إن كان بعض الشعراء العرب يعتقدون بأن الشعر هو
ابن الخوف، وما إن ينقشع الخوف في ذات الشاعر وتتغير الظروف حتى يخبو الشعر، فإن الشاعر
الأميركي
تشارلز سيميك يقول “إن التكهنات بموت الشعر، التي نقرأها كثيراً، خاطئة تماما”،
هذه وجهة نظر طرحناها للنقاش. رغم أن الشعر ليس مطالبا بقول كل شيء يحدث، أو دفع التهم
عنه بأنه أداة الطبقة الحاكمة، نستطلع هنا آراء شعراء ونقاد، قد تتفق مع سيميك وقد
تختلف معه
يرفض الكثير من الشعراء العرب مسألة الموت السريري
للشعر، باعتباره جنسا كتابيا قد يشهد ازدهارا أو إخفاقات بسبب عوامل عدة، منها مثلا
اتجاهات المتلقي القرائية أو التحولات المجتمعية. وهناك سبب آخر يطرح على عدة منابر
ثقافية وهو انصراف الشعراء إلى كتابة الرواية.
نزوح مؤقت
يقول الشاعر المصري محمد الحديني “الكتاب الورقي
أم الكتاب الإلكتروني؟! السينما أم المسرح؟! الشعر أم الرواية؟! هي ثنائيات أو مزواجات
تقع عند طرفي المنحنى وتفتح الباب لمساجلات وأطروحات لا تخلو من تشنج أو تعصب عند أنصار
الفريقين. الشعر هو الجنس الأدبي الأكثر مرونة وسرعة في الاستجابة لما يطرأ على العالم
من أحداث وتطورات ومن ثم فهو لسان حال الإنسان”.
يتابع “أما الرواية فلا شك أنها الأكثر رواجًا مؤخرًا
على صعيدي النشر والنقد، وربما كان السبب في ذلك فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب
وتدشين جوائز عربية قيّمة شجعت الكثير من المبدعين ومنهم شعراء على كتابة الرواية بغية
المنافسة والفوز. الرواية تقوم على علاقة جدلية بين الكاتب والقارئ العادي والمثقف
على السواء، لأنها تشركه بداخلها، وهو ما جعلها الأقرب إلى أن تُصاغ في أعمال فنية
على شاشات التلفزة والسينما وهذه الميزة غير متاحة للشعر”.
ولكن يتساءل الحديني هل يعني ما سبق أن الرواية
أفضل من الشعر، أو العكس؟ حيث يرى أن لكل جنس أدبي رؤيته للعالم، وطريقة كتابته، ومُدخلاته
وتفاعلاته ومخرجاته ونمط علاقة خاصة جدًا يخلقها مع المتلقي.
يضيف الشاعر “لو وسعنا رقعة النظر لوجدنا أن الأجناس
الأدبية لا تتداخل وتتشابك فقط، بل أضحت تفرز أجناسًا أخرى ولنا في القصة خير مثال
على ذلك حيث جاءت منها القصة القصيرة والأقصوصة والقصة القصيرة جدًا والومضة القصصية
والقصة اللوحة والقصة المسبحة والمتتالية القصصية، كما ظهرت الرواية الشعرية أيضا منذ
عدة سنوات. ومن رحم الشعر خرجت قصيدة النثر والقصيدة السردية والخاطرة الشعرية، والقوس
لا يزال مفتوحًا وأظنه لن يُغلق أو ينغلق أبدًا”.
ترفض الشاعرة العراقية كولالة نوري أن يكون هناك
موت لأي جنس أدبي، وتوضح “هذا تعبير غير صحيح. لم أسمع مثلا بأن المسرح مات وعمره الآلاف
من السنين، والذي كان مرفقا بالشعر في مراحله الأولى وحتى الآن في بعض عروضه. إذا كنا
نقصد بالموت ألا يكتب أحدا ذلك الجنس من الكتابة، فهذا شيء خارج منطق الكتابة أو الواقع،
سواء كان شعرا أو نثرا باتجاهاتهما وأنواعهما، ولم ينته أو يدفن الشعر في حياتنا ولم
يختف الشعراء. لكن إذا أتينا لاهتمامات القراء في جانب معين أو فترة معينة بالرواية
على حساب الشعر فهذا شيء طبيعي والعكس قد يحصل. إذن أقصى ما نستطيع قوله عن هذه الحالة
هو أن جذب الرواية أكبر من الشعر، هذا أولا. لكن ربما الشاعر تشارلز سيميك كان يتحدث
عن الشعر في أميركا أو بلدان أوروبية، هكذا أؤكد ما ذهب إليه سيميك، وبعد اطلاعي على
الكثير من الشعر غير العربي الحديث في أوروبا أو أميركا فإن الشعر هناك في حركة مستمرة،
فهناك دور المكان بجانب نفسية القارئ في ذلك المكان ثم الزمن”.
وعودة إلى كلام سيميك، ترى نوري أن هناك تناوبا
في اهتمام القراء بجنس أدبي أكثر من جنس أدبي آخر في فترة معينة، ولا يمكننا الحديث
عن موت جنس كتابي، لكن اهتمامات القراء غير ثابتة.
وتؤكد ضيفتنا أن الشعر فقد جزءا من أسباب انتشاره
الواسع في العالم العربي، والسبب ابتعاد معظم الشعراء عن الشعارات البراقة المناصرة
لقضية ما، لأن الشعر كان لسان حال الناس قبل انتشار وسائل الاتصالات الحديثة، لكن الآن
قد تم تخفيف هذه المهمة بشكل كبير، لوجود الكثير من وسائل الصوت والصورة دون الحاجة
إلى تلميع الشخصيات أو الأفكار أو اللجوء إلى الزخرفة اللفظية لإيصال فكرة الشعار السياسي
أو الاجتماعي أو الثقافي. هذا أيضا لا يعني موت الشعر بتاتا، فوسائل الاتصال من فضائيات
أو شبكة الإنترنت ولدت نوعا من نزوح جزئي نحو الاهتمام بالحكي أو ما يرويه الناس من
قصصهم أو قصص سمعوها أو شاهدوها، وربما لتضخم الحكايات الحياتية المثيرة للبشر في عصرنا
الحالي، وتنوعها وحاجة البشر بصورة عامة لروايتها. لعدم قدرة الشعر على اختصار كل هذا
الكم من القصص والتجارب التي توسعت بحكم تطور الحياة العصرية وتنوع مشارب الفكر الإبداعي
والعملي وتغطيتها.
ويتفق المترجم المغربي أحمد لوغليمي مع رؤية الشاعر
تشارلز سيميك، ويقول “قد يكون عصر ما عصر الرواية، ولكن كل العصور هي عصور الشعر، لا
تستطيع الرواية أن تجحد فضل الشعر في نفحها دروس الخفة، الرقة، الشفافية، الدهشة… وما
يليها من أنساغ. الشعر لا يموت مطلقا، الشعر ليس شعبية الشعر، هذه الأخيرة قد تضمر
أو تثرى حسب الأمكنة والأزمنة، ولنا أن نتأمّل جمهور الشعر في بعض دول أميركا اللاتينية
أو في أوروبا، في إيطاليا وأوروبا ما زالوا يكتبون الشعر بلا هوادة، ويترجمونه بهدير
شلال. وما زال اليابانيون يحيون الشعر كطقس يومي، يخرجون بالملايين لتأمل الأزهار والاحتفاء
بها، يجسدونه في طقوس الشاي، في فن تنضيد الأزهار، وغيرها”
يقر لوغليمي بأن الشعر سيبقى ما بقيت الحياة؛ فالحياة
سؤال يحاول الشعر الإجابة عنه. لذا سيبقى من حيث كونه تعطّشا إلى الحقيقة كما يقول
أليساندرو ريفالي، وبما أنه دهشة الكائن الهش أمام الأوجه المتعددة للحياة: الملغزة،
المدهشة، المرعبة، الجميلة…إلخ سيبقى ما بقي هذا الكائن الذي يحاول حسب إيتالو كالفينو
“أن يسكب البحر في القِمْع”، ولأنه يجعل الناس أقل تعاسة.
عكاظ جديد
يقول الشاعر المصري هشام الصباحي، مؤسس ومحرر موقع
كتاب الشعر، “عندما بدأت في تأسيس موقع كتاب الشعر كانت لديّ وجهة النظر التقليدية
نفسها، التي يتم الترويج لها، وهي أن الشعر مات وأننا في زمن الرواية بالفعل أو على
أقل تقدير هو في طريقه إلى الفناء النهائي، وكان هذا هو الدافع الأكبر لتأسيس الموقع
وتحمل تكلفته على مستوى المادة ومستوى التطوع والاشتغال عليه عدة ساعات. وبدأ الأمر
يتكشف وبدأت هذه الرؤية تثبت خطأها، وعلى مدار 5 سنوات من عمر التجربة ربما يكون الاتفاق
مع الشاعر تشارلز سيميك على ‘أن كل ما يقال بخصوص موت الشعر وأننا نعيش زمن الرواية
مجرد تخمينات’، بل هي أيضا آراء خاطئة تدل على توقف صاحبها عن التطور والتفاعل مع مستجدات
هذا العصر وعلى رأسها الإنترنت وتحديدا الفيسبوك”.
وتابع الصباحي “يعيش الشعر ويزدهر في أمكنة أخرى
فضلا عن الندوات الثقافية أو أرفف المكتبات التي تنتظر القارئ أن يشترى كتابا. لقد
وجدت سوق عكاظ الجديد فاعلا ونشيطا على موقع الفيسبوك، قابلت خلال 5 سنوات -هي عمر
موقع كتاب الشعر- ما يقارب 5 آلاف شاعر على مستوى الوطن العربي، لكل واحد منهم قسم
يخصه على الموقع. وجدت قامات شعرية مهمة تكتب الشعر بشكل يومي، وتعلقه على حائطها في
الفيسبوك، فيتجاور مع أجيال متعددة وأصوات شعرية جديدة منها على سبيل المثال وديع سعادة،
وصلاح فائق، وسعدي يوسف، ومحمد عيد إبراهيم، وحسن طلب، وجمال القصاص، ومحمد حربي، وإبراهيم
البجلاتي، وشريف رزق، وغيرهم كثيرون”.
ويلفت الصباحي إلى أنه كل يوم يأتي وافد/شاعر جديد
إلى الفضاء الإلكتروني، ليكون هذا الفضاء حالة متنوعة في الشعر من بداية الخاطرة الشعرية
إلى قصيدة النثر، في تجاور وتعدد حر يجبر الجميع على التعددية الشعرية.
لذا يقر الشاعر بأنه إذا كان التصور أن الشعر قد
مات ربما يكون مات بدرجة ما ورقيا ككتاب يمكن شراؤه من المكتبات، ولكنه نشيط جدا وحيوي
جدا على فضاء الإنترنت ككتاب إلكتروني، وهناك تجربة فريدة في هذا الأمر حيث قام الشاعر
الفنان التشكيلي العراقي ناصر مؤنس صاحب دار مخطوطات بإصدار عدد كبير من دواوين الشعر
بالوجهين؛ القديم (الكتاب الورقي) والجديد (الكتاب الإلكتروني) الذي يتوفر على الإنترنت
عن وعي خاص بأن الاثنين يتكاملان ولا يتضادان، حيث لا يكون وجود أحدهما فناء للآخر.على
هذا المنوال يكون واضحا أن الشعر ينشط وينتج في أماكن أخرى ذات طابع متجدد وتطويري.
الشعر هو الجنس الأدبي الأكثر مرونة وسرعة في الاستجابة
لما يطرأ على العالم من تطورات فهو لسان حال الإنسان
ويوضح الصباحي أنه دلالة على ازدهار الشعر بشكل
مختلف، يجب أن يعرف البعض أن هناك نوعا من الشعر وجيلا يصنع حفلات شعرية بمفهوم الحفلة
وليس بمفهوم الندوة، هذه التجربة تهتم بإلقاء الشعر مع مصاحبة الموسيقى. وحضور الحفلات
يكون بتذكرة مدفوعة الثمن، وهي تجربة جديدة ومهمة.
الكفة تميل
الناقد العراقي عبدالغفار العطوي يرى أن الشاعر
تشارلز سيميك ربما يعتبر، في تعقيبه على فكرة أن زمن الشعر ما زال فاعلا، أن هذا من
باب الهروب إلى الأمام، من ناحية أن كل الشواهد الثقافية والأدبية تمضي نحو القول إن
الشعر لم يعد سيد الكلمة، وإنه قد فقد الكثير من معاقله وحصونه، بسبب المنافسة الشديدة
للرواية التي احتوته وضمته إلى تقنياتها. لم تواجه بردة فعل واضحة من قبله، بل تراجع
إلى الوراء، وتقدمت الرواية لتجد نقاد الأدب خاصة في ميدان جماليات التلقي وشيوع مناهج
القراءة يؤكدون على أن السيادة باتت للرواية التي نادت بها مدرستا بوردو وكونستانس،
وقال ياوس إننا نعيش عصر الرواية، واهتم نقاد الأدب في الغرب أمثال كايزر واسكاربيت
وكلر وبرنس وسابير وفش وايكو إلخ، بعالم الرواية انطلاقا من عالم القراءة ووصفوها بأنها
وسيلة العصر في استقبال المعارف التي تجاوزت الثقافات وربطت أطراف الأرض.
يتابع العطوي “بينما انكمش الشعر في فضاء الذات
الإنسانية، يعالج الهموم الخاصة بالإنسان المحلي، بغياب فكرة التواصل فيه بين قطبي
الانفعال؛ الذات والآخر، وتحولت ثورة السرديات الكبرى والصغرى إلى موجة من التواصل
والتراسل والتلاسن بين الأفراد والجماعات والمجتمعات، فلا شك في أن الكفة ستميل إلى
القول إننا نعيش عصر الرواية في اتساع رقعة اهتمامات الجمهور بها علانية والانزواء
إلى عالم الشعر خلسة، ولعل الروائي العالمي أورهان باموك قد تحدث في كتابه الروائي
الساذج والحساس عن أن الرواية حياة ثانية تخلق العالم من جديد بينما يمتنع الشعر إلا
في صنع أخيلة لا يمكن الركون إليها”.