... تكرههم
في صورة كلاب لاهثة، تكره صورتها وهي طريدة.
وحده
تتحسس حرفه يلامس نبض وجعها الصاخب، يربت شروخ انكسارها، تتوصل منه في ليلة قمراء بزنبقة
بين أحضان حروف، ترحب بها لكن تنظر حواليها، فالأرض بور والروح فيافي قاحلة.
تفتح
مذكرتها: بعد غد تصطحب أمها إلى الطبيب لإتمام الفحص، اليوم الموالي تحضر تحليلات والدها، شادية ورشا، يوم السبت...
- لماذا يتأخر اليوم في بعث باقات زنابقه؟!
هل أصابه مكروه؟
تدخل
حسابه، تقرأ قصيدته مرة أخرى، تقرأ رده على تعليقاتهن واحدة واحدة، تبلع ريقا حارا...
najyb3@hotmail.com