يبدو للوهلة الأولى أنه من الصعب أن تجد لك مكانا وسط تشكيل عالمي سبقك بقرون، وبين تشكيل العالم ككينونة سياسية واقتصادية وإنسانية، عالم التشكيل في الفن أو الفن
التشكيلي تعقيد آخر، فالفن ينتمي وينحني لمن يمنحه أكثر، لمن يفتح له أبواب ومساحات وفضاءات التواجد والانطلاق، ليتحرر ويعبر عن نفسه في أشكاله المختلفة دون قيد. من هذه المقاربة تسعى الشارقة، كمدينة حديثة عبر مهرجانها الفني العالمي “بينالي” الشارقة، للالتحاق بالركب، رغبة في حجز مكان واحتواء فضاء لفن غير قابل للاحتواء، متجدد، عبثي وجنوني لا يعترف بالنسق التقليدية، ولا يحده مكان. وبقدر ما هو صعب، استفادت الشارقة من هذه الخاصية للفن التشكيلي، وجعلت من حيز مكاني، كان لوقت ليس ببعيد صحراء قاحلة، فضاء مفتوحا بالمعنى الفني للفضاء والمعنى الإنساني أيضا.
رفعت مؤسسة الشارقة للفنون تحدي الريادة في الثقافة والفن بمفهومهما العميق الذي يلامس كل أشكال الفنون ببعدها العالمي والإنساني، لتجعل من الشارقة مدينة الفن المعاصر في السنوات القليلة الأخيرة. وعكس مدينة دبي التي تعتمد سياسة الضربة القاضية أي الإبهار السريع المكثف والمحدود زمانيا، أرادت الشارقة أن تأخذ طريقا مغايرا وهو الديمومة والتشكل المستمر، بأن تشرق من المكان الصعب على كل الأمكنة، والفرق بين الإبهار والإشراق، كالفرق بين طلوع الشمس الدائم والوجود والضروري والممتد والإنساني وومضة البرق التي تشبه ضربات “فلاش” آلة التصوير المرتبط بحدث سريع مبهر أخاذ، بينما الإشراق دائم مستمر.
نتوقف مطولا ليس انبهارا بما تحققه الشارقة، ولكن معاينة واقعية وملموسة لما هو كائن وما سيكون. ف”بينالي” في طبعاته المتتالية حتى الطبعة الحالية رقم 13 وتحت عنوان “تماوج” حاولت من خلاله الشارقة أن تتجاوز الموج الذي يحدها جغرافيا لتبني لنفسها هوية عالمية تتماشى مع التطور التجاري والعمراني الرهيب الذي تعرفه وتطرح الأسئلة المستجدة في عالم الحداثة وما بعد الحداثة في التشكيل على الخصوص والثقافة والفن على العموم.
“بينالي”.. الشارقة وهويات عالمية
انطلق “بينالي تماوج” الذي افتتح فعالياته الجمعة برعاية الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي وتحت إشراف الشيخة حور بنت سلطان القاسمين، بمشاركة 74 فنانا من القارات الأربع في العالم وبتغطية إعلامية عالمية، من أفكار محلية تخص المجتمع الإماراتي ومحاولة احتكاكه بالفنون خاصة الحديثة منها، كما قالت الشيخة حور في لقاء معها. تنوعت وتشابكت إشكاليات “بينالي” ورسمت في حوارية جميلة صورة ترابط تبادل ومد وجزر بين الأفكار والأعمال والفنانين والجمهور، كالبحر الذي تصب فيه كل الأنهار، جامع ومتجدد ومتقلب، من السينما إلى المسرح، المعارض بمختلف أنماطها ومدارسها الفنية إلى العرض الأدائي مع فن الطبخ والتشكيل. يعرض “بينالي” أفكارا لشباب يقدمون قضايا العالم برؤى مختلفة ولكنها متناسقة، متجاذبة ومتصارعة في الوقت ذاته، وتنتهي في شاطئ واحد أو تبدأ كما هو الموج الذي أرادت القيِّمة كريستين طعمة أن تبلوره في مجموع من اللقاءات والنشاطات والأعمال.
لقاء مارس وإشكاليات التشكيل
حاولت اللقاءات الأولى أن تتطرق لموضوع حساس جدا مطروح في أغلب دول العالم وخاصة ما يعرف بالعالم الثالث أو النامي، تناول أحدها مفهوم الرغبة في الوجود وتحدي الوجود أمام متقلبات العصر وتجاذبات الرأسمال والسياسة في جدلية صراع البقاء، وإن لم يصل اللقاء إلى تقديم مفهوم واضح بسبب عدم تمكن المتدخلات (بينا تشي، وألاء يونس، ومها مأمون) من بلورة الفكرة وتبسيطها وربطها بأمثلة الواقع، طرح أسئلة جوهرية كيف للمؤسسات الثقافية على الخصوص أن تتعامل مع تغير الرغبات وحاجتها لتحقيق ابتغاء البقاء والصمود أمام الأزمات. وما أضر بعمق اللقاء انعدام النقاش بين المحاضرين والحاضرين من الفاعلين كحلقة تشارك تساعد في صمود المؤسسات الثقافية، بالإضافة إلى عدم وجود مسيرين لمؤسسات ثقافية يقدمون صورة عن مختلف التحديات والأهداف والأفكار المطروحة في هذا المحور، ما جعل الندوة تخرج بمجموعة من المفاهيم الفلسفية المبهمة بعيدا عن واقع يحتاج أكثر لخطط واضحة وعملية للخروج من أزمة الصراع من أجل البقاء أو على الأقل وضع خطط الإنقاذ السريعة.
تناولت الندوة الثانية لليوم الثاني موضوع تصور البينالي والتي قدمتها كريستين طعمة القيمة على البينالي، ولارا خالدي وزينب اوز والجزائري قادر عطية الذي يشتغل على مفهوم جديد يتحدث عن إعادة الانتماء للأشياء. واشتغل عطية على الحلي البربرية التي اكتشف أنها تحتوي على صور لبعض وجوه الاحتلال في الجهة الخلفية، وقال في تصريح ل“الخبر” إن الموضوع لم يكن اعتباطيا بل يعود إلى أشياء تتعلق باللاوعي، وأضاف أن الأشياء يعاد تشكيلها وفق هذا المنظور، كما لو أننا نأكل شيئا ثم نتقيؤه، لكن بصورة أخرى مختلفة، نحن نقوم بتشكيلها. وأضاف أن الفن المعاصر هو فن الدول المتخلفة والتي عانت من الاستعمار وتحاول اليوم أن تبحث عن ذواتها، من خلال إعادة إنتاج ما تخلف من حقبات الاستعمار لكن بطريقة تمثلها هي أكثر، مفهوم يشتغل عليه عطية أحد أهم التشكيليين في الفن المعاصر في الجزائر وخارج الوطن.
عروض خارجة عن المألوف..العالم برؤى التشكيليين
شهد اليومان الأولان تقديم عروض متعددة تزامنا مع البينالي تخص المسرح والسينما والفنون، بالإضافة إلى معارض الفنون التشكيلية التي تتواصل إلى غاية الاختتام. من بين العروض التي شدت الانتباه عرض “خمسة أقدام فأعلى”، وهو عبارة عن مقال صحفي متحفي يتناول موضوع الأنهار كمسار حياة وليس وجودا فقط، من الميسيسيبي في أمريكا إلى أنهار في كينيا وأخرى في آسيا والصين والهند وفي أوروبا، التايمز في بريطانيا والسين في فرنسا، الفجيرة في الإمارات العربيةالمتحدة وغيرها، وأنهار أخرى اختفت وأخرى ولدت من العدم. يعطي الكاتب ماريو غاسيا توريس، في مقاله المصور، الحياة للأنهار، ويقدمها كإنسان يولد، يحيا، يتطور، وقد يموت كما أن له اسما وانتماء وأوطانا وألوانا أيضا ويطرح فكرة التغيير وصراعها من أجل البقاء، كما أنها كالإنسان مرت بمآس وكانت سببا في أخرى ولديها أسرار لم تفصح عنها. الأنهار تغضب أيضا وقد تؤذي وقد تدمر وقد تضعف وتتلاشى، كان العرض جميلا وبرؤية فنية وجمالية راقية وقراءة مميزة حملت كل المشاعر وكأن الأنهار تروي بصوتها مسار وجودها وتكلمنا عبر مجراها. استطاع “ماريو غارسيا موريس”، من خلال العرض، أن يلمس مفهوم النهر والمجرى والحياة وصراع البقاء.
شدّ الحضور أيضا عرض “كوكينغ سيكشنزر” تحت مسمى “كلايمافور” ويعتبر من أكثر العروض بعدا إنسانيا وعمقا ومغزى يحمل دروسا للوجود الإنساني يتجاوز المكان، ويخترق الزمان في تصور رهيب لصراع بقاء حول فكرة العدم والتصحر والنهاية، في ديكور تشكيلي يعيد إلى مفهوم الانطلاقة “الموج والتموج”، في طريقة توزيع المقاعد وشكل الطاولات المتموج، لوحة فنية غاية في البساطة والجمال، رافقتها لائحة طعام شارك في تقاسمها الإعلاميون والفنانون على السواء، طعام غير مألوف من نباتات برية قادرة على البقاء رغم قسوة الطبيعة، نباتات الصحراء كالصبار، ونباتات البحار التي تستطيع العيش في المياه المالحة. وسبق العرض الحي والمباشر مقدمة راقية للمصمم، يمكن تلخيصها في هذه الجملة “بينما هناك في العالم خاصة الشمال أو الغني من لديه الخيار أن يكون نباتيا أو يأكل اللحم، وبينما في الجنوب أو الدول الفقيرة من يسأل كيف نحصل على الأكل”. يعالج العرض محاور عدة تتشابك في خطورة تهميشها أو عدم الاهتمام بها وهي “البيئة، التبذير، العودة إلى الطبيعة، الإحساس بالآخر الفقير”، وينذر مما قد نصل إليه في حالة الاستنزاف الدائم لما في الطبيعة وعدم الاهتمام بمسألة التقلبات المناخية، وكأنه يقول هذا ما ستأكلون إن تناسيتم الطبيعة.
السينما والمسرح.. تشكيل في تشكيل
لم تغب السينما في تجديدها وبحثها في العمق البشري وآلامه ومصائره وحتى أحلامه الممتدة عبر الزمن. ففي الفيلم القصير “خطوة خطوة” لأسامة محمد من 28 دقيقة والذي صور بمنطقة في سوريا، يقدم مخرجه إشكالية صراع الوجود أمام تحديات الحياة بمظاهرها المختلفة من دين وسياسة، هو تشكيل آخر يرسم الإنسان بالكاميرا، والمفارقة أن حامل الكاميرا يقدم الإنسان في مواجهة الإنسان بالعودة إلى الطبيعة ليستمر في العيش.
يأخذنا الفيلم الثاني “هدية من الماضي” إلى السينما الحديثة الواقعية، والكاميرا المتحركة، فيلم يتخذ من الهروب إلى الماضي جزءا من إعادة بناء الذات، أن نعود إلى الماضي لتصحيح المسار أو إعادة تشكيل ما انكسر في داخل الآخر، جرح، فقد، فراق بلا مبرر، كلها أسئلة يطرحها ويجيب عنها الفيلم الذي أخرجته كوثر يونس.
ما بقي أن يقال.. أشياء بقيت عالقة
تبحث الشارقة عن كتابة اسمها في سجل الفن العالمي وهذا مشروع طموح يباركه مجتمع الفن أولا وأخيرا، ولكن كتابة اسم في مجال التشكيل يتطلب الكثير من الجهد والأفكار، فالفن التشكيلي المعاصر يتطلب أن يخلق من قلب البينالي الأفكار الجديدة، الأفكار التي تتجاوز “البينالي” وقد تجسد في مكان آخر. افتقد البينالي لحلقات النقاش والورشات متعددة الأطراف والجوانب وبمشاركة من مختلف الجنسيات حول موضوع يتبلور بمشروع خلاق يقدم باسم الشارقة ويطرح في معارض أخرى ويسجل باسمها وليس بالضرورة في الشارقة، ومن بين النقائص عدم وجود التواصل بين الفنان وجمهور الفن الحاضر في “البينالي”.
تفتقد الشارقة كمدينة حديثة حاضنة لتظاهرة “بينالي”، تأخذ يوما بعد يوم بعدا عالميا، في مظاهرها وتزيين شوارعها وطرقاتها للأعمال الفنية التشكيلية خاصة الفن التشكيلي المعاصر الذي أصبحت أعماله أهم ما يميز ديكور المدن الحديثة وتصميمات مبانيها، وكأن المدينة تقاوم التقليد بفتح المجال للتحديث لكن في الفضاءات المغلقة، ولم تنزل إلى الفضاءات المفتوحة على الجمهور، رغم أن التشكيل يحب الفضاء المفتوح والعرض الحي ومن بين فضاءاته المدينة ذاتها والتي تخلو تقريبا من أي مظهر أو وجود للأعمال الفنية التشكيلية، ومع ذلك قد يتم تدارك هذه النقاط مستقبلا، لأن الشارقة لا تريد أن تتوقف عند هذه الخطوة وهي حسب ما يلاحظ على أرض الواقع، وربما الأمر يخص الإمارات ككل، فهي كل يوم في خطوات عملاقة نحو تحقيق مشاريع وأفكار تتعلق بالفن والثقافة.
الخبر
التشكيلي تعقيد آخر، فالفن ينتمي وينحني لمن يمنحه أكثر، لمن يفتح له أبواب ومساحات وفضاءات التواجد والانطلاق، ليتحرر ويعبر عن نفسه في أشكاله المختلفة دون قيد. من هذه المقاربة تسعى الشارقة، كمدينة حديثة عبر مهرجانها الفني العالمي “بينالي” الشارقة، للالتحاق بالركب، رغبة في حجز مكان واحتواء فضاء لفن غير قابل للاحتواء، متجدد، عبثي وجنوني لا يعترف بالنسق التقليدية، ولا يحده مكان. وبقدر ما هو صعب، استفادت الشارقة من هذه الخاصية للفن التشكيلي، وجعلت من حيز مكاني، كان لوقت ليس ببعيد صحراء قاحلة، فضاء مفتوحا بالمعنى الفني للفضاء والمعنى الإنساني أيضا.
رفعت مؤسسة الشارقة للفنون تحدي الريادة في الثقافة والفن بمفهومهما العميق الذي يلامس كل أشكال الفنون ببعدها العالمي والإنساني، لتجعل من الشارقة مدينة الفن المعاصر في السنوات القليلة الأخيرة. وعكس مدينة دبي التي تعتمد سياسة الضربة القاضية أي الإبهار السريع المكثف والمحدود زمانيا، أرادت الشارقة أن تأخذ طريقا مغايرا وهو الديمومة والتشكل المستمر، بأن تشرق من المكان الصعب على كل الأمكنة، والفرق بين الإبهار والإشراق، كالفرق بين طلوع الشمس الدائم والوجود والضروري والممتد والإنساني وومضة البرق التي تشبه ضربات “فلاش” آلة التصوير المرتبط بحدث سريع مبهر أخاذ، بينما الإشراق دائم مستمر.
نتوقف مطولا ليس انبهارا بما تحققه الشارقة، ولكن معاينة واقعية وملموسة لما هو كائن وما سيكون. ف”بينالي” في طبعاته المتتالية حتى الطبعة الحالية رقم 13 وتحت عنوان “تماوج” حاولت من خلاله الشارقة أن تتجاوز الموج الذي يحدها جغرافيا لتبني لنفسها هوية عالمية تتماشى مع التطور التجاري والعمراني الرهيب الذي تعرفه وتطرح الأسئلة المستجدة في عالم الحداثة وما بعد الحداثة في التشكيل على الخصوص والثقافة والفن على العموم.
“بينالي”.. الشارقة وهويات عالمية
انطلق “بينالي تماوج” الذي افتتح فعالياته الجمعة برعاية الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي وتحت إشراف الشيخة حور بنت سلطان القاسمين، بمشاركة 74 فنانا من القارات الأربع في العالم وبتغطية إعلامية عالمية، من أفكار محلية تخص المجتمع الإماراتي ومحاولة احتكاكه بالفنون خاصة الحديثة منها، كما قالت الشيخة حور في لقاء معها. تنوعت وتشابكت إشكاليات “بينالي” ورسمت في حوارية جميلة صورة ترابط تبادل ومد وجزر بين الأفكار والأعمال والفنانين والجمهور، كالبحر الذي تصب فيه كل الأنهار، جامع ومتجدد ومتقلب، من السينما إلى المسرح، المعارض بمختلف أنماطها ومدارسها الفنية إلى العرض الأدائي مع فن الطبخ والتشكيل. يعرض “بينالي” أفكارا لشباب يقدمون قضايا العالم برؤى مختلفة ولكنها متناسقة، متجاذبة ومتصارعة في الوقت ذاته، وتنتهي في شاطئ واحد أو تبدأ كما هو الموج الذي أرادت القيِّمة كريستين طعمة أن تبلوره في مجموع من اللقاءات والنشاطات والأعمال.
لقاء مارس وإشكاليات التشكيل
حاولت اللقاءات الأولى أن تتطرق لموضوع حساس جدا مطروح في أغلب دول العالم وخاصة ما يعرف بالعالم الثالث أو النامي، تناول أحدها مفهوم الرغبة في الوجود وتحدي الوجود أمام متقلبات العصر وتجاذبات الرأسمال والسياسة في جدلية صراع البقاء، وإن لم يصل اللقاء إلى تقديم مفهوم واضح بسبب عدم تمكن المتدخلات (بينا تشي، وألاء يونس، ومها مأمون) من بلورة الفكرة وتبسيطها وربطها بأمثلة الواقع، طرح أسئلة جوهرية كيف للمؤسسات الثقافية على الخصوص أن تتعامل مع تغير الرغبات وحاجتها لتحقيق ابتغاء البقاء والصمود أمام الأزمات. وما أضر بعمق اللقاء انعدام النقاش بين المحاضرين والحاضرين من الفاعلين كحلقة تشارك تساعد في صمود المؤسسات الثقافية، بالإضافة إلى عدم وجود مسيرين لمؤسسات ثقافية يقدمون صورة عن مختلف التحديات والأهداف والأفكار المطروحة في هذا المحور، ما جعل الندوة تخرج بمجموعة من المفاهيم الفلسفية المبهمة بعيدا عن واقع يحتاج أكثر لخطط واضحة وعملية للخروج من أزمة الصراع من أجل البقاء أو على الأقل وضع خطط الإنقاذ السريعة.
تناولت الندوة الثانية لليوم الثاني موضوع تصور البينالي والتي قدمتها كريستين طعمة القيمة على البينالي، ولارا خالدي وزينب اوز والجزائري قادر عطية الذي يشتغل على مفهوم جديد يتحدث عن إعادة الانتماء للأشياء. واشتغل عطية على الحلي البربرية التي اكتشف أنها تحتوي على صور لبعض وجوه الاحتلال في الجهة الخلفية، وقال في تصريح ل“الخبر” إن الموضوع لم يكن اعتباطيا بل يعود إلى أشياء تتعلق باللاوعي، وأضاف أن الأشياء يعاد تشكيلها وفق هذا المنظور، كما لو أننا نأكل شيئا ثم نتقيؤه، لكن بصورة أخرى مختلفة، نحن نقوم بتشكيلها. وأضاف أن الفن المعاصر هو فن الدول المتخلفة والتي عانت من الاستعمار وتحاول اليوم أن تبحث عن ذواتها، من خلال إعادة إنتاج ما تخلف من حقبات الاستعمار لكن بطريقة تمثلها هي أكثر، مفهوم يشتغل عليه عطية أحد أهم التشكيليين في الفن المعاصر في الجزائر وخارج الوطن.
عروض خارجة عن المألوف..العالم برؤى التشكيليين
شهد اليومان الأولان تقديم عروض متعددة تزامنا مع البينالي تخص المسرح والسينما والفنون، بالإضافة إلى معارض الفنون التشكيلية التي تتواصل إلى غاية الاختتام. من بين العروض التي شدت الانتباه عرض “خمسة أقدام فأعلى”، وهو عبارة عن مقال صحفي متحفي يتناول موضوع الأنهار كمسار حياة وليس وجودا فقط، من الميسيسيبي في أمريكا إلى أنهار في كينيا وأخرى في آسيا والصين والهند وفي أوروبا، التايمز في بريطانيا والسين في فرنسا، الفجيرة في الإمارات العربيةالمتحدة وغيرها، وأنهار أخرى اختفت وأخرى ولدت من العدم. يعطي الكاتب ماريو غاسيا توريس، في مقاله المصور، الحياة للأنهار، ويقدمها كإنسان يولد، يحيا، يتطور، وقد يموت كما أن له اسما وانتماء وأوطانا وألوانا أيضا ويطرح فكرة التغيير وصراعها من أجل البقاء، كما أنها كالإنسان مرت بمآس وكانت سببا في أخرى ولديها أسرار لم تفصح عنها. الأنهار تغضب أيضا وقد تؤذي وقد تدمر وقد تضعف وتتلاشى، كان العرض جميلا وبرؤية فنية وجمالية راقية وقراءة مميزة حملت كل المشاعر وكأن الأنهار تروي بصوتها مسار وجودها وتكلمنا عبر مجراها. استطاع “ماريو غارسيا موريس”، من خلال العرض، أن يلمس مفهوم النهر والمجرى والحياة وصراع البقاء.
شدّ الحضور أيضا عرض “كوكينغ سيكشنزر” تحت مسمى “كلايمافور” ويعتبر من أكثر العروض بعدا إنسانيا وعمقا ومغزى يحمل دروسا للوجود الإنساني يتجاوز المكان، ويخترق الزمان في تصور رهيب لصراع بقاء حول فكرة العدم والتصحر والنهاية، في ديكور تشكيلي يعيد إلى مفهوم الانطلاقة “الموج والتموج”، في طريقة توزيع المقاعد وشكل الطاولات المتموج، لوحة فنية غاية في البساطة والجمال، رافقتها لائحة طعام شارك في تقاسمها الإعلاميون والفنانون على السواء، طعام غير مألوف من نباتات برية قادرة على البقاء رغم قسوة الطبيعة، نباتات الصحراء كالصبار، ونباتات البحار التي تستطيع العيش في المياه المالحة. وسبق العرض الحي والمباشر مقدمة راقية للمصمم، يمكن تلخيصها في هذه الجملة “بينما هناك في العالم خاصة الشمال أو الغني من لديه الخيار أن يكون نباتيا أو يأكل اللحم، وبينما في الجنوب أو الدول الفقيرة من يسأل كيف نحصل على الأكل”. يعالج العرض محاور عدة تتشابك في خطورة تهميشها أو عدم الاهتمام بها وهي “البيئة، التبذير، العودة إلى الطبيعة، الإحساس بالآخر الفقير”، وينذر مما قد نصل إليه في حالة الاستنزاف الدائم لما في الطبيعة وعدم الاهتمام بمسألة التقلبات المناخية، وكأنه يقول هذا ما ستأكلون إن تناسيتم الطبيعة.
السينما والمسرح.. تشكيل في تشكيل
لم تغب السينما في تجديدها وبحثها في العمق البشري وآلامه ومصائره وحتى أحلامه الممتدة عبر الزمن. ففي الفيلم القصير “خطوة خطوة” لأسامة محمد من 28 دقيقة والذي صور بمنطقة في سوريا، يقدم مخرجه إشكالية صراع الوجود أمام تحديات الحياة بمظاهرها المختلفة من دين وسياسة، هو تشكيل آخر يرسم الإنسان بالكاميرا، والمفارقة أن حامل الكاميرا يقدم الإنسان في مواجهة الإنسان بالعودة إلى الطبيعة ليستمر في العيش.
يأخذنا الفيلم الثاني “هدية من الماضي” إلى السينما الحديثة الواقعية، والكاميرا المتحركة، فيلم يتخذ من الهروب إلى الماضي جزءا من إعادة بناء الذات، أن نعود إلى الماضي لتصحيح المسار أو إعادة تشكيل ما انكسر في داخل الآخر، جرح، فقد، فراق بلا مبرر، كلها أسئلة يطرحها ويجيب عنها الفيلم الذي أخرجته كوثر يونس.
ما بقي أن يقال.. أشياء بقيت عالقة
تبحث الشارقة عن كتابة اسمها في سجل الفن العالمي وهذا مشروع طموح يباركه مجتمع الفن أولا وأخيرا، ولكن كتابة اسم في مجال التشكيل يتطلب الكثير من الجهد والأفكار، فالفن التشكيلي المعاصر يتطلب أن يخلق من قلب البينالي الأفكار الجديدة، الأفكار التي تتجاوز “البينالي” وقد تجسد في مكان آخر. افتقد البينالي لحلقات النقاش والورشات متعددة الأطراف والجوانب وبمشاركة من مختلف الجنسيات حول موضوع يتبلور بمشروع خلاق يقدم باسم الشارقة ويطرح في معارض أخرى ويسجل باسمها وليس بالضرورة في الشارقة، ومن بين النقائص عدم وجود التواصل بين الفنان وجمهور الفن الحاضر في “البينالي”.
تفتقد الشارقة كمدينة حديثة حاضنة لتظاهرة “بينالي”، تأخذ يوما بعد يوم بعدا عالميا، في مظاهرها وتزيين شوارعها وطرقاتها للأعمال الفنية التشكيلية خاصة الفن التشكيلي المعاصر الذي أصبحت أعماله أهم ما يميز ديكور المدن الحديثة وتصميمات مبانيها، وكأن المدينة تقاوم التقليد بفتح المجال للتحديث لكن في الفضاءات المغلقة، ولم تنزل إلى الفضاءات المفتوحة على الجمهور، رغم أن التشكيل يحب الفضاء المفتوح والعرض الحي ومن بين فضاءاته المدينة ذاتها والتي تخلو تقريبا من أي مظهر أو وجود للأعمال الفنية التشكيلية، ومع ذلك قد يتم تدارك هذه النقاط مستقبلا، لأن الشارقة لا تريد أن تتوقف عند هذه الخطوة وهي حسب ما يلاحظ على أرض الواقع، وربما الأمر يخص الإمارات ككل، فهي كل يوم في خطوات عملاقة نحو تحقيق مشاريع وأفكار تتعلق بالفن والثقافة.
الخبر